“ليس الشّديد بالصُّرَعة، وإنّما الشّديد من يملك نفسه عند الغضب” حديث صحيح، متفق عليه.
دائماً ما كانت وسائل الإعلام الغربيّة مُتخمة بصور بروس لي وجاكي شان وجيت لي، لكنّ الموضوع الذي قلّما نسمع عنه يبقى تلك العلاقة القائمة بين الإسلام وفنون القتال. فقد لعبت المبادلات التجاريّة الأولى، التي قوّت العلاقات بين المُسلمين العرب والصّينيين، دوراً أساسيّاً في نشر الإسلام في الشّرق الأقصى وترسيخ الهويّة الإسلاميّة-الصينية. مُنذ سنوات 1200م، شكّلت الأدوار التي لعبها المسلمون الصّينيون الأوائل، أصحاب القيادة العسكريّة، بداية واحدة من الرّوابط الأكثر تفرّداً.
مع قوميّة خُوي، باعتبارها أكبر أقليّة في البلد، تمّ التّوثيق للإسلام في الصّين بشكل جيّد. حوالي 19 عاماً تقريباً بعد وفاة الرّسول محمّد، كانت العلاقة بين شبه الجزيرة العربيّة والصّين قد بدأت بالفعل. لكن الخليفة الثالث عثمان هو من أطلق المجهودات المقصودة الأولى من أجل نشر الإسلام في المنقطة، وذلك من خلال بعثات تجاريّة لاحقة ساهمت بدورها في انتشار الإسلام هناك.
لقد جاء مُسلمو خُويْ من هذه السُّلالة، أي من اتّحاد بين شبه الجزيرة العربيّة والصّين، بغاية تشكيل هذا الموقف المُتفرِّد للثقافة الصينيّة الأصيلة، المُتشربّة من تقاليد الإسلام، والتي يُمكننا الوقوف عليها حتّى اليوم في مناطق مختلفة من البلد، مع أنّها تظلّ مُركّزة في الشّمال الغربيّ للصّين. وما تزال فنون القتال تُمارس داخل المساجد في الرّبوع، إلى جانب تدريس العلوم الشّرعيّة في الآن ذاته.
لم تتناغم فنون القتال مع الجوانب العمليّة للدّفاع عن النفس خلال البعثات التجارية البحرية الطويلة فحسب، وإنّما تضمّنت أيضاً وسيلة روحيّة لعدد كبير من المُعلِّمين المُسلمين. فالحاجة إلى تهذيب النّفس وتقييدها تتبدّى في الآن ذاته من خلال فنون القتال وتعالم الإسلام التّقليديّة.
كذلك تمّ توظيف مفهوم تهذيب النّفس في الإسلام من طرف مُعلّمي فنون القتال في المجال البدنيّ، ولطالما أكّد الممارسون على الجوانب الرّوحية والماديّة لهذا التكوين الرياضيّ، فالحاجة إلى أخذ قرار هادئ ورصين هي تقليد يدافع عنه المسلمون كما هو ثابت في الأثر عن الرّسول: ” ليس الشّديد بالصُّرَعة، وإنّما الشّديد من يملك نفسه عند الغضب”. هكذا يكون جوهر الاجتهاد مُلخّصاً في الانضباط الذّاتي ويتحقّق في السّبيلين معاً (الرّوحي والمادي).
على مدى المئة سنة الماضية، انبرى المسلمون إلى تطوير مختلف فنون القتال، كما هو الحال مع البنشاك سيلات والووشو. كما قاموا بابتكار أو تكييف فنون قتال أصيلة مثل الشاكوان والبيغوكوان. لقد كان هذا التطوير الأصيل بمثابة أدوات اقترحها مسؤولون عسكريّون لحماية المسلمين في الصّين، وتمّ تناقلها سرّاً جيلاً بعد جيل.
يحفل تاريخ هذه الزِّيجة بين فنون القتال والإسلام بعدد من الأسماء المُعتبرة، نذكر منها على سبيل المثال مُعلّمين كوانك زي-بينك (1881-1973) وشان تونغ شينغ (1908-1986) اللذين انضبطا في مجالهما، مع الحفاظ على عقيدتها، مُوظّفين فنون القتال كأداة للتقرب من الله ومن تعاليم دينهما. علاوة على كونه أستاذاً مشهوداً له في فن الووشو، فقد كان المُعلِّم وانك زي-بينك أيضاً فقيهاً في علوم الدّين، وشاع عنه رفع الصّخور الثقيلة وهو يُرتّل القرآن. تحكي قصّة شهيرة مواجهته للقوّات الألمانيّة التي حاولت نهب أبواب جامع هواجيويه حيث دُوِّن تاريخ مسلمي الصّين، والمعروف عن المُعلِّم وانك دفاعه المُستميت عن الهويّة الإسلاميّة من الضّياع؛ كذلك تنافس مع الجنود الألمان خلال مسابقة لرفع الأثقال وفاز عليهم.
فضلاً عن كونه أستاذاً في تخصّصات شتّى، كان المُعلِّمُ وانك زي-بينك مصدر إلهام للنّاس، أكانوا مسلمين أم غير مسلمين. فقد ساهم ضبطه لتشكيلة مُتنوعّة من فنون القتال في انتصاره على عدد من الخصوم الأجانب، وكان في ذلك سبب لتكاثر تلامذته وانتشار الدّين الإسلاميّ لدى الشّعب الصيني.
في الواقع، تشترك كلٌّ من فنون القتال والإسلام في رابط وتاريخ مُتفرّدين يتضمّنان معاً وسائل لبلوغ هدف أكثر سُمُوّاً. فعبر اشتغالهما كانعكاس الواحد للآخر، قاد تاريخ الإسلام في الصّين إلى انتشار الدّين نحو الأقاليم الشرقية البعيدة من العالم، فيما ساهمت الطبيعة العمليّة لفنون القتال في الدّفاع عن هذا التقليد بشكل حافظ على الطابع الفريد للثقافة الصينيّة أخذاً بالحقائق المطلقة لدين الإسلام.
ترجمة “طرس” (بالاتفاق مع الباحث)
للاطلاع على النصّ الأصلي على منصّة بحث
عيسى دار
باحث متخصّص في دراسات الشّرق الأدني والمُتوسّط بمدرسة الدّراسات الشرقيّة والإفريقيّة (جامعة لندن).