إهياضن: فوضويُّو سيدي أحمد أُو موسى
إلياس ترّاس
تُعرف فرقة أولاد سيدي أحمد أو موسى كواحدة من الفِرق الفنيّة التي تتبنّى عروض الألعاب البهلوانية والرياضية في الساحات العامّة وخلال المهرجانات الفلكلورية. تُعرف هذه الفرق أيضا بـ “الرما نْـ سيدي أحمد أُو موسى” أو بـ “إهْيَاضَنْ”، التي تعني الفوضويّين في اللّغة الأمازيغيّة.
يتنقل أولاد سيدي أحمد أو موسى بين الساحات والشوارع لأداء حركات الشقلبة وتشكيل الأهرام الآدمية بأجسادهم التي يصل ارتفاعها إلى عدة أمتار، تحوي أحياناً ستة أشخاص. يُنسب المؤدون أنفسهم لزوايا الرماية، كما يوحي الاسم الذي يتبنونه “الرما”، وإلى قطب التصوف الجزولي بتزروالت (ناحية تِيزنيت) أحمد أو موسى السملالي ((1460 – 1563).
لاحظ العديد من الباحثين الارتباط الوثيق بين فِرق طريقة الرماية الصّوفية التي أسسها علي بن ناصر الحمري، تلميذ أحمد بن موسى [1] وفرق إهياضن الفنية. فإلى جانب انتسابهم لنفس الشيوخ، وأدائهم لعروض مشتركة فيما مضى[2]، هناك من يرى أن تسمية إهياضن التصقت بهم بعد أن تَخلّو عن العديد من تقاليد طريقة الرماية، كدوريات الرماية وركوب الخيل (تيولت) والأذكار الصوفية وتلاوة القرآن واكتفائهم بالعروض الفنية والرياضية[3]
السّيرك الحديث وأولاد سيدي أحمد أُو موسى:
سفراء فنون الأداء المغربيّة
ابتدأ أولاد سيدي احمد او موسى جولاتهم لتقديم عروض بهلوانية في أوروبا وأمريكا منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، متبنين تقليد أسلافهم في ترحالهم وتمثيلهم لزواياهم وطرقهم الصوفية، وإن بشكل مختلف ولغايات أخرى. تشهد إعلانات ومقالات الجرائد الأوروبية والأمريكية عن عروض فرق بهلوانيي سيدي أحمد او موسى تحت أسماء مختلفة من قبيل: “البدو العرب” و”العرب المغاربة” منذ سنة 1836 في بريطانيا[4]، و”التوارگ”، و”الفرقة العربية” و”عرب مصطفى بن محمد” ابتداءً من سنة 1852 في ألمانيا[5]، ولاحقاً بأسماء مقدمي وشيوخ هذه الفرق أو بأسماء أمازيغية كفرقة “توزونين” بالولايات المتحدة[6].
لم تقتصر عروض إهياضن في الولايات المتحدة على الحركات البهلوانية، إذ شملت الموسيقى ومختلف ألعاب الخفة والفروسية. في مقال نشرته مجلة دا بيلبورد (The Billboard)[7] عنوانه: “أين أنت يا عمر؟ (يحيل على عمر الخيام) كيف أصبح البهلوانيون العرب؟” (Omar, Where Art Thou ? — What’s Become of the Arabian Tumblers?) يفتتح الكاتب بيلي بايب (Billy Pape) نصه ببيت شعري مترجم لعمر الخيام النيسابوري، مهديا إياه للبهلوانيين “العرب”، ظاناً أن صاحب الرباعيات الفارسية من ذات البلد العربي الذي ينتمي له أولاد سيدي أحمد أو موسى الأمازيغ.
يحكي الكاتب عن فرقة استقدمها شخص “عربي” اسمه أوشگاير (كتبه كالتالي viz Ushgaiyer) سنة 1847 تتألف من موسيقيين وفرسان ولاعبي خفة وفناني أداء آخرين. كما يتحدث عن فرقة الحاج الطاهر التي زارت أمريكا سنة 1865 برفقة رجل الاستعراض الشهير ويليام كودي المعروف باسم بافالو بيل (Buffalo Bill) بعد جولة في أوربا. قدمت الفرقة أنواع مختلفة من العروض منها الرماية على صهوة الخيل، قبل أن يَستقدم الحاج الطاهر بهلوانيين مهرة في حركات الشقلبة وبناء الأهرامات الآدمية التي لم يُر لها مثيل من قبل في الولايات المتحدة حسب كاتب المقال.
يخبرنا بيلي أيضا عن موت أوشگاير وشريكه الحاج عمر نطامو (كتبه Maji Omar Netamo وأحيانا Haji، ربما هو عمر بن طامو) في الحرب المغربية الإسبانية بعد عودتهم لبلدهم.
ذاع صيت إهياضن في خيم السيرك والمعارض في أوروبا وأمريكا، كما أثاروا الفضول الاستشراقي للصناعة الاستعراضية والترفيهية الغربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، إذ دفع أداؤهم إلى تشكيل أفكار متعددة عن المغرب في مخيلة الجمهور الغربي بسبب وأزيائهم وأسماء فرقهم، كما شكلوا طليعة اللقاءات الثقافية والفنية بين المغرب والغرب، إذ مكنهم ترحالهم من توسيع حضورهم في مختلف الفضاءات الغربية[8].
شارك هؤلاء البهلوانيون في المعارض العالمية، كمعرض فيلادلفيا القرنيّ لسنة 1872، والمعرض الكولومبي في شيكاغو سنة 1893، ومعرض سانت لويس العالمي سنة 1904، منحت هذه المساحات زوارها فرصة زيارة نسخة استشراقية لشمال إفريقيا،وأصبحت هذه الفرق جزءا من الإنتاج الثقافي الغربي الرأسمالي، في سياق هذه المعارض العرقية التي كانت تقدم لجمهورها الأوربي (والأمريكي) صورة عن الآخرَ الشرقي الغامض والمختلف.
أولاد سيدي احمد او موسى بعيون المستشرقين
لم يكن تجوال أولاد سيدي احمد او موسى مقتصراً على شمال المتوسط وغرب الأطلسي، فقد توجه البعض منهم جنوبا وشرقا. ينقل المستشرق والرحالة وتاجر التحف الألماني ماكس فون اوبنهايم (Max von Oppenheim) في نهاية القرن التاسع عشر عن لقائه بإحدى فرق البهلوانيين “الذين ينتمون لطائفة سيدي أحمد أو موسى” في إحدى المقاهي بدمشق[9]. ويشير المستكشف والديبلوماسي الألماني گوسطاف ناختيگال (Gustav Nachtigal) أيضاً إلى هذه الفِرق، إذ التقى بهم في مرزوق بصحراء فزّان خلال رحلته الديبلوماسية لإمبراطورية بورنو، ممثلاً لملك بروسيا فيلهلم الأول (Wilhelm I) لدى شيهو[10] إمبراطوريّة بورنو عمر الكانمي، إذْ سافروا رفقته ضمن القافلة المتوجهة إلى إلى كوكا (حاليا كوكاوا، شمال شرق نيجيريا) عاصمة حكم الشيهو سنة 1870.
يحكي ناختيگال في مذكرات أسفاره[11] عن الفرقة التي رافقته في الرحلة إلى بورنو، قادمة من تازروالت، حيث زاوية الشيخ سيدي احمد او موسى، في اتجاه مكة للحج، إذ تجهّز الزاوية فرق الحجاج الفنية لرحلتهم، التي يقدمو جزءا من ريعها إلى الزاويّة عند عودتهم.
مرّت الفرقة المُكوّنة من 50 فرداً، والتي ترأّسها المقدم الحاج صالح، عبر المدن والقرى الجزائريّة والتونسيّة مُقدِّمة عروضها الفنيّة في كلّ مكان إلى أنْ وصلت طرابلس (ليبيا). هناك نشب خلافٌ بين المقدم الذي ارتأى الذهاب إلى بورنو طلباً لكرم الشيهو عمر، وبين من يريد الاستمرار في المسار الشماليّ عبر واحة سيوة وصحراء سيناء نهايةً، ولم يصل إلى مرزوق من الفرقة الأصليّة سوى 25 فرداً، أغلبهم لا يتحدّث سوى الأمازيغية، ونصفهم أطفالٌ تتراوح أعمارهم بين تسع سنوات وخمس عشرة سنة.
حين حلّت بمرزوق، قدّمت الفِرقة عدّة عروض فنيّة قُدّام منازل وجهاء المدينة وأغنياءها، كالباشا والقاضي وكاتب المال، رغبةً في مكافئات تُعينهم على مؤونة الرِّحلة الطويلة. يُبدِي ناختيگال إعجابه بالقوة والمهارة الاستثنائية لشباب الفرقة وبحيوية الصغار أثناء حديثه عن أحد العروض التي قدموها في مرزوق، إذ قدم بعضهم شقلبات وقفزات مذهلة، بينما كان يؤرجح الحاج صالح عموداً سميكاً يتجاوز طوله ستة أمتار بيديه، وعلى خصره، حتّى يُؤدي عليه بعض من صغار الفرقة ألعاباً جمبازيّة، في حين يختص آخرون بالعروض الموسيقيّة التي تفصل بين العروض البهلوانيّة.
سعى كاتب الصحراء والسودان إلى التقرب من أعضاء الفرقة، وكسب ودّهم، بعد أن رأى مهاراتهم الاستثنائية في استخدام البنادق المغربية (المُكْحْلَة)، وطمعاً في حمايتهم أثناء الرّحلة إلى بورنو.
كان فنّانو الأداء المغاربة يُقدّمون عروضاً في مختلف محطّات القافلة، لا فقط للتزود بمؤونة السفر، وإنما للترفيه عن أنفسهم ورفع معنويات المسافرين، كأحد العروض الموسيقية التي يحكي عنها ناختيگال في القطرون (جنوب ليبيا الحاليّة) التي أدّى فيها أولاد سيدي أحمد أو موسى رقصات على إيقاع البندير ونغمات الناي وغناء أمازيغي، بملابسهم البيضاء النّاصعة المشدودة بأحزمة حمراء، وخناجرهم اللاّمعة والحمّالات الجلديّة للطلقات النارية المحمولة على أكتافهم.
حسب المتخصص في الأعراق، الألماني ماكس فون كفيدينفيلت (Max von Quedenfeldt)[12]، الذي درس بعض مجموعات أولاد سيدي أحمد أو موسى والرّما في الجنوب المغربيّ، فهذه الفرق الفنيّة تتشكّل على يد المقدم من نواة أساسها الشباب والأطفال، ونادراً ما يتجاوز عددهم اثني عشر شخصاً. يستقطب المقدم الأطفال المنحدرين من العائلات الفقيرة لقاء مقابل مادي تتلقاه العائلة على دفعة واحدة، أو باستمرار، حسب الحالات. قد تتشكل الفرق أيضاً من اليتامى أو من الأطفال الذين هجروا عائلاتهم وفضّلوا الالتحاق بها.
يُنادي كلّ عضو من أعضاء الفرقة المقدم بـ “سيدي” أو “بابا”، وغالباً ما تكون هذه الفرق تابعة لمجموعة أكبر يصل عدد أعضاءها مجتمعة إلى خمسين أو ستّين فرداً. يترأس المجموعة الكبيرة شيخ يكون مُقيماً في واحدة من المدن، كمراكش، ويتلقى نصيبه من عائدات الفِرق المتجوّلة حين عودتها.
يتدرّب الأعضاء الجدد داخل الفرق الصغيرة المتنقلة، ويتخصص كلّ من الأعضاء القدامى بمهمة معينة، مثل رّايس وُلْمَادْ[13] الذي يشرف على التداريب الرياضية ورّايْسْ اُو أَلُّونْ أو رئيس البندير الذي يضبط إيقاع البندير. يحُجّ أولاد سيدي أحمد أو موسى في مجموعات كبيرة خلال عيد المولد النبوي، وفي مواسم أخرى وأسواق سنويّة، إلى منطقة تازروالت (إقليم تيزنيت)، ويقدّمون الزيارات والهدايا لزاوية شيخهم. لقد كانت مجموعات سيدي أحمد أو موسى تقدم في أحيان كثيرة عروضها بتعاون مع مجموعات الرّما التي يبرع أعضاؤها في الرماية، حيث يصوب هؤلاء بنادقهم على فواكه أو بيض دجاج تكون مصفوفة فوق لوح خشبيّ وأحيانا على رؤوس الأطفال.
مزار سيدي أحمد أُو موسى الفني المتنقل
كانت فِرق إهياضن المُرتحلة بين الأسواق والقرى والدواوير أكثر تنظيماً وتنوعاً وحضوراً في الثقافة الشعبية فيما مضى، إذ كانت تتكون إلى جانب مقدم الجماعة، الذي يترأس الفرقة ويدبر شؤونها المالية والفنية، من “الرقّاص” الذي يُرسله المقدم لإعلام سكان المنطقة بوصول الفرقة وطلب استضافتها. تحوي الفرقة أيضاً شّْمُوتِيتْ، المسرحي المهرج. بالإضافة إلى الموسيقيين من ضُبّاط الإيقاع والعازفين، وأخيراً البهلوانيين والراقصين الذين يؤدون مختلف الحركات الرياضية والرقصات الشعبية الآتيى من مناطق مختلفة.
ينقل لنا الكاتب والشاعر محمد مستاوي[14]، في بحثه الميداني حول إهياضن بقبيلة إداوزدوت الواقعة بالأطلس الصغير الشمالي، إنّ أجواء الفرجة والاحتفالات التي تُصاحب حلول إهياضن بإحدى القرى، تبدأ بدخولهم قبل زوال اليوم الأول، وطلبهم الضيافة وترحيب سكان القرية بهم بأَسَايْسْ[15]، وترديدهم لـ تاللّغاتْ[16]: “أورا سكير شرع أيصاصايان أهياض مقّار گانت طمزين خمسا واق إوحبوب”] لا تجيز الشريعة طرد إهياض (مفرد إهياضن) ولو بلغ ثمن حبة من الشعير خمس أواق]، ثم أدائهم لعرض مقتضب من الحركات البهلوانية، يرددون خلالهم نداءاتهم لشيخي طريقة الرماية: “آهيا سيدي احمد او موسى، آ سيدي علي بن ناصر”، قبل استقبالهم بمكان إقامتهم، حيث يتنافس سكان القرية في الاهتمام والعناية بهم طلبا لبركتهم وخوفا من التشهير بهم في القرى المجاورة إن لم يحسنوا الاستضافة.
أمّا اليوم التالي الذي يعقب وصول الفرقة، فيتمّ تخصيصه للاحتفالات والعروض، إذ ينتقلون منذ الصباح إلى أسايس مرتدين أزياءهم الفريدة، حيث يعرضون مهاراتهم في مختلف فنون الأداء من الرياضات البهلوانية وترويض القردة والمسرح والفكاهة والحكي. أما الفترة المسائية فهي مخصصة لاستقبال الزيارات[17] حيث يُفتتح گور[18] سيدي أحمد او موسى، الذي يُعدّ مزاراً له، فيأتي أفراد القبيلة بهداياهم العينية والنقدية مقابل دعاء مستجاب من أحفاد الشيخ، بُغية الفوز ببركته، ولا يخلوا الگور من عروض مسرحية كوميدية، من أجل استخلاص المزيد من الزيارات، بطلها شموتيت إلى جانب صغار الفرقة، مع إشراك الجمهور نفسه فيها.
كان گور سيدي أحمد او موسى المتنقل فضاءً ثقافياً بامتياز، يتجاوز صناعة الفرجة والترفيه إلى حفظ الذاكرة والثقافة الشعبية، وتحصين مختلف الفنون الشفهية من الاندثار عبر الحكي والمسرح والغناء. لقد كان بمثابة أكاديمية فنية متنقلة، تُحيي وتطوّر الأشعار والرقصات والتقاليد التي تضمّنتها العروض المسرحية والموسيقية، لعبت من خلالها فرق إهياضن دورا مهما في التبادل الثقافي بين العديد من القبائل، ونشر الفنون الشفهية المختلفة والتعريف بعاداتها وخصوصياتها خلال جولاتهم.
خلال القرن العشرين، أضحت هذه الظاهرة الفنية الفريدة سائرة نحو الاندثار شيئاً فشيئاً، خاصّة مع ظهور المسرح الحديث وتقزيم الفنون الشفهية والرقصات الشعبية وتحنيطها بجعلها فلكلوراً لأغراض سياحية وتسويقية، وأيضا مع استقطاب صناعة الترفيه الغربية لبهلوانيي سيدي أحمد أو موسى خلال القرنين السابقين.
إلياس ترّاس
باحث مستقل، مصور فوتوغرافي وصانع أفلام يشتغل على مواضيع مرتبطة بالدراسات القروية والتاريخ الاجتماعي القرويّ.