“الإله أنقذني. ليس الإله الذي تعرفونه، وإنّما آلهة الأسلاف”.
فرنسوا تومبالباي
في تاريخ دولة التشاد الحديثة، يُعدّ الرئيس الأول فرنسوا تومبالباي (1918-1975)، أحد القلائل الذين اشتهروا بالوقوف في وجه ما أضحى يُسمّى بـ”الرّجل الأبيض”. كانت ثمّة تمرّدات، ومُجابهات وثورات صغيرة، وذلك منذ سيطرة المستعمر الفرنسيّ على البلاد بحلول عام 1900م. هكذا، مع نهاية الأربعينات من القرن الماضي، كان الفرنسيّون قد تحوّلوا إلى نوع من الآلهة بعد أن سيطروا على كل شيء، وأثقلوا كاهل الفلاحين والمزارعين بالضّرائب.
مع مجيء العام 1946م، تجرّأ شاب من قبيلة السّارا التشاديّة، وتعارك مع رجل أبيض، فانتهت بإصابات بالغة تعرّض لها الجندي الفرنسي. كان السيد فرانسوا تمبلباي مديراً لابتدائية بمدينة كُمْرا. قرّر الرجل أن يزرع القطن حول مدرسته ويبيعه للفرنسيين ليجني منه ما يساعده على توفير الكنبات والكراريس لتلاميذه، نجحت الخطّة، وبدأ الرجل يربح حوالي ثمانمائة فرنك إفريقيّ. كان هناك إداري فرنسي يعمل كمتدرّب في الإدارة الإستعمارية لبلاده قد علِمَ بالأمر فقرر فرض ضريبة مستخدماً لغة لبقة أقنع بها الرجل وصار يأخذ نصف أرباح المزرعة.
توالت الأيّام وتغيّرت نبرة الكلام، فصار الإداري يرسل ضابطاً فظاً ويطلب أموالاً قبل موسم بيع القطن! ذات مرّة، بعث ضابطه وطلب جباية إضافيّة، لكن تمبلباي رفض بشدّة. وصل الإداري الفرنسيّ، الذي كان يُكنّى جان القُواع (Jean le lièvre)، وصفعَ الشاب صفعة قوية بعد أن شتمه وسبّه مستخدماً مفردات مشينة بما فيها “الزنجيّ القذر” (Sale nègre). غضب الإفريقيّ، ولم يتحمّل، واشتعلت فيه جذوة الغضب، فضربه وطرحه أرضاً، ومرّغ أنفه في التراب وسط صيحات تلاميذه.
في ذات الليلة، انتشر الخبر في أرجاء مدينة كُمرا، وردد الجميع: “تمبلباي انتصر على رجل أبيض!”. كانت المرّة الأولى التي تجرّأ فيها رجلٌ من السّارا، وضرب رجلاً من الموظفين البيض! كان الاعتداء عليهم، أو الاشتباك معهم، بمثابة جريمة كبرى. تلقّى التشاديون الحدث كعمل بطوليّ قام به رجلٌ شجاع، وذُكر اسم تمبلباي باعتزاز وتقدير.
هذه حادثة عادية، وربما حدثت العشرات مثلها في مختلف قرى الجنوب، لكن هذه بالذات ذاعت واشتهر بطلها، بل إنّ المحليين السياسيين قد وصفوا المعركة بأنها إحدى أهم الأوراق التي استخدمها تمبلباي حتى وصل إلى رئاسة الجمهوريّة.
النشأة
في ليلة الخامس عشر من يوليو عام 1918، ولد طفل في قرية بيسادا التي تبعد 15 كليومتر من مدينة كمرا. لا يبدو تاريخ ميلاده قديماً لرجل عاش طويلا حتى أوآخر الخمسين، لكنّ ذلك لم يمنع التشاديين أن يصفوا حقبته بالقِدَم في مجازاتهم مردّدين: كان هذا على هذه زمن تمبلباي”. عاش تمبلباي حياة هادئة، وتعلّم في الإرساليات الدينية، حتى صار مدرساً في ابتدائية بمدينة كمرا، وعمل هناك دون أن يعرفه أحد حتى إلى أن حلّ خريف 1946م، قصار اسمه على كلّ الألسنة. بعد هذه الضجة صار نقابيا ثم واصل يناضل من داخل أحزاب تأسست كي تحل مكان فرنسا. بفضل صيته وعمله النقابي أنتخب رئيسا للوزراء في عام 1959 وتم تنصيبه رئيساً للجمهورية في غشت عام 1960م، بُعيد استقلال جمهورية تشاد.
التحوّل
عقب انقلاب فاشل عام 1972م، ظنّ فرانسوا إنّ هذه إشارة من الأسلاف. أعلن البروتستانتي كُفره بالمسيحية، ونشر عودته إلى “اليوندو” (Yondo)، ديانة الأسلاف، من خلال راديو تشاد الذي تم تعميده إلى “صوت الأسلاف” (La voix des ancêtres). لم يكتفِ الرجل بوثنيته، بل طرد الإرساليات التي كانت تقوم بالتبشير بالمسيحية، وقتل رجال دين من الديانة الإسلامية، وآذى كلّ من خالفه. وسط تلك الدوامة، عمّد أسماء الكثير من المدن من أسماء وضعها المستعمر إلى أسماء تشادية؛ وهكذا صارت أرشامبول تسمّى سار، وفور لامي تحولت إلى أنجمينا. بل غيّر الرجل اسمه الشخصي من فرانسوا إلى انْقرْتا. تلك الثورة الثقافية، التي سماها “تشادوتود” (Tchadutude)، كلّفته التخلّي عن الزي الغربيّ، فارتدى ملابس إفريقية تأثراً بـ جوزيف موبوتو، رئيس دولة زائير آنذاك. وأسّس أول أوركسترا تشادية سنة 1964 وسمّاها “شاري جاز“، لتنافس فرقة “تابوليه” الكونغولية، وليكون نداً لرئيس الكونغو موبوتو سيسي سيكو (1930-1997)؛ ومن فرقة شاري جاز خرج معظم المغنيين التشاديين…
التخبط
بعد انقلاب فاشل بداية عام 1971م، واندلاع ثورة في الشمال على الحدود التشادية مع السودان وليبيا، ارتبك الرئيس وارتاب من الجميع. كان الأسلاف وأجداده الموتى يهبطون ليلاً ويجلسون إلى جانب مخدعه ويخبرونه بما يفعل. لم يعد هناك دور للمستشاريين ولا قرارات يتخذها الوزراء؛ الأسلاف كانوا يقومون بالعمل كله.
قطع تمبلباي علاقته مع ليبيا هناك حيث القذافي يدعم ثورة FROLINAT التي تتكون من شماليين ينتمون إلى الدين الإسلامي. بعد ذلك بأشهر ضرب البلاد مجاعة، وساءت العلاقة بين تمبلباي وفرنسا إثر قطع علاقته بإسرائيل، وإعادتها مع العقيد الذي توقف عن دعم ثوار فرولينا مقابل أن يتخلى تمبلباي عن إقليم أوزو.
كانت فرنسا قد بدأت تشكّ في نوايا تمبلباي الذي أصبح فجأة وطنياً، وشرع في تأميم الشركات، بل وذهب بعيداً في الإشتراكية، والتخلص من التبعية، وكانت المؤسسة العسكرية ترى أنه يجب مقاتلة “ثوار فرولينا” بحزمٍ أكبر، وإلاّ سوف يسيطرون على كافة البلاد، وكان تمبلباي أو “الرجل صاحب الوجه المفصّد” (L’homme au visage balafré) يستهين بقدرات الثوار، ويردد بأن الأسلاف سوف يحمون حكمه، بينما العسكر كانوا يؤمنون بأهم ما تعلموه في الميادين: “لا تستهن بعدوك أبداً”.
يوم 17 نونبر 1972م، زار عاهل المملكة العربيّة السعوديّة فيصل بن عبدالعزيز آل سعود جمهوريّة تشاد، زيارة تاريخية قدّم فيها لتشاد أكبر مركز تعليميّ وأكبر مسجد وأكبر وأحدث سوق في البلاد (ما زلت الأكبر والأحدث حتّى اليوم). يقال إنّ تمبلباي لاحظ قلة عدد المسلمين في العاصمة، التي يسيطر عليها المسيحيّون، فألبس المئات جلاليب بيضاء كي يقنع الملك بأن البلاد فيها أكثرية تدين بالإسلام.
لكن انْقرْتا كان يفرض عمليّاً فلسفة اليوندو على من يرتقون المناصب العليا، فانزعج الجنود واحتجّوا. اعتقل فليكس مالوم قائد القوات المسلحة. مارس/شباط من العام 1975، يرتكب تمبلباي الخطأ القاتل حين يعتقل من تبقى من قادة القوات المسلحة؛ المؤسسة الأكثر قوة وتنظيماً. وفي الثالث عشر من نيسان، أخذ مزاج المساء يتبدل منذ الصباح الباكر، وفي المساء تقوم القوات المسلحة بانقلاب يؤدي إلى قتل الرئيس بقيادة الكوماندا ودال عبدالقادر كامونغيه.
كان “نغارتا” Ngarta على علمٍ بالعملية، وكان يستطيع أن يتحصنّ أكثر، بل كان بإمكانه إطلاق ساقيه للريح. لكنّه قرر أن يأتي بأحد المغنين ليغني عليه تمتمات موته إلى أن يرسل الأسلاف من ينقذه من المصير. حين سمع خطوات الرجال أخرج خنجراًصغيراً، خنجرا باركه الأسلاف، أعتقدَ أنه يحميه، لكنّ الخناجر لا تستطيع مجابهة البندقية حتّى لو كانت مباركة.
بحسب “كامونغيه” فإن الرجال لم يريدوا قتله، بل اعتقاله، لكنّ الرئيس غضب حين قابلهم، فهاج وانقضّ على أحد الجنود وعضّ أذنه فأطلق الجنديّ صرخة أخافتْ رفيقه فأطلق رصاصتين على الرئيس، ولذلك لم يمتْ في الحال، وإنما أثناء نقله إلى المستشفى العسكري.
بحسب مطلق النار فإن زميله حين أمسك الرئيس من ذراعيه قفز وعضّ أذنه فخاف فـ”ظننتُ أن تمبلباي سوف يتحول إلى غول، أو ذئب ـ فأطلقت عليه النار”. كانت الخطة أن يرسل الرئيس إلى شمال البلاد ـ فايا ـ بالتحديد. ليسجن هناك، لكن للأسف أرسلوا جثته إلى هناك. والمؤسف أن العسكر لم يسلموا جثة الرجل إلى أسرته، بل تمّ دفنه بشكل سريّ في مكان مجهول. وبعد تسعة عشر عاماً قضاها تمبلباي يتملل في قبره المجهول، أي في عام 1994 وبفضل حفّارٍ شارك في دفنه، استطاعت الحكومة أن تخرج رفاته ودفنه أخيراً في ” بيسادا. وارتقت روحه لتعانق أرواح أسلافه.