يستفز “قصر المنسيين- palacio de los olvidados ” لدى المتجول في شوارع غرناطة أسئلة عن سبب تسميته، وحين البحث السريع تلتبس ثلاث أسماء. الأول، هو اسم المكان نفسه “قصر المنسيين”، في إحالة إلى يهود الأندلس الذين مُحي أثرهم أثناء محاكم التفتيش، فالقصر ذو الطابقين تحول إلى فضاء يستضيف معارض وندوات حول التاريخ اليهودي.
الاسم الثاني هو “متحف محاكم التفتيش”، إذ يحوي القصر مجموعة دائمةً من وثائق الاتهامات وأدوات وماكينات التعذيب التي تعود إلى زمن محاكم التفتيش الإسبانيّة، ليدخل زائره ضمن جولة مرعبة نكتشف فيها توظيف الآلة في فنون انتهاك الجسد البشري. أما الاسم الثالث فهو “متحف التعذيب”، الآلات السبعين في المكان أشبه بنسخة منحرفة من “ديزني لاند”، تثير القشعريرة، وتتركنا نتأمل مقصلةً بالحجم الطبيعيّ، وثوراً معدنياً مجوفاً (الثور الصقليّ)[1] يحبس فيه المتهم وتشعل النار تحته، ليتحول صدى صراخه داخل الثور إلى ما يشبه صراخ وحش يذيب أحشاءه لقذفها ناراً من منخريه.
ما يحرك المخيّلة في القصر/ المتحف، لا يتعلق فقط بأدوات التعذيب، بل بالجرائم والتهم التي استخدمت لأجلها. هناك شوكة الهراطقة، وقفل رأس الزوجة الثرثارة، وطوق المسامير، وغيرها من الأدوات التي تستهدف “الكلام”. تقع العقوبة، سواء كان الاتهام محقّاً أو كيدياً، على النُطق المُجرم، فمن يُعاقب، لا يقتل، بل يعلّق على حافة الصمت والكلام، ولا يموت إلا في حال نطق، حينها تخترق شوكة الهراطقة الرأس، و يمزق قفل رأس الثرثارة اللسان، ويفتك طوق المسامير بفك ولسان من يفتح فمه، فالنجاة ليست بالصمت، بل بالامتناع عن محاولة الكلام، لأنّ حركة اللسان والشفاه نفسها قد تؤدي للموت.
لم يقتصر عمل محاكم التفتيش الإسبانيّة (1478-1834م) على ضبط الدين الرسمي (المسيحية) ومحاربة الممارسات الدينية اليهوديّة والإسلاميّة، بل يمكن وصف عملها بتطهيرٍ للأفكار، والقضاء على التواجد الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، لا بوصفه أديولوجيا دولة ذات رعيّة ونظام حكم، بل فكرةً وممارسةً وعقيدةً، إذ شّنت حرباً ضد كتاب واحد في الأساس “القرآن”[2] و”موهميت”[3]. بدأ ذلك حين قرر فيرناندو (1452-1516) ملك أراغون، وإيزابيلا (1451-1504) ملكة قشتالة طرد المسلمين عام 1502، إلا من دخل المسيحيّة، لكن فيرناندو سمح لمن تمسك بالإسلام بممارسة دينه حتى عام 1526، حيث أجبر من بقي على المسيحية أو الطرد.
أحرقت محاكم التفتيش الكتب العربية بشكل متكرر، كما أحرقت الدعاة إلى الإسلام على الوتد علناً. أما اللغة العربية فكانت ممنوعة كتابةً ونطقاً في السر والعلن. لا نحاول هنا استجداء الاستعطاف، ولا الرهان على الضحيّة، فالقرآن حينها، بقي ينسخ ويتبادل سراً بين “المدجنين- Mudéjares ” الفئة التي حافظت على إسلامها وطقوسها سراً، ولم يصل إلينا منذ تلك الفترة سوى “قرآن توليدو”[4]، المنسوخ عام 1606، والذي ترجمه في القرن الثاني عشر مارك دو توليدو إلى اللاتينيّة.
واجه المُدجنون، أي من تبقى من المسلمين، تحت رعاية الممالك المسيحة في شبه الجزيرة الإيبيرية مشكلتين، الأولى تتمثل بالخوف من محاكم التفتيش التي كانت تصادر حتى الطلاسم المكتوبة بالعربيّة وتعتقل حاملها سواءً كان ينطق العربية أو لا، ناهيك عن التهم الكاذبة والوشايات والافتراءات التي هددت حياة الكثيرين. المشكلة الثانية فقهية، مع ظهور أجيال جديدة لا تتحدث العربيّة، ظهر السؤال، هل تجوز ترجمة القرآن؟ وهل تجوز قراءته بغير العربيّة؟ وهنا نضيف سؤالاً، هل من يقرأ أو يُردد القرآن باللاتينية يعتبر قارئاً للقرآن أمام محاكم التفتيش؟
حاول المدجنون متأخرين حل مشكلة الترجمة، وفي بداية القرن السادس عشر، أي قبل الغزو العثماني لمصر بسنوات وبعد ما يقارب القرنين من ظهور ترجمة لاتينية للقرآن، قاموا بمراسلة المجلس الفقهي الذي أسسه الظاهر بيبرس في القاهرة، والذي يحوي أربعة قضاة على المذاهب الأربعة. المجلس الذي كان الهدف منه كسر هيمنة الفقه الشافعي استُفتي في 5 مسائل حينها، تخص وراثة المسلمين في بلاد المسيحيين، وإقامتهم فيها، وكيفية تحكيم شرعهم، ونقل معارفهم، أما السؤال الخامس، فحسب المخطوط الذي يحوي ردود القضاة هو التالي: “هل يجوز التعبير عن القرآن بلغة غير عربيّة كي يستطيع فهمه من لا يتحدثونها ؟ وفي حال تمت ترجمته، فهل الشأن، حرام أم مكروه؟”[5]
الإجابات باختصار كانت هكذا، المالكية: لا يجوز قراءة القرآن بغير العربيّة. الحنابلة: ترجمة القرآن لغير العربية حرام لأنه يفقد الإعجاز الذي فيه، وهذا يتطابق مع موقف الشافعية، التي تحرم أيضاً قراءته جهراً بغير لغة. أما الحنفية، فأباحت الترجمة لتفهّم المعاني، ولا ينسحب عليها وصف المكروه. الملفت أن الشوافعة أباحوا الدروس وخطب الجمعة بلغة غير العربيّة، في حين اختلفت المذاهب فيما يخص التعليق على حواشي المصحف بغير العربيّة.
تبنّي الفتوى السابقة يعني أننا أمام “قرآيين”[6]، فكل ما هو مترجم ليس قرآناً، بل شرحاً أو تفسيراً غير مُعجز، لا يلسب لُبّ أحد، وسواء كان النص بالكاتالانيّة أو الإسبانية أو اللاتينيّة، فقارؤه يقرأ شيئاً آخر، شرحاً أو تفسيراً، لا كتاباً “ليس كمثله شيء”. الأهم، أنّنا لا نعلم إن كان القائمون على محاكم التفتيش قد اطّلعوا على أجوبة الفقهاء، خصوصاً أنهم كانوا يستعينون بمترجمين يجيدون العربيّة وببعض المدجّنين الذين دخلوا المسيحية وعملوا مع المحاكم على “تصنيف” الكتب بين قرآن وغير قرآن.
المفارقة السابقة، راح ضحيتها الدون جاسبار دو غوزمان[7](1587-1645)، الكونت دوق دي أوليفارس، واحد من أقوى الشخصيات في بلاط فيليب الرابع، الذي انتهى به الأمر بعد ما يقارب عشرين عاماً من السلطة، وحيداً منفياً في تورو -زامورا، شمالي إسبانيا. ما حدث أن الكونت راح ضحية دسائس وافتراءات، واحدة منها كانت تهمة شككت بمسيحيته، واستمرت التحقيقات بشأنها حتى بعد وفاته، مفادها، أن شخصاً كان يقرأ عليه القرآن ليلاً قبل أن ينام. وجاء نص السؤال في التحقيق الاتهامي: “بأي لغة كان يقرأ القرآن على الدون؟ وهل كان من حوله ناس حين كان ذلك يتم ؟”.
تستطرد مارسيدس غارسيا انارال في بحثها “محاكم التفتيش والبحث عن “القرآيين”[8]، وتسأل، ما هي النسخة التي كان يقرأ على الدون منها، وهل كانت ملكه؟ خصوصاً أنه معروف بامتلاك مكتبة ضخمة، وما نجا من محتوياتها و جداول جردها يشير إلى أنها لا تحوي قرآناً، كما أنّ محاكم التفتيش صادرت من بيته عام 1631 عشرات الكتب ولم يكن من بينها مصحف، الأهم، لم يكن الدون يجيد العربيّة، ومن الممكن أنه قرأ النسخة باللاتينيّة، بصورة أدق، نسخة 1550 التي ترجمها السويسري، Theodor Bibliander.
سؤال التحقيق يتعلق بلغة الكتاب، فالجريمة إذاً لم تكن امتلاك قرآن بل الاستماع إليه وحيداً أو مع جمع، لكن في حالة الدون، هناك عدة مفارقات. إن كان القرآن يقرأ عليها بالعربيّة، فهو لا يجيدها، بالتالي، لن يميز إن كان من يقرأ عليه كذاباً أو صادقاً، أيضاً إن كان ما يقرأ عليه باللاتينيّة، فهو حسب الفتاوى السابقة ليس بقرآن، فلا إعجاز فيه، لكنه متهم بالحالتين، وكأن هناك سحراً من نوع ما في هذا النص، وهي الصفة المتكررة في اتهام المتعاملين مع النص القرآني، منذ بداية الإسلام حتى المدجنين، فكل من يُتهم بـ”المحمديّة” حينها كان يخضع للمحاكمة، “فطائفة محمد” كانوا هراطقة، سواء عرفوا العربية أم لا. وكتب لغة محمد تحرق دوماً عدا بعض الكتب العربيّة، كما حصل عام 1566، حين اتهم الطبيب، ميغيل إكزيب بقراءة العربيّة، وبدأ التحقيق بالكتاب الذي كان يملكه، وبعد استشارة المترجمين اكتُشف أنه “أرجوزة الطب” لابن سينا، فسمح له بمتابعة قراءته.
يمكن التفكير بالاتهام من وجهة أخرى. كانت محاكم التفتيش تستعين بالمترجمين، متحدثي العربية و قارئيها، المسؤولين عن تصنيف الكتب، والإجابة عن سؤال ” هل هذا قرآن أم لا ؟”، أو “هل ما ينطقه هذا الرجل قرآن أم لا” ، وهنا السؤال، ألم يعلم المترجمون بالفتوى ؟ ربما لا.
طبيعة السؤال وراء من يقرأ، وكيف يقرأ وما اللغة التي كان يقرأ بها على الدون، ترتبط بالقراءة العلنيّة نفسها، ومعانيها التعليميّة، إذ عرف حينها شخص الـ “الفقي” الذي لا يشبه الفقيه التقليدي، بل المقصود كل رجل ينقل المعارف الدينية الإسلاميّة، وكانوا شبكة سريّة، تحاول الحفاظ على كلمة الله وتداولها ونقلها بين المدجنين. حينها كان القرآن إما يحفظ عن ظهر قلب، أو يكتب على أوراق صغيرة يتم تبادلها لحفظها وتمريرها، فهل كان من يقرأ على الدون، فقياً، وإن كان كذلك، ربما هو حافظ للقرآن، فلا كتاب من أصله.
يمكن الافتراض أيضاً، أن من كان يقرأ على الدون لم يكن فقياً، بل مجرد مُدجن مسكين مع مجموعة مع صحبه، يزورون الدون ليلاً لمناجاته، وهنا مفارقة أخرى، أن “قرآن” هؤلاء، لم يكن بالترتيب الحالي[9]، إذ كانت السور تحفظ من قصيرها إلى طويلها. طالب مدجن إذاً، يبدأ بالكوثر أقصر السور (أول سورة في القرآن هي الفاتحة) وينتهي بأطولها وهي البقرة ( آخر سورة في القرآن هي الناس)، أما الأميّون، فكانوا يستمعون من “الفقي” مباشرة، كونه يحفظ النص عن ظهر قلب، ومن لا يجيد العربية، كان يقرأ له الفقي من الكتاب إن وجد ويترجم مباشرة إلى الكتالانيّة. ما يدعم نظريتها عن قارئ مسكين، هي أن الفقي شخص معروف، وفي حال اتهامه كانت عقوبته شديدة، وأشهرهم هيرناندو دي بالما، الذي كان يكنّى بالمبارك، الذي أحرق حياً على الوتد، وذات الأمر مع لويس دي كاسترو، الذي اتهم بقراءة القرآن بصوت عالٍ بين جمع.
بالعودة إلى الدون المتهم، افتراض أنه يستمع لنسخة مترجمة، يعني أنه لم يكن يستمع للـ”قرآن” حسب المذاهب الأربعة، والاستماع لنسخة عربيّة، أيضاً يدفع عنه التهمة كونه لم يتحدث العربيّة، أما من يقرأ عليه، فـ”فقي” هذا لا جدل به، لكن لم القراءة على من لا يفهم ما يقال؟ رهان على السحر ربما، أو المس بمعناه المجازي “الميل عن الصواب” أو الحرفي ” اللمس والقدرة على فهم الأشياء بمعاينتها باليد”، أو من الممكن أن الدون كان يحاول الحفظ، وبالطبع قد يكون الأمر كله مؤامرة وكذباً للإطاحة به، واستغلال ضعف جسده وعقله قبل موته، والأهم، توظيف الرعب من “كتاب” وعَمَه محاكم التفتيش، لرسم صورة يمكن لخورخي بورخيس أو عبد الفتاح كيليطو أن يستفيد منها بحكاية، عن ذاك الذي اتهم زوراً، بالاستماع إلى كتابٍ لا يفقهه.
عمّار المأمون
صحفي وباحث في الشأن الثقافيّ، عضو تحرير “طِرس”.