(…) أُرسل إلى أبي بكر مقتلُ أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمرَ أتاني، فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهبَ كثير من القرآن إلّا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو واللهِ خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري”؛ الرواية السنية.
(…) إن علي بن أبي طالب لزم بيته وأقبل على الصحف والشظاظ والأيسار والرقاع، فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع، فبعث إليه علي: إني مشغول وقد آليتُ على نفسي يمينًا أنْ لا أرتدي رداءً إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه. فسكتوا عنه أيامًا، فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في المسجد، فنادى عليّ بأعلى صوته: «يا أيها الناس، إني لم أزل منذ قُبض رسول الله مشغولًا بغسله، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد، فلم يُنزل الله تعالى على رسول الله آية إلا وقد جمعتها، وليست منه آية إلا وقد جمعتها، وليست منه آية إلا وقد أقرأنِيها رسول الله وعلمني تأويله”. ثم قال لهم علي: «لئلا تقولوا غدًا إنا كنا عن هذا غافلين. لئلا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي، ولم أُذكّركم حقي، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته»، فقال عمر: «ما أغنانا ما معنا من القرآن عما تدعونا إليه». ثم دخل علي بيته؛ الرواية الشيعية.
***
في الأثرِ أنَّ القرآن لا تنقضِي عجائبُه. لوهلةٍ، يبدو هذا القولُ دالّاً على ما تواضع عليه المسلمون من أسرار خارقة يستبطنها النص القرآنيّ المؤسِّس. على أنّ ما لا مناص من الإشارة إليه أن النص القرآني أو المدونة التي يتعبّد بها المسلمون ظلت طوال أكثر من أربعة عشر قرناً مجالاً خصباً للطروح؛ طروح تستهدف، في العمق، محاولة الكشف عن بنية عميقة للنص القرآني عبر اعتماد مناهج لا تقف عند ما ورد في المرويات المشهورة عند المسلمين في ما أُطلق عليه “عملية جمع القرآن”، بل تسعى إلى قول المزيد متكئةً على علوم النحو والبلاغة، وما يتصل بها من فنون تصريفِ القول عند العرب.
كثرةَ النظريات حولِ نصّ يتسم بهذا القدر من التقديس في مِخيال جماعةٍ دينيةٍ حيّة وعظمى ليس أمراً عابراً، بل هو أمرٌ يشير إلى انغراس النص عميقاً في البنية التأسيسيّة لشعوب حضارة كبرى، وإلى كونهِ نصاً يتخلّل مستويات اللغة بما هي مجال تداوليّ جامعٌ في الخطاب وبالغ الدلالة والخصوبة. بهذا المعنى، يشير النص بما هو أصل وقاعدةٌ إلى كونه ميداناً للهيمنة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تسعى جماعاته (جماعات النص وشعوبه) في ظلها، سواء عبر نفيه أو نقده، إلى تأسيس خطاب متماسك تستفتح به الدنيا أو تحتكر من خلاله مفاتحَ الآخرة.
وعجائبُ النص، فيما ورد في الأثر، ليست بالضرورة ما يتوارد على نحو مباشر في مخيلة العامة من كونِ القرآن، بما هو كلام الله، ذا عجائب ذاتية لا تحصى متّصلة بمصدره السماويّ، بل إن أهل التفكر بالنص اللغوي يرون في العجائب شكلاً من التواشجات ما بين الآيات والسور، مرتبطة بقدرتها الفائقة على توليد ومضات المعنى. تضع تلك التواشجاتُ النصَّ مراراً وتكراراً على محك التأويل، فالتركيب اللغوي مكتمل وشفافٌ إلى حدود يتيه بها القارئ في سعيه وراء معنى محدّد فيكتشف أن بداية نفقِ التأويل هو آخرُه، وأن البسائط النصّية مدوّرة سيالة تدفق بمقدار ما يجتهد المتلقي ذو الصفة المخصوصة، ونعني ذاك المنجذبَ إلى فعل قراءةٍ قرآنية مشروطة.
ما إن مات محمد النبيّ حتى انصرف عليّ بوصية من النبي وفق بعض المرويات إلى جمع القرآن المفرّق في سعف النخل والحجارة وعظام الإبل، وفي مروياتٍ أخرى تولّدت فكرة الجمع بعد وقعة اليمامة إذ قتل كثير من القراء الحفَظة فخاف الخليفة ضياعَ القرآن وأمر بجمعه. على أن عملية الجمع اكتملت في خلافة عثمان بن عفان وصار القرآن مصحفًا مفرّقاً في الأمصار. والجمعُ خوفاً من ضياع السور والآيات قد طرحَ منذ البدء غيرَ إشكاليةٍ. من هذه الإشكاليات مسألة ترتيب السور على النحو الذي استقرت عليه المصاحف. أورد اليعقوبيّ، وهو مؤرخ مرموق من مؤرخي الثالث الهجري، ترتيباً مُغايراً للترتيب الرسميّ، منسوباً إلى علي بن أبي طالب، مقسِّماً النص العظيم أربعةَ أقسام. هنا، تبرز مسألة البنية التركيبية لسور القرآن بوصفها إشكالية تتصل بإشكالية آلية الجمع الرسمية، فإلامَ تستند في العمق تلك الإشكالية؟ هل ترتيبُ النصّ هو ترتيبٌ توفيقي مبلَّغ من الله إلى الرسول ثمّ نقله الرسول إلى صدور الصحابة المريدين؟ ولو صحّ ترتيب ابن أبي طالب الوارد في متن اليعقوبي، فهل يمكن القول إن للنّص ترتيبين مختلفين لا يتعارضان إذ كلاهما مبلَّغ من الرسول واختلافهما يشبه اختلاف القراءات حيث تراعى لغات القبائل؟ أم أنّ الترتيب القرآني ليس سوى عمليّة تاريخية محض راعت الحاجة الملحة إلى جمع النص المفرق بالتوازي مع جمع أمة العرب التي كانت مفرّقة قبائلَ شتى؟ أما الطرح الأخير، وفي ظل تعدد الأسئلة والإبهام فيبقى الأقرب إلى المنطق من حيث كون الترتيب الذي بين أيدينا هو ترتيب يورد السور في الغالب من أطولها إلى أقصرها مع بعض الفروقات، وهو يراعي سمة عقلانية تنحو غالباً إلى جمع المبعثر ضمن أنساق موحدة بهدف التيسير والإفهام.
ليس في ما قيل آنفاً من تساؤلات حول النص القرآني، لناحية جمعه، من جديدٍ لم يقل من قبل، بل إن ما ورد يعكس إشكاليات مبسوطة جملة أو تفريقاً في المتون، قديمِها وحديثها. والأقدمون على وجه التحديد لم يقفوا عند هذا الحد من التساؤل بل جاوزوه إلى حد طرح آراء إشكالية تنمّ عن وعي عميق بمسألة الوحي النازل على قلب الرسول؛ هل نزل القرآنُ معنىً وألفاظه منسوبة للرسول أم نزلَ القرآن معنىً ولفظاً على قلب الرسول كما هو الشائع المشهور؟ هل تركيبُ القرآن مما في استطاعة البشر أن يأتوا بمثله وقد صرف الله الاستطاعة عنهم (مفهوم الصرفة؛ النظّام المعتزلي) أم أن التراكيب معجِزةٌ بلاغية لا قِبل لبشر أن يأتي بمثلها؟!
ولئن كنّا من أصحاب الرأي الذي يميل إلى كون البنية القرآنية ليست مما يتاح للبشر الإتيان بمثله، فإنّ البحث في هذه البنية وعجائبها اللفظية والمعنوية يغدو واجباً على كل مهتم بأساليب الكتابة والتعبير وآفاقه ودرجاته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
التاء، قبضها وبسطها
يتسق النص القرآني مبنىً ومعنى. على أن هذا الاتّساق لا يبدو ظاهراً على نحو بدهيّ بل يحتاج إلى نحوٍ من التأمل أو التذوق إنْ صح التعبير. فالنصّ واحد بتفرّقه، وهو أيضاً مفرّقٌ بوحدته، أي أن أجزاء النص لا تنقطع عن الكل ولو بدت في موضع من المواضع تسعى إلى التمايز والإبهار. وإلى ذلك، فإن التمايز القرآنيّ يبهر بالدرجة الأولى لناحية قدرته على الانزياح بالمتلقي من أفق شعوري إلى أفق شعوري آخر بسلاسة لا تشعره بالتفاوت بين مستويات التعبير علماً أن التفاوتَ آفة النصوص عموماً ولا سيما نصوص التعبير بالعربيّة.
تقبض التاء المقبوضة، حين ترِد في مواضع من النص، على المعنى المتقلب في ذهن المريد. والقبض في الموضع ليس تعبيراً شكلانياً وحسب، بل إشارة وتنبيه إلى سياق الآية ومعناها. فالقبض، شكلاً، يؤشر إلى باطن المعنى المكنون، ونعني، في جملة من المعاني، قبضاً نسبياً للرحمة أو للنعمة في موضع بعينه من مواضع النص. في المقابل، قد يشير بسط التاء إلى انبساط الآلاء الربانية والنعم الملكوتية على نحو غير متناه ولا منظور إلا في قلب القارئ الذي تنبسط به المعاني، لا القارئِ الذي يقرأ القرآن فلا يجاوز حنجرته.
إذن، فالاشتباك العميق بين المبنى القرآني لناحية التركيب والعمارة البلاغية من جهة، والمعنى القرآني المتوّلد من قلب المتلقي بحسب الحال التي يكون عليها عند القراءة من جهة أخرى؛ نقول إن هذا الاشتباك يضع النظريات القديمة والمحدثة حول بنية المصحف وتاريخيته أمام سؤال بدهي يتصل بمفهوم قدرة البشر على أن يتواضعوا على هندسة هذه العمارة اللغوية بهذا النحو من الاتساق ضمن بيئة لم يكن وعيها بوظائف النصوص، لا سيما علاقة هذه النصوص بالعمران البشري، وعياً ناضجاً إلى حدّ استشراف الحاجة العميقة لمركزة النص في قلب المدينة القادمة من الغد.
إشكالية الاستشراق… وكويبرس
ربما عُدَّ المستشرق ميشيل كويبرس سباقاً من بين المعاصرين إلى النظر للنص القرآني كوحدة مؤتلفة. مدرجًا النصَّ في سياق أشكال البلاغة السامية، باحثاً عن بنية عميقة فيه، ينظر في مستويات النظم باتباع مؤشرات نظمية توجد في النص نفسه. الخلاصة، بحسب كويبرس، أن “النص القرآني ذو بنية شديدة التعقيد بدءًا من عناصر قاعدية تتجمع بحسب صورٍ نظمية مشكلة مستوى أوّلَ للنص، ومقدمة عناصر جديدة تؤلف بنظمها مستوىً ثانياً وهكذا دواليك”. فـالمفردات عناصر قاعدية، ثمّ المفاصل تؤلَّفُ من نظم هذه المفردات في ما بينها، والأخيرة بدورها تؤلف أفرعًا تتألف هي أيضاً على شكل أقسام، فـأجزاء، فـمقاطع، فـسلاسل، فـشُعَبٍ. مثلا، الجملتان من آيتَي الفجر تمثلان مِفْصَلين:
يَا أيَّتُهَا النَّفْسُ المَطْمَئِنَّة (27)
ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّة (28)
وهما معا تشكلان فرعًا، وتغلب على النصّ القرآني الفروع الثنائية المفاصلِ (ثمة فروع أحاديّة المفاصل وثلاثيّتُها) كمثل الفرعيْن من سورة القارعة:
فَأمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُه (6)
فهوَ في عِيشَةٍ راضِيَة (7)
وأمَّا مَنْ خفَّتْ موازينُهُ (8)
فَأُمُّهُ هَاوِيَة (9)
ثم يأتي القسم الذي يتألف من فرعين أو ثلاثةٍ، وهكذا دواليك صعوداً، إلى أن نصل إلى الشُعبِ.
خاض مستشرقون بارزون في البنية القرآنية من مناح متعددة. على أن الوعي الاستشراقي بالقرآن على أهميته ظل مندرجاً في التصور الذي ما انفك يحاول الرؤية إلى النص من منحى تاريخي، أي الرؤية إلى النص بما جهد بشري تركيبي خالص تم على مراحل وفي ظروف تاريخية محدّدة. ( اقتراح تعديل صياغة: على أهميته، ظلّ الوعي الاستشراقيّ للقرآن، مندرجاً في التّصوّر الذي يحاول رؤية النص من منحى تاريخيّ، أي رؤية النص كجهد بشري تركيبيّ خالص، تمّ على مراحل وفي ظروف تاريخيّة محددة.) نتاج هذا التصّور ليس عقيماً بطبيعة الحال وله خلاصات بالغة الإفادة إلا أن ذاك المنهج التاريخيّ (أبرز ممثليه المستشرق نولدكه) وعلى مدى قرنين ونيف لم يستطع ردم الفجوة التاريخية المتصلة بالنص ذاته، ونعني إنشاء تاريخ بالغ الدقة للنص القرآني ترتيبًا، ولا سيما آياته المكية. وفي المقابل، فإن المصادر الإسلامية الضخمة المجموعة في ما يسمى علوم القرآن لم تستطع تلبية طموحات ذلك المنهج، إذ أنّها صادرة بالضرورة عن عقل مغاير للعقل الاستشراقي؛ عقل غير مهجوس بإعادة فتح المدوّنة القرآنية المغلقة. وإنّ علوم القرآن وتحديداً علم أسباب نزول الآيات والسور، وإنْ عُدّتْ ذات وجه تاريخي، فإنها لا تلبي طموحات التصور الاستشراقي إذ هي غير متّسقة في العمق مع المنازع البنيوية التي دُفع بها الاستشراقُ أوّلاً.
وفي ذلك، يترتب على فعل تشريح النص القرآني في سبيل ترتيبه على نسق زمني بحسب نزول الآيات، إحالة بالغة الخطورة. تتمحور الإحالة أولاً حول “نفي الوحدة” عن النص الواحد الصادر، من منظور الدين الإسلامي، عن الواحد الأحد. نفيُ الوحدة أو تشظّيها يطال في العمق سمة الوحي إذ أنّ تركيب النصوص على هذا النحو نجومًا أو قطعًا، مع إظهار ما يقال إنها فجواتٌ زمنية والتباساتٌ في السياق، لا يصدر إلا عن جهد بشري طبيعي. وهذا بدوره يؤدي إلى تهافت نظرية الوحي.
من نافل القول، أن المنهج التاريخي الاستشراقي قد فتّح إشكاليات غير مفكر فيها في التعامل مع النص. إشكاليات لم تكن مركزية في الفكر الإسلامي بمجمل تياراته، حتى الفلسفية منها. وهذه الإشكاليات لا يمكن عزلها، بطبيعة الحال، عن السياقات التنويرية الغربية التي رسّختِ الكلمة\الفكر، لا بما هي وحيٌ إلهي يستبطن الحقيقة المطلقة الواحدة، بل بما هي إمكانية بشرية تحاول أن تضع الذات الإنسانية في مرتبة أولى، أي إن الكلمة هي نتاج الذات البشرية وهي بالضرورة خاضعة للتأويل العقلي، فالحقيقة المنبثقة من الكلمة ليست واحدة بل ذاتُ وجوه متعددة.
على أن تلك الإشكاليات ظلت في العمق واقعة في حيرة طبيعة النصّ القرآني. فالعجز أمام الفجوات الزمنية القرآنية غير القابلة للردم، والعجزُ أيضاً عن استيعاب العروة الوثقى، الظاهرة والباطنة، بين مستويات هذا النص الذي جمعه المريدون الأوائل، ظلّ سمةً تطبع كل أعمال المستشرقين المشتغلين بالنصّ.
حسن نصّور (لبنان، 1985)
كاتب وشاعر لبنانيّ مهتمّ بالموروث الإسلامي. صدر له في الشِّعر “باب النون” (2016) و”الخزائن” (2017) و”مريم” (2022)، وفي النقد “هوامش على متون أبي زيد” (2018) وتحقيق كتاب “ترجمة المتنبي في أعيان الشيعة” (2022).