أواخر القرن التّاسع عشر، عرفت تونس أوّل عرضٍ سينمائيٍّ، وقد احتضن شارع فرنسا بالعاصمة حينذاك عروضاً جماهيريّةً من تنظيم ألبير شمامة شيكلي (1872-1934)، وهو من روّاد السينما التونسيّة إنتاجاً ونشاطاً. تضمّنت العروض أفلاماً قصيرةً للإخوة لوميير، واستطاعت هذه العروض خلق جمهورٍ دعم استمراريتها لسنواتٍ لاحقةٍ، ونتج عن ذلك حِراك ثقافيّ بانت ثماره مع استقدام الدّولة التونسيّة، في ظلّ الحماية الفرنسية، العديد من المخرجين الأجانب لتصوير أفلامهم. نذكر من بين هؤلاء المخرجين لويس مورا (Luitz Moura) ورجييه دوسر (Roger Dessort). هكذا تزايدت أعدادُ المخرجين الذين اختاروا تونس وجهةً لتصوير أفلامهم، وذلك بين العشرية الثانية والعشرية الثالثة من القرن العشرين.

ألبير شمامة شيكلي
لقد كان السبب في هذا الإقبال راجعاً إلى انخفاض كلفة الإنتاج من جهة، وإلى السياسة الثقافيّة الاستعماريّة لفرنسا من جهةٍ أخرى، والتي هدفت إلى نشر ثقافتها في كلّ المحميّات والمستعمرات، داخل شمال إفريقيا وخارجها. إضافةً لهذا، توجد أسبابٌ أخرى خارجيّة تفسّر نمو النشاط السينمائيّ في تونس، إذ هيمنت فرنسا على مجال الصورة، وعلى المجال الثقافي التونسي بشكل عام خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وباتت تفرض رؤيتها على ما ينتج وما يعرض، وقد عادت هاته السياسات الثقافية بالنفع على الثقافة التونسيّة، وعلى المستوى الإنتاجيّ التقنيّ على وجه الخصوص، وبشكلٍ أدقّ على مستوى إعداد قاعات السينما.
قام ألبير شمامة شيكلي بإنتاج “زهرة ”، أوّل فيلم تونسيّ وعربيّ سنة 1922م، ثم تبعه فيلمٌ ثانٍ بعنوان “عين الغزال” سنة 1924م. توفي شيكلي سنة 1935م، وبعد وفاته، وحتّى فترة الاستقلال، اقتصرت ثقافة السينما التونسية على عروض الأفلام الفرنسيّة والمصريّة. بعد الاستقلال العام 1957م، تمّ إنشاء الشركة التونسيّة للإنتاج والتنمية السينمائيّة (سّاتباك)، التي تعتبر إنجازاً حقيقيّاً للدولة التونسيّة في المجال الثقافي، فقد اهتمت بإنتاج وتوزيع واستغلال الأفلام التونسية واستيراد الأفلام الأجنبيّة، وأُلحِقتْ (السّاتباك) سنة 1967م بالمُركّب الصناعيّ للسينما بقمرت، وكان قرار الإلحاق هذا قراراً مفصليّاً، بل نقطة تحوّلٍ في تاريخ السينما التونسيّة الحديثة، حيث ساهمت المؤسسة في إنتاج وجمع الأفلام التونسية من سنة 1967م إلى سنة 1992م. يُذكَر إنّ الدولة التونسيّة، على عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، قد فرّطت في هاته المؤسسة عام 1992م، وذلك من خلال طرح مُعدّاتها وأرشيفها، بالإضافة إلى أصلها العقاري، للبيع إلى الخواص، تحديداً إلى رجل الأعمال طارق بن عمار. وعلى الرّغم من تعهد بن عمّار، وشركته المالكة الجديدة، برقمنة المحتويات المتوفّرة، إلاّ إنّه أخلف وعده واتفاقه مع الوزارة…
لقد شرعت اليوم المكتبة السينمائية التونسية في رقمنة مجموعة من الأفلام، ولكنّ عقوداً مرّت قبل بدء المشروع، ما كان سبباً في ضياع عدد مهمّ من الوثائق البصرية النفيسة أو استيلاء خزانات أجنبية عليها. هنالك أفلام تونسيةّ اليوم ليست بحوزة مخرجيها، ولا بحوزة، ولنقل إنّ ذلك بمثابة جريمة في حق الذاكرة الثقافية للبلد… أحد الأفلام المهمة التي نجت من جريمة الإهمال هذه، فيلمٌ تونسيّ عرف مشاركة النجمة التونسية الإيطالية كلوديا كردينال في دورها السينمائي الأوّل. عنوان هذا الفيلم “سلسلة من ذهب” (يُعرض حصريّا على منصّة طِرْسْ)، ويتألّف العمل من مجموعة صور شعريّة لمدينة المهديّة، سُلِّط من خلالها الضّوء على جانب من جوانب نضالات النساء التونسيات. تمّ ترميم الفيلم وأرشفته من قبل الخزانة السينمائية الميلانيّة (واستعادته طِرْسْ ضمن مجهودات استرداد الأرشيفات)، ولعلّ واحداً من الأسباب المفصليّة في عدم ضياع هذا الفيلم، كما هو الحال مع أفلام أخرى، كان هو ظهور كلاوديا كاردينالي في دور واحدة من نساء المدينة.
“سلسلة من ذهب” هو إذن فيلمٌ وثائقيٌّ قصيرٌ من إخراج كلّ من رينيه فوتييه ومصطفى الفارسي، وهو بالأساس اقتباسٌ عن قصّةٍ ألّفها هذا الأخير ضمن مجموعته القصصيّة “القنطرة هي الحياة”. لقد حظِيَ الفيلم حينذاك بدعمٍ من الدولة التونسية التي ساهمت في الإنتاج، كما استطاع أن يحصد جائزة في مهرجان برلين الغربيّة. يوثّق الفيلم أحداثاً حقيقيةً وقعت عند الشواطئ الساحلية لمدينة المهدية، مدينة تعتمد اقتصاديّاً على الصيد البحريّ…
لقد ركّزت حقبة سينما مابعد الاستقلال على سرد وتوثيق الحركة الوطنيّة التحريريّة، ونذكر هنا أول فيلمين مهمين من تلك الحقبة، وهما من إخراج عمار الخليفي، ومن إنتاج الساتباك. الأول هو فيلم “الفجر” (1966م) وفيلم “فلاقة” (1968مà. وقد جاء فيلم “سلسلة من ذهب” في خضمّ الموجة الأولى من هذه الحقبة من السينما التونسيّة.
من الناحية الجماليّة، حاكَ الفيلم الأحداث الواردة في قصة مصطفى الفارسي على شكل صورٍ ومشاهد تكاد تكون لوحاتٍ تشكيليةٍ، لكنّها لا تضيف للنص رؤية سينمائية خاصة أو أسلوبا أصلياً. وعديدة هي المشاهد التي توحي بالغرائبية، بل وتضفي نوعاً من البطاقة البريديّة على الصورة السينمائية. لقد اقتصر دور الصورة ههنا على نقل النص دون إثرائه سينمائياً، عدا مشهدٍ أو إثنين، وإن كانت المشاهد جيدة التركيب على مستوى التقني؛ فحين لا تحمل الصورة في تركيبها أو في شكلها قراءة ثانيةً تصبح فقط صورة ناقلة أو إخبارية.
في ذلك الوقت، كانت معظم الأفلام المنتجة في تونس تصدر عن شركة “أفريكا” للإنتاج، وبقيت ذات طابع إخباريّ أو وثائقيّ تلفزيوني تغيب عنها لمسة المخرج. كما أنّه يأتي في ذروة الموجة الفرنسية الجديدة،حين كانت سينما المؤلّف توظف تشكيل الصورة. إذاً، يكون التركيب المشهدي والصوتيّ في خدمة فكرة الفيلم، مما يُكْسِبُ للفيلم رأياً خاصاً به، ويصبح شكل الفيلم في حد ذاته موقفاً سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً. في حالة “السلسلة الذهبية”، غاب الشكل الذي يقوّي أو يضخّم فكرته، وفي هذا الغياب أصبح الفيلم أقرب إلى الفيلم التلفزي أو الوثائقيّ التلفزيّ الذي ينقل أحداثاً أو يعيد تصوير ما جاء بصوت الراوي. أدبياً يعتبر نص قصة مصطفى الفارسي نصاً شاعرياً، دقيقاً في وصفه وفي براعة تكوين الصور الشعريّة، لكنّ ترجمة النص باللغة الفرنسية وإلقاؤه بطريقة رتيبة، أفقد النص روحه. لم تكن الترجمة والإخراج فقط، هي العناصر الوحيدة التي خذلت النص وأضفت عليه غرائبية مزعجة، بل يضاف لها كذلك الموسيقى المصاحبة التي لا تتركنا طوال وقت الفيلم.
على الرغم من كل ما سبق، وجود الفيلم بحدّ ذاته يعتبر مهماً وأساسياً، إذ يفتقد الأدب والسينما في تونس للأعمال التي تتطرّق لحضور المرأة في سواءً قبل أو بعد الاستقلال، اللهم إذا استثنينا رواية “حليمة” لمحمد العروسي المطوي التي تتحدث عن حليمة ابنة الريف المناضلة السياسية في الحركة الوطنية المسلحة ،التي ساهمت في نقل وتأمين السلاح للمقاومة، وهي حقيقة تاريخية يرويها العروسي المطوي في كتابه الذي كان يدرس في السنوات المدرسية والتمهيدية في تونس. أما من المسلسلات، فنذكر مسلسل قمرة سيدي محروس الذي يسلط الضوء على دور المرأة التونسية في عدة مجالات، الصحية والتجارية والروحية والنضالية السياسية، على سبيل المثال، يبرز كفاحات الطبقة الوسطى في العمل النقابيّ والحزبيّ، وكيف كانت النساء مشاركاتٍ للرجال في هذا الجانب النضاليّ أيضاً، بل يواصلن المسيرة حتى بعد سجن رجالهنّ. كما يتحدث عن دور نساء المقامات لاجتماعي والروحيّ في مساندة الناس، وكيف كانت هذه المقامات تنافس المستشفيات، كما نرى اختلاف عدد الزوار بين مقام سيدي محروس الذي يعج بهم و مستشفى صويلح البرجوازي الفرنكوفوني الذي يخلو منهم، إذ كان الناس يندفعون للتبرك بالأولياء الصالحين بدل الاستشفاء بالطبّ.
مع غياب كثافة الإنتاج الدرامي التلفزيوني والإنتاج السينمائي بصفة عامة وبصفة خاصة في هذا الموضوع، هنالك أفلام غلبت عليها اجترار مفاهيمٍ ركيكةٍ وحصر نضال المرأة التونسية في نطاق ضيق لخدمة أطراف سياسية، مثل فيلم الجايدة لسلمى بكار. حتى إن كان الفيلم بالعموم مقبولاً جمالياً، لكنّ نهاية الفيلم والانحدار به لتلخيص حرية المرأة وتحريرها في شخص الحبيب بورقيبة كان مثيراً للغثيان. كان للرئيس الحبيب بورقيبة نضالات ضخمة في قضية المرأة التونسية وحريتها، لكنّ الفيلم يخنق معنى الحرية في شخص الرئيس، وهو ما نستهجنه هنا. قرابة آخر عشر دقائق من الفيلم، عبارة عن عرض صور وثائقية لخطابات الحبيب بورقيبة بعد ما يقرب ساعتين من سرد قصة مأسوية لنساء تونسيات تم طردهنّ من قبل أزواجهنّ والزجّ بهنّ في دار جواد وهو مكان ترمى فيه النساء العاشقات على أزواجهنّ.
وهنا لا بدّ من التطرق لمعضلة غياب الأرشفة والتوثيق في منطقة المغرب العربيّ كسياسةٍ ثقافيّة. لا يمكن الاستخفاف بهذا النقص، الذي يعدّ الاستمرار به جريمةً، فطمس الذاكرة الوطنية هو من جهة طمسٌ للعمل الفنيّ ولحقّ الفنان في ترسيخ أعماله، وكمسٌ للموروث الثقافيّ الوطنيّ من جهةٍ أخرى. تعمل اليوم المكتبة السينمائية على رقمنة الأرشيف التونسي، و تمّ تأمين رقمنة أفلام منير بعزيز ، يوسف بن يوسف واسكندر الضاوي. مجهودٌ يُحمَد رغم تأخره، لكنّ عمل المكتبة السينمائية وحده لا يكفي، خاصةً في ظلّ سياسة ثقافية واضحة تعمل على مسألة الأرشيف. السكوت على مظلمة الساتباك إلى اليوم هذا هو في حد ذاته مواصلة للجريمة.لا يمكن التنبؤ بمصير المشهد الثقافيّ اليوم الذي يعاني من تداعيات السياسة الثقافية لعشيرة بن علي، بينما نرى كيف تقوم مؤسسات أوروبية وأمريكية ببذل مجهودٍ كبيرٍ جداً في رقمنة الأفلام، أرشفتها وترميمها، ونذكر على سبيل المثال الرائعة السينمائية المصرية “المومياء” للمخرج شادي عبد السلام الذي قام بترميمه المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي عبر شركته الإنتاجية. في عديد من الأحيان ترفض الجهات الأوروبية المستحوذة على الأعمال الفنية الضائعة في أفريقيا وخاصة في شمال أفريقيا ،تسليمها إلى مخرجيها أو لدول مخرجيها، بحجة الحفاظ على سلامة تلك الأفلام. مسألة الأرشفة هي مسألة بيداغوجية،، ومسألة إحياء الذاكرة العالمية للفنون كما تدخل ضمن نشاطات النضال الفني. كما أنّها تدرس كمادة في الدول الغربية لطلبة السينما في الجامعات، وهذا الجانب البيداغوجي أو المنهجي هو ما تفتقده جميع الدول العربية في سياستها الثقافية.
إنّ مسألة الأرشيف لا تقف عند الأفلام السينمائية، وإنّما تمتد إلى البرامج والحوارات التلفزية والإذاعية، وإلى التسجيلات الحفلات الموسيقية، وعروض المسرح والأدبيّات المكتوبة، بما في ذلك المخطوطات والطّروس. هكذا نتجع عن هذا الفقدان، وعن هذا الفراغ الفكري والنقدي والأرشيفيّ، انحطاطٌ ملحوظ في الإنتاج الثقافي والفني؛ وهو الطمس الذي تعرضت له الذاكرة الوطنيّة بأكملها.
توجد اليوم بعض المبادرات الفردية التي تبثّ بصيصاً من الأمل، نذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- التجربة التي يقوم بها المخرج والباحث الجزائري نبيل الجدواني في مشروعه “الأرشيف الرقمي للسينما الجزائرية” والذي حقق اشواطاً مهمة في توثيق رقمنة كمٍ من الأفلام الجزائرية. هذا النشاط البحثي التوثيقي يجب أن يكون سياسات ثقافية ممولة وجدية من الدول، من أجل إنقاذ الذاكرة الثقافية الفنية للأوطان.
إلياس الجريدي (سوسة، 1992)
مخرج تونسي، حاصل على إجازة أساسية في الأداب، الحضارة واللغة الإنجليزية، وإجازة تطبيقية في المجال السمعي البصري. يُحضّر حاليا بحث ماجيستير في السنيما.