على طول عقدَي الستينيات والسبعينيات، وبدرجة أقلّ في العقود الثلاثة اللاّحقة، واكب الفنان اللّيبي محمّد الزواوي (1936 – 2011) القضايا التي كانت حديث السّاعة (ترندز): مشكلة المواصلات العامّة، قرار منع الخمور في ليبيا، صدمة التحديث، طفرة جمعيات المرأة، ضعف الإرسال التليفزيوني في الأرياف، مشاكل البنية التحتية، موجة أشرطة الإجرام والجنس، فوضى السينما، الثورة، حرب فيتنام، كمبوديا، الحرب الباردة، موسم جني الزيتون… وطبعاً، هَجْمَة الدّلّاع ! يتناول هذا المقال جانباً من تجربة الزواوي الذي لا يُعدّ من رواد الكاريكاتير فحسب، بل أيضاً من رواد القصة المصوّرة والرسوم المتحرّكة والنّقد الثّقافي في المنطقة الناطقة بالعربيّة. يُسلّط الكاتب الضوء على الوجه التوثيقي لأبرز الاتجاهات الثقافية في ليبيا التي كانت ترندز حينذاك، تلك التي زمّمها الزواوي بريشته بوصفه أحد مؤرّخي السرديّة الليبيّة الـمُغيّبة…
عن ترند (وَفرة الدّلّاعْ) نهاية الستينيّات، تنشر مجلة “المرأة” رسمًا كاريكاتيري بريشة “الزواوي” يُظهِر والدَ عروسٍ معروضة للزواج في شِوال مُحكَم، وبحزم مُفرط يخاطب الأبُ عريسًا شابًّا: “ماتفتحش يا أخ، شنو تحسابني.. نبيع في دلّاع!”.
ترند “هجمة الدّلّاع”/ جيلان تحت سقف واحد:
الدّلاع هو الاسم المحلي “للبطيخ” في ليبيا وما جاورها، وقد جرت العادة على “رَشْم” الدّلّاعة بالسكين قبل شرائها، ليضمن الزبون معرفة محتوى مُرادِهِ. والد العروس في ذلك الرسم المتقن بتفاصيله، والذي يظهر بشارب مفتول وملابس تقليدية حاملا بين أصابعه سُبحةً، يستعير مجاز الدلّاع، للتوكيد على قيمة راسخة من قيم جيله ترفض التقاء العروسين لغرض التعارف قبل الزواج، فيما يظهر الشاب العريس، بملابس تبدو ملابس موظف من الجيل الجديد، مندهشًّا من غرابة الطرح.
في الستينيّات كانت ليبيا، كما بعض دول الجوار، تشهد ذروة تحول اجتماعي أبْرَزَ قيمًا مناهضة للقيم السائدة. كان “الصادق النَّيهوم”، وهو مفكر ليبي ذائع الصيت نَشَط في الفترة ذاتها، يرى أن صعوبة حوار الجيلين في ليبيا قائمة على اختلاف جوهري في المرجعية بينهما؛ فالمجتمع الليبي – حسب النَّيهوم – قد “ذهب إلى المدرسة في يوم واحد، ولم يذهب بالتدريج”، والنتيجة أنْ عاش في البيت الواحد من كل بيوت ليبيا تقريبا جيلان اثنان تحت سقف واحد: جيل أُمّي (أو ذو تعليم ديني في أحسن الأحوال)، وجيل متعلم في مدارس حكومية حديثة. وما الحوار المجتمعي المتعثر حينها إلا تعبيرا عن هذه المفارقة الأسريّة.
كان الزواوي – كما النيهوم – من أبناء الجيل الثاني لأسرة الستينيّات، فقد وُلِدَ الزواوي عام 1936 في إحدى ضواحي بنغازي (أو ربما في بنغازي قبل النزوح الكبير في الحرب العالميّة الثانية)، وتلقّى تعليمه في المدرسة الداخليّة ببلدة “الأبيار”. اضطر إلى تركها مبكرا، لكنه دأب على التعلم الحر، وواصل تحصيله المعرفي اعتمادا على خلاصة ما استفاد من التعليم الابتدائي الذي كان في تلك الفترة جيدا إلى حد ما. بعد الحرب العالمية الثانية، والتعافي التدريجي لمدينة بنغازي، عادت عائلة الزواوي كما سائر العائلات النازحة إلى بيتها، في شارع “بومَدْيَن” في أحد الأحياء الحيوية في بنغازي، حي “البِرْكة”، وتحت سقف بيت مجاور، تحديدًا بيت أخته، نشأ فنان آخر أصبح لاحقا أحد أيقونات الفن الليبي، إنه المسرحي والشاعر الغنائي “سليمان الترهوني”، صاحب “يْسَلّم عليك العقل”، التي لحنها وغنّاها فنّان ليبيا الأكثر شهرة “محمد حسن”، لتبقى إحدى الأعمال الخالدة في الوجدان الليبي.
انتُدِب الزواوي سنة 1963 للعمل في مجلة الإذاعة في طرابلس، ثم في مجلة “المرأة”، وهي مجلة ليبية تقودها السيدة “خديجة الجهمي” إحدى رموز الحراك النسوي في ليبيا منذ فترة الاستعمار الإيطالي. وبفضل الأعمال الغزيرة الـمُتقنة للزواوي، التي دوَّن فيها نظرته الناقدة – والساخرة جدا – إلى الشخصية الليبية بتناقضاتها وسذاجتها وجمالياتها؛ سطَعَ نجمُهُ وأضحى الفنان التشكيلي الأكثر شعبية في ليبيا، وعلى طول عقدَي الستينيات والسبعينيات وبدرجة أقل في العقود الثلاثة اللاحقة واكب الزواوي القضايا التي كانت حديث ساعة (ترندز): مشكلة المواصلات العامّة، قرار منع الخمور في ليبيا، صدمة التحديث، طفرة جمعيات المرأة، ضعف الإرسال التيلفزيوني في الأرياف، مشاكل البنية التحتية، موجة أشرطة الإجرام والجنس، فوضى السينما، الثورة، حرب فيتنام، كمبوديا، الحرب الباردة، موسم جني الزيتون.. وطبعا هَجْمَة الدّلّاع.
“ملهى الشاي الأحمر”/ ترند منع الخمور في ليبيا:
عن ترند منع الخمور في ليبيا 1969، يرسم الزواوي أحد زبائن ملهى ليلي، يخاطب النادلَ بلطف “جيب للمدام بَرَّاد شاهي مربرب تستاهله، وأنا جيبلي طاسة حلبة”.. وفي رسم آخر يصوّر شرطيا تبدو عليه ملامح الحزم، يقتاد شخصا يحمل قنينة، وتبدو عليه علامات السكر المفرط، فيما يظهر في الرسم شخص ثالث يقترب بخلسة من المقبوض عليه هامسا: “غير قولّي يا أخ، منين حصّلتها!”.
بالنسبة لي، ولأي فرد من أبناء وبنات جيلي، قد يبدو وضع ليبيا الخالية – رسميًّا – من الخمور أمرا مفروغا منه؛ كأن الوضع كان على هذا النحو دائما. غير أن أعمال الزواوي، وتحديدا لوحاته عن “ملهى الشاي الأحمر”، ومشهد “البار تندر” الذي يتفنن في تجهيز رغوة الشاي الأحمر لخدمة زبائنه من خلف “بار الشاي الأحمر”، الذي اقترحه الزواوي ساخرا في رسوماته بديلا عن بار المشروبات الروحيّة، وأيضا مشهد عمّال النظافة الذين يجمعون كوما من قناني الخمر “موش قالو ممنوع!”، وكذلك الرجل المتخفّي الذي ما إن يكشف عن الوجه الداخلي لمعطفه حتّى تتبدّى أرفف عرض لمختلف أجناس المشروبات الروحيّة، وعن النخلتين الـمُثقلتين بقناني اللاقبي – (*خمر محلي يُصنع عبر حَفْر قِمَمْ النخيل وإسالتها) – التي تتشاكى من تبعات قرار المنع، باكيةً “منعوا الخمرة، جا الكيد علينا!”؛ كلّها تدعونا إلى إعادة تخيل الربكة التي شكّلها القرار المفاجئ لمنع المشروبات الكحولية في ليبيا نهاية الستينيّات.
“حوشي هو الجمعيّة”/ ترند جمعيات المرأة:
كانت السيدة خديجة الجهمي، بدورها، إحدى أوجه حوار الأجيال، وإن كانت تنتمي إلى جيل أقدم، ولأنها كانت تدرك الأبعاد الثقافية المترامية لهذا الحوار المجتمعي؛ فقد سعت إلى استقطاب الزواوي في مجلة المرأة، وقد أسهم باقتدار في حوار المرأة إسهاما بدا لاذعًا للجميع، حيث لم تسلم المرأة ذاتها من سلاطة ريشته.
في إحدى رسوماته، تقترح إحدى النساء في جلسة نمائميّة: “شنو رايكن يا نساوين، حتى احنا نديرو جمعية، بشرط أنا اللي نبقى الرئيسة”. ويستمر حوار “الرئيسة” في رسم آخر مملوء بالتجاذبات والضحك بين نساء يتقاتلن على منصب رئيسة جمعية لا قيمة لها.. وفي رسم ثالث تقتحم امرأة مكتبَ التسجيل في “جمعية المرأة”، مع كومة أطفال (عفاريت) طالبة الانضمام لأنها تعرف كيف “تطبخ، وتطيّب الشاهي”، لكنها تشترط شرطا مُربكا “نجيب عويلتي معايا”.
لطالما أظهر الزواوي جمعيات المرأة على أنها أماكن للصخب وتبادل النمائم والطعام ومرتع الأطفال النزقين. تقترح إحدى نساء رسوماته بعد قرار إغلاق جمعيتهن “درتلكن (ارشيدة) حارّة باش تفكّركن بأيام الجمعية”، ثم تقدّم عرضَها “من اليوم حوشي هو الجمعية، والحاضرة تعلم الغايبة”. ربما بدا صعود تلك الجمعيات، في نظر الزواوي، ليس أكثر من طفرة بحاجة إلى إعادة ترتيب، فهي بطبيعة الحال ليست مؤسّسة وفق استراتيجيات البناء المجتمعي، وعليه، لا بدّ من لذعها بالـمُزاح الثقيل لكي تستقيم.
ولا بد هنا من الإشارة إلى دور تلك الجمعيات في مسار التطور التدريجي للحراك المجتمعي في ليبيا؛ فمذ تأسيس “جمعية النهضة النسائية” سنة 1954، على يد الأم الروحية للنضال الليبي النسوي، السيدة “حميدة العنيزي”، واستمرار المطالب السياسية، وإسهام رائدات الجمعيات النسوية في الحركة الاجتماعية والأدبية والثقافية، كالأديبة الرائدة، المثقّفة “زعيمة الباروني” (صاحبة مجموعة “من القصص القومي” 1958)؛ نالت المرأة الليبية مكتسبات لا بدّ من الإشادة بها، منها حق الاقتراع في 15 نيسان/أبريل 1963.
وكما يبدو من أعمال الزواوي، فهو لا يسخر من المرأة الليبية في ذاتها؛ بل من نموذجها الثقافي المنغلق الذي ترتضيه لنفسها. يرسم العاشقَ أمام عتبة بيت المحبوبة: “زعمه يا حبيبتي تشبهي للصورة هللي في خيالي؟”، فترد المعشوقة من خلف الباب: “طيّح سعدها وبيش زايده عليَّ هللي في خيالك!”.
لقد وقف الزواوي في صفّ المرأة منتقدا ذكورية متعالية تكيل بمكيالين، تلك التي يمكن الوقوف عليها في مجموعة لوحات “العائلة في البحر”، حيث يحجب ربُّ الأسرة نساءَ العائلة في الخيمة، وينطلق هو نحو البحر محرّرًا عينيه نحو نساء أخريات.
ترند التحديث/ وجهان لقيَم مجتمع واحد:
زوجان ليبيان يتنقّلان في القاهرة، تظهر الزوجة عصريّة متحررة من “فَرَّاشيتها” التي يحملها عنها الزوج، فجأة يظهر في الرسم شخص ثالث تعلن هيأتُهُ أنه ليبيّ هو الآخر، فترتبك الزوجة: “ووك عليَّ يا حشمتي، ليبي خاطم.. عطيني فَرَّاشيتي”.
ربما أدرك الزواوي بطريقة ما أن ثنائية الجيلين في ليبيا، تتداخل مع ثنائية أخرى: ازدواج قيم المجتمع الليبي بين الحديث والتقليدي، وهي ازدواجية رسّخها المستعمر الإيطالي عبر العمل على بناء مجتمع له وجهان: وجه تقليدي تمثّل في الحفاظ على الأعراف المحلية ونظام التعليم الشعبي والديني، وآخر حديث تجسّد في فرض البنية التحتية والبناء البيروقراطي والقانوني.
كثيرا ما تظهر هذه الثنائية في رسوم الزواوي. في لوحة “مختار الـمَحلّة” مثلا، ينهمك المختار في لعب “الشيزة”، وسط حلقة من الكهول العاطلين في شوط يبدو ساخنا، فيما يستجديه الـمُراجعون للنظر في أوراقهم التي لا يمكن إتمامها دون ختم مختار محلة شبه أُمّي.
تلك، إذن، ريشة الزواوي الذي لا يُعَدّ من رواد الكاريكاتير الكبار فحسب؛ بل أيضا من رواد القصة المصوّرة والرسوم المتحرّكة والنّقد الثّقافيّ، ولقد أرّخ لأبرز الاتجاهات الثقافية، المحلية والعالميّة، وله تجربة في الكاريكاتير السياسي العالمي جديرة بالتقدير، وحينما توفي في الخامس من حزيران/يونيو 2011، في مرسمه بطرابلس، فوق آخر لوحاته التي لم تكتمل؛ كان قد ترك للوجدان اللّيبيّ إرثًا هائلًا مشحونًا بالعاطفة والصّراحة والفرح والصّدق الـمُضحك، عبر ثلاث مجاميع ضخمة: الوجه الآخر، أنتم، نواقيس. التي تضم مئات اللوحات، وقدّم للعالم مدرسة فنيّة عالية الخصوصيّة نعجز عن حصر سماتها في هذا المقال.
ربما من الضروري الإشارة إلى كتاب الباحثة فاطمة غندور، الموسوم بـ”محمّد الزّواوي، متعة السّخرية – مجموعة من الكُتّاب”، الصادر في 2021، عن مجموعة “الوسط للنشر”، لما فيه من آراء متنوعة حول التجربة المتفرّدة للزواوي، وأيضا لجودة مُقدّمته التي عرضت فيها غندور جانبا من التفاصيل الفنية والإنسانية، تلك التي سمّتها “الفرح الساخر الجوّاني”، وهي عبارة كانت قد استعارتها منه شخصيا، حينما أسَرّ لها ذات لحظة تكريم خجولة: “قد لا يظهر الفرح عليّ، لكن فرحي جوّاني”.
عن كسل الشخصية الليبية يصوِّر “الزواوي” شخصا يقصد شركة مقاولات بحثا عن عمل حاملًا معه فِرَاشه ووسادته “تبّوش عامل يا أخ؟”. وعن ضعف الإرسال التلفزيوني في الأرياف، يقول ربّ أسرة يحمل عائلتَه وتلفزيونَه ولاقطه الهوائيّ مع أثاثه المتواضع فوق عربة يجرّها حيوان “ما شبحناش التلفزيون باهي في جنزور، قلنا عاد نسكن في طرابلس باش نشبح الفن”.
حسام الثني (بنغازي، 1984)