في هذا اللقاء، التقى الشاعر والمترجم اللّبناني بول شاوول بالأديب والمترجم المغربي محمّد برّادة في باريس. يقول شاؤول في تمهيد المحاورة: “حاولنا في هذا اللقاء أن نقف، ولو نسبيّاً، على الحركة الثقافية في المغرب، شبه المفصولة عم ثقافة المشرق العربي. ومحمد برادة باعتباره رئيسا لاتحاد كتاب المغرب منذ أكثر من ثلاث سنوات، وكونه ناقدا وأدبيا، خير دليل إلى ما يجري هناك”. نشر الحوار ضمن كتاب “علامات من الثقافة المغربية الحديثة” العام 1979، وتعيد طِرْسْ نشره في ركن “مخزن” رغبة منها في تحيين وتفعيل النقاشات الثقافية، الأدبية والفنية، بين المغرب والمشرق.
بول شاوول: هناك ما يشبه الانقطاع بين المغرب العربي والمشرق العربي، ما هي في رأيك أسبابه؟
محمّد برّادة: لا يمكن أن نقول أن هناك انقطاعا بين المشرق العربي والمغرب العربي الآن، لأن مظاهر الاتصال كثيرة ومتعددة، خاصة بعد إحراز المغرب غلى استقلاله السياسي سنة 1956. لكن يمكن أن نلاحظ أن درجة عمق التعارف بين المشرق والمغرب لم تبلغ بعج المستوى المرجو. من ثم فإن التصورات الموجودة عند الناس في هذين الشقين من الوطن العربي لا تعجو أن تكون تصورات عامة وغير دقيقة، سواء فيما يخص المكونات الاجتماعية، أو التاريخية، أو السياسية، أو الثقافية. وعندما نستحضر الفترة الحاسمة التي يعيشها العرب الآن نستطيع أن نقرر بأن العلائق بين المشرق والمغرب العربي محتاجة إلى تعميق الصلات وإلى تعميق أسباب التعارف لكي لا تظل فكرة الوحدة العربية وإعادة بناء مجتمع جديد منخرط في العصر وقادر على التجدد الحضاري، فكرة هلامية غارقة في العاطفية والحنينية.
ب.ش: تكلمت عن أسباب الاتصال، لكنك لم تتكلم على أسباب ما أسميناه شبه الانقطاع
م.ب: بطبيعة الحال هناك الاستعمار الذي أوجد على امتداد الوطن العربي حواجز مادية وأحيانا ثقافية، جعلت تطورات كل بلد عربي تأخذ منحى خاصا. وبالإضافة إلى ذلك هناك تقصير وعجز من جانب العرب أنفسهم عن الوصول إلى صيغة من التواصل الحقيقي تضمن استمرارية في تبادل الخبرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وتفسح المجال أمام المواطن العربي ليتمكن من التعرف على البلدان العربية من دون حواجز أو رقابة، ونتيجة لانعدام ذلك، تظل الصلات بين الأقطار العربية منحصرة في الزيارات الرسمية وفي البلاغات والتصريحات المشتركة.
ب.ش: يقال إن من بين نتائج الاستعمار من جهة والانقطاع من جهة أخرى، جعل المغرب العربي يتأثر أكثر بالثقافة الغربية وخصوصا الفرنسية منها… هل يظهر ذلك بقوة في النتاج المغربي؟
م.ب: ظاهرة الاستعمار الفرنسي في المغرب حفرت أخاديد عميقة أثرت تأثيرا واسعا في مختلف المجالات والهياكل. ولعل الكثيرين اليوم يحاولون تجاهل هذا التأثير مع أنه واقع ملموس. ذلك أن فترة الحماية الفرنسية عندنا، شكلت البنيات الاقتصادية بما يجعلها امتدادا مكملا لبنيات الاقتصاد في “المتروبول” أو في الوطن الأم (يعني بها فرنسا)، ومن خلال ذلك كانت هناك سياسة تعليمية، تهدف منهجيا إلى محو الثقافة العربية في المغرب، وتعويضها بالثقافة الفرنسية ذات المفاهيم الممجدة للغرب وقيمه. ليس معنى ذلك أن الحماية نجحت في فرض الفرنسة على المغرب. فالحركة الوطنية استطاعت أن تقاوم تلك المخططات مستفيدة من الحركة الوطنية في المشرق العربي ومن الحركة السلفية في مرحلتها المشرقة. لكننا اليوم، وبعد مرور 20 سنة على الاستقلال، لا نستطيع أن نزعم أن مظاهر التأثير السلبية للاستعمار الفرنسي قد انمحت أو زالت نهائيا. ذلك أن البنيات الاقتصادية والثقافية لم تتحرر من مفاهيم تلك الفترة لتتحقق تعريبا لا يفصل بين المضمون والشكل. ونحن نعلم أن نوعية التعليم تؤثر إلى حد كبير في تكييف الثقافة والعقلية، وحتى الآن فإن أزمة التعليم في المغرب تعاني من التباس الاختيارات عند المسؤولين وانعدام سياسة قائمة على إعادة النظر بكيفية جذرية في التراث الاستعماري.
طبيعي إذن أن تكون تأثيرات الثقافة الفرنسية مستمرة وحاضرة في المجتمع المغربي. خاصة في الحياة اليومية وعند جماهير التلاميذ والشباب. لكن الشيء الإيجابي في السنوات الأخيرة هو ظهور بذور مشروع ثقافي نقدي عند جماعة من الكتاب والمثقفين باللغتين العربية والفرنسية، يرمي إلى طرح الإشكالية الثقافية طرحا جديدا لتخليصها من الاستلاب تجاه الثقافة الغربية من جهة، ومن جهة أخرى من الثقافة العربية الجامدة.
ب.ش: لكن، نظن أنه من الممكن بعد مرور عشرين سنة على استقلال المغرب، أن يتم نوع من التفاعل بين الثقافتين العربية والفرنسية، يؤدي إلى محاولة تأسيس ثقافة وطنية، خصوصا وأن معظم المثقفين السياسيين والفنيين، ذوي الاتجاهات التغييرية في المغرب قد تأثروا بأفكار ومناهج غربية ـ ـ ـ
م.ب: الواقع أن هذا السؤال يشمل مجموع الثقافة العربية، لأن المغرب جزء من هذا المحيط الثقافي ويعيش بطريقته وهذه مسألة واجهتها بقية الأقطار العربية في مراحل متفاوتة. وعمق المشكل كما أرى هو الأمام الثقافة الأجنبية ومن نموذجية الغرب، وأيضا من تقديس الماضي. ها ما فسره بعض الباحثين بانعدام الفكر التاريخي النقدي عند المثقفين العرب. هذا صحيح، لكن مع ذلك، تدعونا تجربة الثقافة العربية، منذ ما يسمى بعصر النهضة إلى الآن، إلى أن نتساءل عن أسباب فشل مشروع ثقافي جديد يحقق هذا النوع من التوازن الذي عبرت عنه والذي يطمح إليه الكثيرون كوسيلة للخروج من التعثر ومن الاستمرار في الأكل على موائد الغير. وفي اعتقادي، فيما يخص المغرب، أن مسألة التفاعل غير متوقفة على وجود فئات اجتماعية ذات مشروع ثقافي-إيديولوجي قادر على وضع أسس ملموسة لثقافة وطنية متفتحة على الثقافات الأجنبية تفتحا واعيا وساعية لتجسيد هذه الثقافة الجديدة من خلال مؤسسات وممارسات لا يتوقف وجودها على قرارات الدولة. نتيجة لذلك نلاحظ في المجال الثقافي المغربي الآن نوعا من الازدواجية: بداية تحرر ثقافي من خلال ما ينجزه أساتذة التعليم الشباب من أبحاث اقتصادية واجتماعية وفلسفية وأدبية، ومن خلال الإنتاج التشكيلي والسينمائي والمسرحي والأدبي، وهذا يشكل بداية لمشروع ثقافي آخذ في التبلور. ومن جهة ثانية هناك استمرار للثقافة التقليدية والفكر السلفي على اختلاف في الدرجات، وهذا الاتجاه، كميا هو السائد.
ب.ش: إضافة إلى هذه الازدواجية التي تكلمت عنها، هناك ازدواجية في اللغة، هل تظن أن الكتابة باللغة الفرنسية يمكن أن يكون لها مردود إيجابي على تأسيس الثقافة الوطنية التي تكلمت عنها؟
م.ب: ظاهرة الكتابة بالفرنسيّة عندنا لا يمكن أن تفصل عن استمرار ظاهرة الازدواجية في التعليم وفي بقية مجالات الحياة المكرسة لحضور الغرب. فالذين يكتبون بالفرنسية هم مغاربة حرموا من تعلم لغتهم بالقدر الذي يتيح لهم التعبير عن التجارب الصحيحة، فيكون هذا اللجوء إلى اللغة الفرنسية اضطرابا، ويكون لإنتاجهم صدى عند قرائنا بالفرنسية كما يجدون تشجيعا في فرنسا لأسباب سياسية.
ب.ش: والفاعلية الثقافية أو السياسية في المغرب لهذه الكتابات الفرنسية؟
م.ب: لها فاعلية لأن أصحابها-لحسن الحظ- لم ينفصلوا عن الواقع المغربي واستفادوا أيضا من الثقافة الأوروبية ذات الاتجاهات النقدية التقدمية ومن الحركات الفنية والأدبية الطليعية. لهذا فإن مضمون هذه الكتابات سواء في التاريخ أو في السوسيولوجيا أو الاقتصاد أو الأدب، تستطيع أن تؤثر تأثيرا أدبيا من خلال الترجمة أو من خلال المناقشات أو الممارسات باعتبار أن الكتاب المغاربة بالفرنسية لهم نفس الاهتمامات والتطلعات الموجودة عند من يكتبون بالعربية، هذا لا يعني تحبيذ هذه الازدواجية، فمعالجتها تعود إلى تغيير البنيات التي أوجدتها.
ب.ش: بصفتك رئيسا لـــ “اتحاد كتاب المغرب”، كيف تنظر إلى الحركة الأدبية الراهنة هناك؟
م.ب: الحديث عن الأدب المغربي العربي الجديد، يستدعي التذكير بحداثة سنه لأننا نعرف مدى تأثير المؤسسات الثقافية والشروط الاجتماعية على كل إنتاج أدبي أو فكري. ومن هذه الزاوية، فإذا كنا نجد اليوم محاولات ناجحة في الشعر والقصة والمسرح، فإننا لا نستطيع أن نغفل التأثير الفعلي للأدب بما هو عليه في الفنون التشكيلية أو الأبحاث التاريخية. ويخيل إلي الآن أن المبدعين عندنا بدأوا يدركون ضرورة توفير من نوع من الخصوصية لإنتاجهم، تستمد من الواقع المغربي لا من أحسن التراكيب الفنية. وهنا نطرح مسألة الطلائعية: هل يجب أن نجرب الأشكال “المكتملة” لنحقق تجاوزا للأدب التقليدي، أم أن الأمر يتعلق في العمق بتطوير الشكل والمضمون من خلال إنجاز إنتاج مشدود إلى المرحلة وإلى اهتمامات القراء، ولو بدا ذلك “متخلفا” عما أنجز في المشرق أو في المغرب. بعبارة أخرى إن مسألة الممارسة الثقافية مطروحة عندنا بحدة، وعندما نضيف إلى ذلك قلة الإمكانيات المادية عنج العناصر الساعية إلى إيجاد ثقافة جديدة نستطيع أن نفهم دوائر المد والجزر في الإنتاج الأدبي المغربي. وقد لا نستغرب أن نصوصا شعرية أساسية لشعراء مثل محمد السرغيني وأحمد المجاطي ومحمد الخمار، لم تنشر حتى اليوم في دواوين، كما أن المجاميع القصصية والمحاولات النقدية والروائية تبحث بدورها عن ناشر.
ب.ش: وبالنسبة إلى المسرح المغربي؟
م.ب: المسرح عندنا، يعيش أزمة أكثر حدة لأن معظم العاملين في هذا المجال هم من الشباب ال يجدون في المسرح وسيلة لربط الصلة بالجماهير وإظهار رأيهم في المشاكل الاجتماعية الكثيرة، لكن المسرح متوقف على الإمكانيات المادية، وهذه الإمكانيات تقدمها الدولة بشروط تفرض رقابة على الإنتاج المسرحي، وتحصره في دائرة الهواية. لذلك فإن هذه الطاقات الشابة يؤول بها الأمر إلى التكرار والتجمد عند مستوى محدود. أما العناصر الرائدة في المسرح المغربي كأحمد الطيب العلج، والطيب الصديقي وفريد بنمبارك، فإنها لم تنجح في تأسيس فرقة دائمة، فآل بها الأمر أيضا إلى نوع من الممارسة الهاوية.
ب.ش: بمعنى آخر، هل تقصد أن المسرح المغربي لم يستطع تأسيس جمهور يؤمن له الاستمرار والتطور؟
م.ب: فعلا. لكن المسؤولية تعود أيضا إلى الجمهور نفسه وإلى السياسة الثقافية للدولة.
ب.ش: لكن هناك من يقول أن الفنون التشكيلية والأعمال السينمائية متقدمة على سائر النتاجات الثقافية الأخرى؟
م.ب: الواقع أن الشعر والقصة والتشكيل والسينما كلها متطورة عندما نقيسها بالإنتاج التقليدي أو بانعدام هذه الأشكال من التعبير من قبل. بطبيعة الحال نجد أن الفنون التشكيلية تتميز بتجارب ذات ملامح طلائعية رغم أن فهم هذا الإنتاج يظل محصورا في فئات قليلة، ورغم أنه لا ينجو دائما من سلبيات الاستهلاك النخبوي. والنقطة المحورية في المناقشات حول الفنون التشكيلية في المغرب الآن هي مدى قدرة الطابع التجريدي على التعبير على حساسية المغاربة وعن قضاياهم. وهذا ما تحاول الجمعية المغربية للفنون التشكيلية التي يرأسها محمد المليحي أن تجيب عنه من خلال المعارض والمناقشات واللقاءات والبحث عن صيغة جديدة لممارسة الرسم مثلما قام به أعضاء الجمعية أخيرا من إنجاز رسومات على جدران مدينة أصيلة بمشاركة أهم الفنانين، فريد بلكاهية، ومحمد القاسمي، ومحمد شبعة، وميلود الأبيض ورحول الميلودي. أما في مجال السينما فإن هناك أفلاما قليلة ذات مستوى جيد مثل “وشمة” لحميد بناني، و”ألف يد ويد” لسهيل بن بركة، و”الشركي” لمومن السميحي، وأخيراً “الأيام الأيام” لأحمد المعوني الذي يعرض حاليا في باريس. لكن هذا الإنتاج السينمائي يظل شبه منعدم لأنه لا يلاقي رواجا تجاريا في المغرب، كما أن المخرجين لا يتلقون مساعدة من الدولة.
محمّد برّادة (الرباط، 1938)
روائي وناقد أدبيّ مغربيّ.
بول شاؤول (لبنان، 1942)
شاعر ومترجم وناقد أدبيّ لبنانيّ.