“أيّها الملك ألكينوس، يا أجلَّ مَن في هذه الأمّة، إنّ من الرائق الإصغاء إلى أهازيج أحيدوس هذه، شبيهٍ بالآلهة في صوته (…) فالفرحة تعُمّ الشعب كلَّه، ومعه ضيوفكَ المصطفّون قُعوداً في حضرتك، وهم يستمعون لأحيدوس. والموائد مليئة بالخبز واللحوم، والساقي يَغْرِفُ النبيذ من زهرية الكراتر، يملأ الأكواب ويسقي“.
هوميروس، “الأوديسة” – النشيد التاسع.
***
Larghetto
بعد غيابٍ دام عشرين عاماً، أخذتُ الطائرة من فرانكفورت إلى مرّاكش. منذ وصولي، لم تتوقّف العواصف الرملية والسيول عن اكتساح الشوارع والبساتين والبيوت، وذلك مألوفٌ في مناخاتٍ شبه جافّة كما هو الحال هنا في إقليم الحوز، خاصّةً خلال شهر سبتمبر. لَزَمْتُ الفندق المُحاذِي لمحطّة القطار حديثة البناء بحيّ “چيليز”، لا أُغادر الغرفة لما يقارب الأسبوع. كان الشكّ يلتهمُني، ولم تكُن العاصفة في الواقع سوى حُجّة أحتمي بها من مخاوفي القديمة بخصوص الحضارة وانحدارها.
بقيتُ أُطلّ من الشرفة على شارع فرنسا، أرى المدينة غارقةً في العجَاج والدخان، ومِن خلف أشجار النخيل المنتصبة جنب البنايات، تطفو قبّة حمراءُ خمريّة تسكنها اللّقالق. لقد كان تصاعُد الغبار الكثيف، وهرولة الناس في تلك الليلة، شيئاً شبيهاً بمَشاهد حريق المسرح البلدي عام 1956، كما اطّلعتُ عليها في وثائق فيلمية مُندثرة الآن.
بمجرّد ما تلطَّف الطقس وتراجع قلقي، تذكّرت صديقاً كان لي في تلك المدينة. كنّا نرتاد، برفقة أصحاب آخرين، حانة في درب الصبليون، تُدعى “المنضدة الأندلسية”، على مقربة من “صالة كوليزي”. “الخِلاّن هُم من يَصمُد للبقاء بعدما تتخرّب الأوطان“، هكذا كنّا نُردّد عند انتهاء أغنية مجموعة “لمشاهب”. كان ذلك الصديق يعمل بقسم الراديولوجيا في المستشفى العسكري، وكان يهوى الفوتوغرافيا ويُدمن لعب القمار. لم أعرف أبداً اسمه، ولم أسأل عنه، لكنّي كنتُ أحبّ مناداته بالراديولوغ. كان طويل القامة، مُقِلاًّ في الكلام، ساخراً في الخطاب، يحمل دائماً كرّاسة دراسية عن مادّة العظام والمفاصل، ويُخرجُ مِن حقيبةٍ جلديّةٍ سوداءَ ملفّاً ورقياً تملأه صُوَر أشعّة سينية، ظهرَت عليها سيقان وأعمدة فِقريّة مكسورة.
في تلك الفترة، كنتُ أشتغل بالخزانة البلدية. أقضي النهار في تغليف الكتب وفهرستها، وأُخصّص المساء للتسكُّع بين ساحة جامع الفنا وقاعات السينما والبارات. كان البلد بأكمله يَضُجّ بالفرجة والبؤس والترقُّب.
1971، هو عام عرْض مسرحية “مقامات بديع الزمان” للطيّب الصديقي، وهو أيضاً عام الانقلاب على الملك الحسن الثاني بقصره في الصخيرات. جلسنا، عشية المحاولة الفاشلة، وكان بيننا شارل بوكّارة الذي سيتعرّف للمرة الأولى على الراديولوغ. كان شارل شاباً وجيهاً، معماريٌّ في بداية مساره المهني، يتحدّث الفرنسية والإيطالية، بالإضافة إلى إتقانه عامية المغاربة، على اعتباره تونسياً انتقل للعيش في كازابلانكا خلال طفولته… لمّا سكر الراديولوغ، وهو عادةً ما يسكر، شرع في محاكاة مشهد القرد مع قرّاده، مؤكّداً أنه يُقلّد لنا الوضع الحرج الذي كان عليه المطرب المصري عبد الحليم حافظ عصر اليوم، عندما اقتحم الضُبّاط مبنى الإذاعة الوطنية في الرباط وحاولوا إجباره على قراءة بيان الانقلاب. ضحكنا وأجمعنا على أنَّ الراديولوغ ليس راديولوغاً، وإنما هو ممثل كوميدي لا يجب أن يأتمنه الناس على عظامهم.
Largo
مرّت الشهور، وتقوّت علاقتنا نحن الثلاثة، ولم يستغرب أحدٌ مِن ذلك رغم اختلاف طباعنا ومجالات عملنا. كنّا قد سمّينا الصداقة خيمة، واتفقنا أنّ البشر لا يسكنون إلا بعد طول تشييد. اشتهر شارل في المدينة، وأوْكل إليه المسؤولون تصميم بناية المسرح الملكي، بداية السبعينات على الأرجح. كان وقتها يسكن بيتاً في حيّ “إيسيل”، ودعاني لزيارته، وحرص على دعوة الراديولوغ الذي اختفى لمدّة ثم عاد. أمّا بقية المدعوّين فكانوا مجموعة من التشكيليّين والمعماريّين الذين تعرّف عليهم شارل أثناء إقامته في باريس، أيّام دراسته بأكاديمية الفنون الجميلة. لم أكن مرتاحاً. كنت أمشي وأجيء بين الصالون والمطبخ، على طول الردهة، أقذف كؤوساً متتالية من الدْجِنْ في جوفي. لعلّها كانت أزمة الثلاثين.
عندما بدأ شارل في الحديث عن مقترحه للمسرح الملكي، انزويتُ إلى ركن الصالون لأُصغي إلى أغنية محمد الحياني الجديدة “راحلة”. كنت أراقب الراديولوغْ وقد انطوى على نفسه شارداً في آفيش فيلم أميركي، وكان فخر شارل يتزايد مع كل رسم أو خطاطة يعرضها أمام ضيوفه. لا يختلف اثنان على عبقرية صديقنا، فتصوُّره للبناية وترجمته الغرافيكية لها مُتميّزان، بأسلوب موريسكي وإحالات على المعمار الهيليني والروماني. قال شارل: “… ولن أكتفي بالمُدرّجِ الكبير المفتوح على السماء، بل سأشيّد صالة أوبرا بثمانمئة مقعد مع بلكونات فاخرة، ترفعها أعمدة رخامية، وتزيّنها نقوش من الجبس والخشب”.
تَمتمتُ بأن مشروعاً مثل هذا ضروريٌّ لنهضة الشعب، لكن الراديولوغ بدا ممتعضاً من كلمة شعب، ومن الحديث كلّه، وبقي يلوكُ لسانه كأنه يبلع تعويذة شيطانية خافها أن تمسّ العالم. فتح الراديولوغ الحقيبة الجلديّة، وبدأ في إخراج صُوَر ادّعى شراءها من ابن باشا مرّاكش، حسن الڭلاوي، الذي صار رسّاماً شهيراً للخيول وفن الفانتازيا، بعد تشجيع كبير من ونستون تشرشل. كلُّ ما في سلسلة الصور تلك كان يدعو على الخوف والرهبة حقّاً، فقد كانت مُلخصّاً بصريّاً لأحداث حريق المسرح البلدي، وظهر في إحداها رجال مُلثّمون يصبّون الزيت على النار. بقي الراديولوغ يشير إلى شارل، كأس نبيذه بيد والصور باليد الأخرى، وهو يردد فيما يشبه الوعيد:
“سيحرقون أعمدتكَ الرخامية، كما أحرقوا روما، ومكتبة الإسكندرية، والمسرح البلدي“.
كان المدعوّون يتوافدون على مدار الساعة، وبقيتُ أُهدِّئ من روع الراديولوغ وأنا أخبره أنّ الفن موشوم على الجسد، وأنّ الأشكال الفرجوية المحلية لا تحتاج مسارح ودُور أوبرا ما دامت متداولةً وشائعة في الساحات العامّة.
“هاد الشي اللّي قلت. يلزمنا الانعتاق لا الفرجة (…) علاشْ يقولوا عليّا سكران؟” تلعثم بالقول، وزادَ يردّدُ قبل أن يغفو على الكنبة: “شواظٌ ونحاسٌ فلا تنتصران“.
عند منتصف الليل، دخلَت فتاة تُدعى كاثارينا، باحثة في أنثروبولوجيا الشعوب بجامعة ألمانية، تتعقّب أثر موسيقيّ أمازيغي من بلدة آزرو. هكذا قدّمت نفسها، ووجدَتنا على ذلك الحال. كانت شابّةً في بداية عقدها الثاني، يكسو النمشُ وجنتيها ورقبتها، ولها ضفيرة محبوكة بعناية فائقة. اقتربتْ كاثارينا من زاوية الصالون، حيث كنتُ أجلس، وانحنتْ نحو الفونوغراف كأنها تتحقّق من شيء ما. انعكس ضوء عينيها الرماديتين على أسطوانة أخرجَتها من غلاف ورقيّ سميك. ظهر على وجه الغلاف رجُلٌ مغربي بجلباب وبرنس.
“إنه أولحسين أشيبان، أشهر أحيدوسْ منذ فيميوس في بلاط أوليس“. قالت كاثارينا بنبرة اليقين.
أحببتُ صوتها، وأردت أن أسمع عن حياتها، لكنها كانت كتومة. جعلتني تنّورتها الطويلة، وصليبُها المُتدلّي بين نهديها المُكوّرين، أفترض أنها كاثوليكية محافظة وعمليّة، لا تشاركُ الأغراب أسرار العائلة.
“أحيدوس فنّ غنائي لا يتلخّص في قائد المجموعة. إنها كوريغرافيا متكاملة تجمع امتداد الشدو بخلاء العمران“. هكذا قلتُ لأشدّ انتباهها. لكن كاثارينا تفطّنتْ للغزل المُبطّن في كلامي، وابتسمَت وهي تشرح لي أن بحثها أكاديمي، لا يدخله الشعر إلّا من باب الاقتباس والتحليل: “تقصدُ، امتداد الشدو في خراب المعمار. أحيدوس شبيه بأحواش عند أمازيغ الجنوب، لكن أحداً لم يوضّح لي معنى هذه الكلمة المسربلة بالسّين، بالإضافة إلى كلمة أُخرى هي بلاّرج!”. على الرغم من شرودي الواضح وهي تتهجّى حروف عباراتها، كأني دائخٌ أو مسحور، فإنّ كاثارينا استرسلت في شرحها: “وجدتُ في بعض القواميس أنّ أحيدوسْ كانت إلهة مُلهمة في الأسطورة اليونانية، وهي ابنة تزوس، ثم أصبحت في تراث هوميروس مطرباً يجوبُ الجزر وسِمْسِميّتُه على كتفه“…
مع طلوع الفجر، لم يكن أحدٌ منا قد نام بعد. بقي الراديولوغ يُعيد تمثيل مشهد القرد والقرّاد بحركات بهلوانية مُسلية، وفيما كنت أحكي لكاثارينا خرافة القاضي المرتشي الذي مسخه الله لَقْلَقاً ليُطهّرهُ، كان شارل يستذكر مع رفاقه دقّة المُخرج في تصوير مشهد محاولة اغتيال مسؤول بريطاني داخل قاعة ألبير في لندن. فهمتُ من شارل لاحقاً أنّ كاثارينا لم تأت هنا للسّهر أو لدخول مغامرات جنسية مع رعاة الإبل والهيبيز الذين ملئوا البلاد بكليشيهات “جيل لْبِيتْ”، وإنما جاءت خصّيصاً للدفاع عن برمجة فرقة موحى أولحسين خلال حفل الافتتاح الرسمي لأوبرا المسرح الملكي، المرتقب بعد اختتام أعمال البناء.
Ein wenig schnell
عقب الاحتجاجات الشعبية عام 1981، توقّفت الأشغال بالمسرح الملكي، وانقطعَت أخبار الراديولوغ. كانت الإشاعات مختلفةً بشأنه، فثمّة من قال إنه تورّط في مؤامرة سياسية على القصر، فاستبعدته السلطة إلى أحد المعتقلات المترامية على أطراف الصحراء الشرقية لتأديبه، وهناك من رجّح انتقاله للعمل كمسؤول على العروض في سينما الريف بطنجة، لكن شائعة أُخرى روَّجت لاحتجازه في مستشفى الأمراض العقلية الشهير بالرازي بعدما قذف الناس بالحجارة. لم يشرح لنا أحد سبب ذلك، لكننا لم نتعجّب.
حينذاك كنتُ قد حصلت على وظيفة في المكتبة الوطنية بالرباط، وكان راتبي يسمح لي بالسفر والاستجمام. كنتُ أربي قطّاً وسلحفاة تعتني بهما جارتي كلّما ذهبت إلى مُرسية أو بوردو لأرتاح. بعد عودتي من آخر رحلة، وجدتُ رسالة طويلة من شارل يُخبرني فيها، مِن بين ما يخبرني، أنه وحيد وحزين مثلي، رغم المنحى الذي تأخذه حياته في هذه المرحلة. كتب بالحبر الصيني على ورقة الكوشيه: “لقد انسحبتُ نهائياً مِن مشروع البناية الملعونة، ولم أندم على ذلك، فقد استأنفتُ بحثي عن نافورات فاس في العهد المريني، وأُنهي بناء قصر صغير يمتدّ على مساحة مئتي متر. أغبطكَ على قناعتكْ. تعال لنشرب نخب الغائبين، وانزلْ مع صاحبة الضّفيرة إلى المسبح“.
لم يحتو الظرف البريدي على رسالة شارل فحسب، فقد كانت مرفقة بدعوة على شكل مطويّة، كُتب عليها بخط مُغلّظ المايسترو، وظهر أولحسين أشيبان يرفع بنديره باعتزاز، مثلما فعل في الحرب الثانية، وهو يحمل كاربينة الـM1 إلى جانب الحلفاء ضد الفاشية في جبال الألب.
ما زلتُ أتذكّر لحظة وصولي إلى المسرح الملكي. كانت عربات الكوتشي تتوافد على المدخل، تحمل أقواماً من الأميركيّين والأوروبيّين. لمحتُ بينهم رونالد ريغان وقد كان في بداية عُهدته الرئاسية. بدت لي القبّة الحمراء الخمريّة مثل نهد بحلمة داكنة تعوم في النبيذ، وأحسستُ بالدُّوَارِ وأنا أتأمّلها، في عجز كامل عن تخطّي عتبة البوّابة.
فجأةً سحبَتني يدٌ من ذراعي، وسمعت لحناً أعرفه: “أتُرى، إننا نتخطّى الحدّ مرّتَين“. كانت كاثارينا. الوجه الملائكي المُرصّع بتويجات عبّاد الشمس، النحر المكشوف لسكاكين الآلهة المنصولة، والكُسّ النابض بالورع السّحيق. قلت لنفسي بأنَّ شيئاً لن يرضيني معها غير الفاحشة، بمعنى آخر دفعُ تخوم الحياء نحو سقفها، فالطهرانيّات هنّ الألذ عندما تتبلّلُ كيلوتاتُهن بالتحديق الطويل. انتهت السهرة، واقتربنا من الرّكح لتحية أولحسين أشيبان (أضع اليوم صورتنا معه على مكتبي)، قبل أن نركب الطاكسي إلى آخر ليلة قضيناها معاً في فيلا بوكّارة الكائنة بشارع يعقوب المنصور الذهبي.
Adagio
لا أحد يعرف كم مضى على غيابي، فالأسماء متطابقة لا تتغيّر والأعمار سائلة نحو الثقب، وهذه الحياة الهجينة كشفت أصحابي وأكسبتني نفسي. أحياناً، في السابق، كان الأرق والحمّى يجعلانني أعتقد بأنّي أعيش في حقَب أُخرى مع أناس آخرين، وكان هذا الوهم بمثابة أرجوحة ترميني وتستردّني. الآن تيقنتُ أنَّ الآخرين هُم من يعيش معي، ويتدثّر في حقبتي الخاصة. إنّ كل شيء ممكن، ولنا أن نستعيد مسار الزمن ومداعبة الكلب اللاهث، رغم وجاهة ادّعاء هرقليطس عن النهر.
كانت العاصفة قد هدأت تماماً. تناولتُ حبّة باراسيتامول وحاولتُ جاهداً، وأنا أنزل درج الفندق، التخلُّص من العصا التي أتوكّأ عليها، لكنَّ مضاعفات حادثة السير على كاحلي لم تتراجع أو تخفّ حتى، مع أني مواظب على حصص الترويض ومدمن على المهدّئات. جلستُ على ناصية زنقة القاضي عيّاض، أنتظر مجيء جُو نِعمة، الفنان الأميركي من أصل لبناني، الذي استعان بي لتأطير ورشة عن الذاكرة والسلطة في المسرح الملكي بمرّاكش.
لوّح لي جُو من بعيد وقال بصوته الخفيض مقترباً منّي، كأنه يلومني: “يا أيّوب، عليك أن تعيد الفحوص والأشعة، وأن تتخلصّ من عبء هذه الحقيبة“.
عبرنا بوابة المسرح الملكي نحو صالة الأوبرا. كانت القضبان الحديدية تخترق جدران الإسمنت، وصرير الجرذان ينبعث من غرفة جلس عندها رجل ستيني يدخن الحشيش. سألتُ جُو عن تفاصيل البرنامج وعن نسبة الحضور، فأخبرني أنَّ الورشة ستمتدّ لثلاثة أيام، وأنّ جميع المشاركين إمّا فنّانون أو باحثون في الفن، جاؤوا لإنجاز منشأة صوتية مستلهَمة من التراث الموسيقي المغربي، وأنهم سيلتحقون من مدن وبلدان مختلفة مساء اليوم، إلا واحدة تُدعى كوثر، لم تسمح أحوال الطقس لطائرتها بالإقلاع من مطار فرانكفورت.
أيّوب المُزيّن (فاس، 1988)
كاتب ومترجم مغربيّ. مدير نشر منصّة “طِرْسْ”