منذ إطلاقه في نوفمبر 2022م، أثار شات جي بي تي الحماس والتخوف على حدّ سواء. فقد أذهل ضبطه المزعوم للدّلالة والنّحو، وكذلك للمحتوى، المستعملين الذين انتظروا روبوت دردشة مألوف. على الفور، منعت بعض الجامعات على طلبتها استعمال شات جي بي تي في تحرير أبحثاهم، لكونه يتخطّى غالبيّة الطلبة البشر. أمّا افتتاحيّات الجرائد فقد أعلنت نهاية التعليم، ليس فقط لأنّ التلاميذ يستطيعون استعماله في تحضير وظائفهم، ولكن أيضاً لأنّ شات جي بي تي يسمح بإعطاء معلومات أوفر ممّا قد يُقدّمه عدد من المُعَلِّمين. هكذا يبدو إنّ الذكاء الاصطناعيّ قد تمكّن من غزو مجال آخر يُحدِّدُ، حسب الفلسفة التقليديّة، الطبيعية الإنسانيّة، ألا وهو اللّوغوس. على هذا النّحو، يتصاعد التخوف مع هذه الخسارة الجديدة لمجال آخر من المجالات الوجوديّة، كذلك تحتدُّ المخيّلة الآبوكاليبتيكيّة للتّاريخ، في الوقت الذي يُعلِن فيه انحدارُ المناخ وثورة الرّوبوتات نهايةَ الأزمنة.
لم تكن نهاية الأزمنة غريبة على الحداثيين، ففي كتاب كارل لويث الصّادر عام 1949م، تحت عنوان المعنى في التاريخ، بيّن الفيلسوف بأنّ الفلسفة الحديثة للتّاريخ، مُنذ هيغل وحتّى بوركهارت، قد كانت علمنَة للآخرويّة[1] (الآخرة في المفهوم الديني). إنّ علّة نهاية التّاريخ (Τέλος) هي ما يجعلُ المتعاليَ مُحايِثاً، أتعلّق الأمر بالمجيء الثاني للمسيح أم تعلّق ببساطة بصيرورة الإنسان-الإله. تمنحُ هذه المُخيّلة الكتابيّة أو الإبراهيميّة للزّمن كثيراً من الأفكار العميقة بخصوص الكينونة الإنسانيّة بشكل عام، لكنّها تقوم في الآن نفسه بعرقلة فهم مُستقبلنا.
خلال ستّينات القرن الماضي، عارضَ هانس بلومينبيرج أطروحة لويث بخصوص العلمنة، وكذلك فعل مع إقرار كارل شميت القائل بأنّ “كلّ المفاهيم الدلالية للنظرية الحديثة عن الدّولة هي مفاهيمٌ لاهوتيّة مُعَلْمَنة”[2]. لقد أيّد بلومينبيرج بأنّ فهمَ الحديث باعتباره عَلْمنَة أو إبدالاً للمفاهيم اللاّهوتيّة يُقوِّضُ شرعيّة الحديث، فهناك معنى ما للحداثة يبقى متعذّراً على علمنة اللاّهوت[3]. كذلك، تُقبَرُ كلّ من جِدّة ودلالة الذكاء الاصطناعيّ من خلال المُخيّلة الأُخرويّة، ومن خلال الكليشيهات الحديثة للآلات والدِّعاية الصِّناعيّة.
لا يعني ذلك أنّ علينا إنكار التغيّر المناخي ومقاومة الذكاء الاصطناعي. بل على العكس من ذلك، يجب أن يكون الكفاح ضدّ التغير المناخي أوليّتنا المُطلقة، كما هو الحال مع تطوير علاقة مُثمرة بين الإنسان والتكنولوجيا. بيد أنّ بلوغ هذا المنال يفرض علينا الإسهاب في فهم ملائم للذكاء الاصطناعي، يتجاوزُ الفهم التقني المحض. لقد أحدث اختراع القطار والسيارة، والطائرة في وقت لاحق، تخوّفاً كبيراً إنْ على المستوى السيكولوجي والاقتصاديّ، لكنّ قلّة اليوم تهاب انفلات هذه الآلات عن سيطرتنا. عوض ذلك، صارت السيارات والطائرات جزءً من حياتنا اليوميّة، ولها دلالة على الإثارة والحُريّة. إذن ما سبب هذا التخوف من الذكاء الاصطناعيّ؟
من أجل فهم هذه الموجة الجديدة من التكنولوجيا، مع الأخذ بـشات جي بي تي واجهة لها، يمكننا في البدء تناول التجربة الفكرية الشّهيرة، المعروفة بـ”الغُرفة الصينية”، لجان سيرل عام 1980؛ تجربة تُخفي الصّورة النمطيّة الأكثر إثارة للملل للآلات المعلوماتيّة تحت غطاء الاستدلال المنطقيّ. في هذه التجربة الفكرية، تخيّلَ سيرل نفسه وحيداً داخل غرفة، وقد أوكِلتْ إليه مَهمّة تتبُّع توجيهات يُمليها برنامج تحليل رموز مكتوب بالإنجليزيّة، وذلك بُغية الإجابة على مُدخلات مكتوبة بالصينيّة ومندسّة تحت الباب. أثناء هذه التجربة لا يعرف سيرل اللغة الصينيّة. يقول: “لا أعرف الصينيّة، لا كتابة ولا محادثة، بل إنّي… غير متأكد حتّى من قدرتي على معرفة الكتابة الصينية ككتابة صينيّة مختلفة، لنقل مثلاً، عن الكتابة اليابانيّة أو عن أيّ رسومات بلا معنى”[4]. في المقابل، يدعم بأنه قادر، مع اجتماع صحيح للتوجيهات والقواعد، على الجواب بطريقة يُتوهّم فيها للشخص المتواجد خارج الغرفة بأنّ محادِثه يعرف الصينية.
بكلّ بساطة، يؤكِّدُ سيرل على أنّ قدرة آلة ما على تتبّع توجيهات بالصينيّة لا يعني البتّة أنّها تفهم الصينيّة؛ وهي خاصيّة يُعرف بها الذكاء الاصطناعي المُسمّى قويّاً، على عكس الذكاء الاصطناعي الضّعيف. إنّ الفهم هو قبل كلّ شيء ضبطٌ للحقل الدّلاليّ، فإذا كانت هناك إمكانية لتشريف التركيب والنحو بصلابة، فإنّ المدلول يتغيّر حسب المقام والمُجريات. تسري تجربة غرفة سيرل الصينيّة على حالة حاسوب ما يزال يشتغل كآلة آتية من القرن الثامن عشر، مثلما هو الحال مع البطّة الهاضمة (عمل فنّي آلي الحركة من تصميم جاك فوكانسون عام 1739 وهو عبارة عن مجسم لبطة يحاكي داخلها عملية الهضم) أو التُركيّ الميكانيكيّ (اختراع لـولفجانج ڤون كيمپيلين، يعود إلى عام 1770 لآلة قادرة على لعب الشطرنج).
لكن الحال في يومنا هذا لا يتعلق بهذا النّوع من الآلات، إذ كان كلّ من نعوم تشومسكي وإيان روبيرتس وجيفري فاتومول على حقّ في توقعهم بكون الشات جي بي تي “مُحرِّكاً إحصائيّاً ثقيلاً لمطابقة النماذج”[5]. مع أنّ هذه النماذج ليست إلاّ خاصيّات بدائيّة للمعلومة، وعلى الرغم مما سبق، يتوجّب علينا الاعتراف بأنّ شات جي بي تي يقوم بما يفوق مُطابقة النّماذج اللغويّة.
إنّ نقداً مماثلاً للتركيب والنحو إنّما يكون قائماً على إيبستيمولوجيّة آليّة تفترضُ سببيّة خطية، بمعنى عِلّة تلحقها نتيجة. يُمكننا عَكْسُ هذه العلاقة السببيّة لبلوغ العلّة النهائية، فيصير المحرِّك الأساسي هو كساد العلّة الأولى، وهو المصير الحتميّ لكلّ استدلال منطقيّ خطي. خلافاً للسببية الخطية والفلسفة الآليّة، إذ شَهِدَ القرن الثامن عشر بُزوغ الفكر الفلسفيّ القائم على العُضويّة، وذلك مع نقد مَلَكة الحُكم لإمانويل كانط باعتباره وحداً من أهمّ الإسهامات.
افترض كانط، كما زعمتُ سابقاً، شرطاً جديداً للتّفلسف، وهو أنّ على الفلسفة أن تصير عُضويّة؛ أو بصيغة أخرى، دشّن التفكير العضويّ عهداً جديداً للفكر الفلسفيّ[6]. أمّا اليوم، فقد صار من المُهمّ الاعتراف بأنّ شرط التّفلسف الذي أسّس له كانط قد بلغ نهايته بعد السبرانيّات[7].
تمّ تطوير مصطلح السبرانية، الذي ابتدعه نوربرت فينر حوالي العام 1943م، من طرف مجموعة من العُلماء والمهندسين الذين شاركوا في محاضرات مايسي عن السبرانيّة نهاية أربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي. هكذا أرادت السبرانية أن تكون عِلْماً كونيّاً قادراً على توحيد جميع الاختصاصات، على شكل موائمة مُستجدّة لموسوعيّة القرن الثامن عشر، حسب جيلبير سيمندون[8]. تستعمل السِّبرانيّة مفهوم الارتجاع لتحديد اشتغال “آلة سبرانيّة” جديدة مختلفة عن “الآلات الميكانيكيّة” للقرن السّابع عشر. لقد أكّد فينر في كتابه العُمدة الصّادر عام 1948م إنّ السِّبرانيّة كانت قد تجاوزت التضاد بين الآليّة والحيويّة الذي مثله كلّ من نيوتن وبرجسون، ولذلك لأنّ الآلات السّبرانيّة كانت قائمة على شكل جديد، غير خطي، من السببية، أو التكراريّة، بدلاً من سببيّة خطية هشّة وغير مُجدية، وهشاشتها تلك نابعة من عدم قدرتها على ضبط صيغة اشتغالها الخاصة. فلنتخيّل ساعة آليّة، إذا ما تعطّلت إحدى مُسنّناتها فالساعة بأكملها تتعطّل. لا يُمكن إذن، مع هذا النوع من الآليّة الخطية، تحقّق أيّ تصاعد أُسِّي لسرعة استدلالها دون ترقية جذريّة للجهاز.
إذا كان التضاد بين الآليّة والحيويّة يُميّز النقاش الكبير للفلسفة الحديثة، باتّاً في منحى تطوّرها، إذن فالنقاش ما يزال قائما اليوم، حيث الكثير من المواقف المُستنكِرة للذكاء الاصطناعي وشات جي بي تي تفترض أنّ الآلات ليست إلاّ ميكانيكيّة، وبالتالي غير قادرة على استيعاب المعنى الدّلاليّ. وسيكون من الخطأ أيضاً الزّعم بأنّ الآلات ليست إلاّ مُحاكاة فاشلة للفهم الإنسانيّ كلّما تعلّق الأمر بالمعنى الدّلاليّ.
انتقد الفيلسوف براين كانتويل سميث بضراوة، وهو العالم المتخصص في الادراك الإنسانيّ والاصطناعيّ، هذا الفكر التجسيميّ مُدافعاً عن غائيّة آليّة مُفترضة. بالنسبة له، حتّى مع غياب أيّ غائيّة إنسانيّة في آلة ما، فذلك يحتوي مع هذا على شكل من الغائيّة؛ أي إنّ هنالك دلاليّة وإنْ لم تكن بمعنى اللغة الإنسانيّة[9]. إنّ فصلاً مماثلاً للدلاليّة الإنسانيّة عن الدلاليّة الآليّة أساسيٌّ لإعادة التفكير في علاقاتنا بالآلات، مع أنّها تبقى مجرّد خطوة أولى على مسار طويل.
تُهمِل حُجّة سيرل بالأساس الشّكل التّكراريّ للحساب الذي تقوم به الآلات اليوم. ههنا، لا يجب الخلط بين المعلوماتيّة والسِّبرانيّة، لأنّ هذه الأخيرة علمٌ أكثر شموليّة. في المقابل، يمكن للواحد منّا التفكير في الوظيفة التكراريّة لكورت غودل وفي مساواته بين آلة تورينغ و لامبدا لألونزو تشرتش، وهي قصّة شهيرة في تاريخ الحَوْسَبة. لا ينتمي مصطلح “التكراريّة” حصراً إلى السِّبرانيّة، بل ينتسب أيضاً إلى الفكر ما بعد-الآليّ. فمجيء السِّبرانيّة لم يقم بغير إعلان إمكانيّة تحقيق هذا الفكر التكراريّ في الآلات السِّبرانيّة.
مثلما لاحظ ذلك على نحو صحيح كلّ من غوتهارد غونتر وجيلبير سيمندون، فإنّ “الذّكاء” الموجود في الآلات اليوم هو عبارة عن شكل تأمليّ للوظيفة. بالنّسبة لغونتر، تُمثِّل السّبرانيّة تحقُّقَ المنطق الهيجليّ، بينما في نظر سيمندون، لا تُطرح السّبرانية إلاّ في صياغة الحُكم التأملي في نقد مَلَكَة الحُكم عند كانط[10]. عادة ما يُقرَنُ “الفكر التأملي” بالكائنات البشريّة لا بالآلات، وذلك لأنّ هذه الأخيرة لا تقوم بغير تنفيذ التعليمات دون التفكير في التعليمات ذاتها. لكن، منذ استحداث السِّبرانيّة أربعينات القرن الماضي، يمكن لهذا المصطلح أن يعني كذلك الميكانزيم الارتكاسيّ للآلات.
هكذا يُمارس التفكير التأمليّ للآلات سطوة مُذهلة على الكائنات البشريّة، غير المُستعِدّة لتقبّل وجوده، حتّى باعتباره شكلاً بدئيّاً وأوليّاً للتفكير، وذلك لكونه صوريّاً بشكل محض وبالتالي غير كافٍ للتعاطي مع المحتوى. من هنا، في استطاعتنا فهم كيف أنّ شات جي بي تي “ليس بالضّرورة ابتكاريّاً” ولا هو بـ”الشّيء الثوريّ” في نظر عُلماء كومبيوتر مثل يان ليكون[11]. فالاعتناء بالمحتوى هو السّبيل الوحيد لكي تتطوّر الآلات نحو ما أضحى يُسمّى بالفُرادة التكنولوجيّة. لحدّ الآن، تظلّ الفُرادة مُجرّد خرافة مُظلِّلَة وضارّة عندما يتمّ تقديمها كآتٍ قريبٍ. وحتّى عندما نَقْرِنُها (الفُرادة) بالمعنى اللاّهوتي أو بالأُخرويّة، فإنّ ذلك لا يخدم فهم الذكاء الاصطناعيّ أو مُستقبله في شيء.
إنّ الآلات التِّكراريّة، لا الآلات الخطية، هي مفتاح تطوّر وارتقاء الذكاء الاصطناعيّ. كيف للكائنات البشريّة أن تتعاطى مع هذا النّوع الجديد من الآلة؟ طرح سيمندون سؤالاً مُشابهاً عندما تساءل: ما الدّور الذي ستلعبه الفلسفة عندما ستصير التكنولوجيا تأمليّة؟ لقد ناصر براين كانتويل سميث اقتصار الذكاء الاصطناعيّ على القدرة على العدّ لا على الحُكم، لكن من الصّعب التكهن بالوقت الذي سيصمد أمامه تمييز مماثل[12]. ولعلّ مجهودات فكريّة جمّة قد ضاعت سُدًى من أجل تعيين الفوارق بين الآلات والإنسان.
لم ينزعج الإنسان من تعويض الحيوانات المُدجَّنة له، مثل الأحصنة والأبقار، كمزوّدٍ للطاقة. بل رحّبوا باستغنائهم عن عمل رتيب وشاقّ. كذلك حدث لمّا حلّت الآلات البُخاريّة محلّ الحيوانات؛ فقد كانت أكثر فعاليّة ولم تستدعِ اعتناءً إضافيّاً من طرفه (الإنسان). في كتابه الصّادر عام 1958 تحت عنوان عن صيغة وجود الأجسام التقنية، لاحظ سيمندون بشكل صائب أنّ تبديل الآلات الثرموديناميكيّة بالآلات المعلوماتيّة قد شكّل لحظة مفصليّة صار فيها الإنسان مُنزاحاً عن مركز الإنتاج. لقد تمكّن حرفيّو ما قبل العصر الصناعيّ من ابتكار محيطٍ تضامنيّ حيث بَدَنُ الحرفيِّ وذكاؤه يُعوّضان عَوَزَ أدواته البسيطة. أمّا على عهد الآلات المعلوماتيّة، أو الآلات السِّبرانيّة، فقد أضحت الآلة نفسها مُنَظِّمة المعلومة، ولم يبق الإنسان قطّ في المركز، على الرّغم من ظنِّه المُستمرّ في كونه آمِرَ الآلات ومُنظِّم المعلومة. إنّها اللّحظة التي يُعاني فيها الإنسان من إيمانه الخاص بأفكار جاهزة عن الآلات: فهو يُعرِّف نفسه عن خطأ كمركز وبالتالي يضحى عُرضة إحباط مُتواصل وبحث مُرتعِب عن الهويّة.
إنّ الواقع الكامن في الآلة مغترب عن الواقع الذي يشتغل داخله الإنسان، وعمليّة التطور التكنولوجي الحتميّة يُحفِّزها إدخال علاقة سببيّة غير خطيّة تسمح للآلات بمواجهة العوارض. فالآلة المُتعلِّمة هي تلك القادرة على تَبيّن الأحداث العرضيّة مثل الصَّخب والإخفاق، ويُمكنها التمييز بين المُدخلات العشوائيّة والضروريّة منها. فعبر تأويل الأحداث العرضيّة، تُحسِّنُ الآلة المُتعلِّمة نموذجها في اتخاذ القرار. لكن، حتّى في هذه الحالة، تبقى الآلة في حاجة إلى الإنسان لتمييز القرارات الصّائبة من الخاطئة بُغية الاستمرار في التطوّر. لقد ظهر في الدّول النامية نوع جديد من يد عاملة رخيصة تُوظِّف الإنسان لإخبار الآلات عن صحّة المعلومات من خطئها، سواءٌ تعلّق الأمر بنظام التعرف على الوجوه أو بأجوبة شات جي بي تي. إنّ هذا الشكل الجديد من العمل، والذي يستغلّ العُمّال المُشتغلين في الخفاء خلف الآلات التي نتفاعل معها، هو شكل غالباً ما يغفل تُغفل عنه الانتقادات المُغرقة في التّعميم للرأسمالية التي تشتكي من ضآلة التّشغيل الآلي. وهنا يكمُن ضُعف النقد الماركسيّ الرّاهن للتكنولوجيا.
أثار سيمندون تساؤلاً مفتاحيّاً في كتابه عن صيغة وجود الأجسام التقنية: عندما يتوقّف الإنسانُ عن كونه مُنسِّق المعلومة، فأي دور سيلعبه؟ وهل يُمكن للإنسان التحرّر من العمل؟ كما افترضت حنّة آرندت في شرط الإنسان الحديث، كتابها الصّادر السّنة ذاتها لصدور كتاب سيمندون، لا يُفضي تحرُّر مماثل إلاّ إلى النّزعة الاستهلاكيّة، تاركاً الفنّان باعتباره “الإنسان الأخير” القادر على الإبداع[13]..
تصير النّزعة الاستهلاكيّة ههنا حدّ الفعل الإنسانيّ. ففي الوقت الذي تنظر فيه آرندت للآلات من منظور الواقع الإنسانيّ، باعتبارها تعويضاً للإنسان-الصّانع (Homo Faber)، يُبيّن سيمندون أنّ العجز عن معالجة واحتواء الواقع التقنيّ للآلات يُحفّز العداوة البائسة بين الإنسان والآلة من جهة، وبين الثقافة والتقنيّة من جهة أخرى. فهذه العدواة ليست فقط مصدر تخوّف، بل تقوم أيضاً على فهم إشكاليّ للغاية للتكنولوجيا صاغته الدِّعاية الصّناعيّة والنّزعة الاستهلاكيّة. من هذه السلبيّة وُجدَ إنسيّة بدائيّة تُعرّف الحبّ كآخر ملجأ للإنسان.
أكثر من ستّين عاماً مضت على طرح سيمندون هذه الأسئلة، لكنّها ما تزال مُعلّقة إلى الآن. أسوأ من ذلك هو التعتيم عليها من قبل كلّ من التفاؤل التكنولوجيّ والتشاؤم الثقافيّ، الأوّل بترويجه لتسارع مُستمرّ والثاني باشتغاله كعلاج نفسيّ. ينبع هذان التوجهان من فهم تجسيميّ للآلات يُملي افتراض محاكاتها للإنسان. (ينتقدُ سيمندون بشراسة السِّبرانيّة لتبنّيها هذه الرؤية، رغم أنّ نقده لم يكن مُعلّلاً في كُليته). يتبدّى التعبير الأكثر سُخريّة لهذه النظرة المُحاكاتية في مجال الفنّ، وذلك من خلال محاولة البرهنة على أنّ الآلة قادرة على القيام بما أبدعه باخ أو بيكاسو. فمن جهة، يتساءل الإنسان المفزوع أكثر من مرّة عن نوع العمل الذي لن تُعوِّضه الآلات؛ ومن جهة أخرى، تعمل الصناعة التكنولوجيّة عن وعي على استبدال التدخل الإنسانيّ بالتشغيل الآليّ. هكذا يعيش الإنسان داخل نبوءة الاستبدال المحقّقة لذاتها والمرتبطة بالصناعة.
لم يُحوَّلْ خطابُ الاستبدال إلى خطاب تحرير في المجتمعات الرأسماليّة، ولا في المجتمعات المُسمّاة شيوعيّة. وحتّى نكون صادقين، فقد استوعب بعض “التّسريعيّين” الأمر وبحثوا عن إحياء رؤية ماركس بخصوص التشغيل الآليّ الشّامل. لو كانت فيزياء المدارس الثانوية أكثر شعبيّة، فذلك لأنّ التّسريع لا يعني تصاعداً في السُّرعة (Speed) وإنّما زيادة في السُّرعة ذات الاتجاه (velocity). فعوض صياغة رؤية للمستقبل يلعب فيها الذكاء الاصطناعيّ دوراً ترقيعيّاً، صار الخطاب المُهيمن يتناوله في الغالب باعتباره منافساً للذكاء الإنسانيّ ومُعوِّضاً للجهد الذهني. هكذا يعجز إنسان اليوم عن الحلم. إذا كان حُلم التحليق قد انتهى باختراع الطائرة، فإنّنا الآن نحمل في دواخلنا كوابيس متصاعدة عن الآلات. في النهاية، يلتقي كلّ من التفاؤل التقني (في شكل مابعد الإنسانيّة Transhumanism) والتشاؤم الثقافيّ في اسقاطاتهم بخصوص نهاية أبوكاليبتيكيّة.
يجب إذن على الإبداع الإنسانيّ اتخاذ منحى جذريّ مختلف والارتقاء بالعلاقات بين الإنسان والآلة فوق نظرية الاقتصاديّة للاستبدال واستيهامات التفاعليّة. كذلك يجب زحزحته نحو تحليل وجوديّ. فعلى الطبيعة الترقيعيّة للتكنولوجيا أن تُكرَّس في تجاوزها لوظيفيّتها، فمنذ طفولة الإنسانيّة، دائماً ما ارتبط الوصول إلى الحقيقة بابتكار واستعمال الأدوات. يبقى هذا المعطى غائباً عن الكثيرين، وهو ما يجعل الصراع بين تطوّر الآلة والوجود الإنسانيّ يبدو مُنحدراً من إيديولوجية مُتجذّرة في الثقافة.
إنّنا نعيش داخل حلقات ارتجاع إيجابيّة تُقدم على أنّها ثقافة. منذ بداية المجتمع الصناعي الحديث، تم إخضاع الجسد الإنسانيّ لعدد من الإيقاعات التكراريّة، ونتيجة لذلك أُلحق العقل البشريّ بنبوءات الصناعة. أتعلّق الأمر بالحلم الأمريكيّ أو الحلم الصينيّ، فإنّ إمكانات إنسانيّة جمّة قد كُبحت لصالح الإيديولوجيا الاستهلاكيّة. في الماضي، أخذت الفلسفة على عاتقها مهمّة الحدّ من الغطرسة الناجمة عن استعمال الآلات وتحرير النّاس من تلك الحلقات الارتجاعيّة باسم الحقيقة. أمّا اليوم فقد صار فلاسفة التكنولوجيا قلقين من تثبيت حلقات الارتجاع هذه باعتبارها الصّراط الحتميّ للحضارة. كذلك صار الإنسان الآن يعترف بمركزيّة التكنولوجيا عبر محاولته تسوية جميع المشاكل كما لو كانت مشاكل تقنيّة. هكذا صارت كلّ من السُّرعة والفاعليّة تتحكّمان في المجتمع بكليّته، مثلما كانتا قد بسطتا سطوتهما من قبل على التخصّصات الهندسيّة بشكل حصريّ. كذلك تنزع رغبة المُعلّمين في تحقيق تغيير براديغيمي خلال سنوات قليلة أيّ تفكير تأسيسيّ حول سؤال التكنولوجيا، حيث ننتهي مرّة أخرى داخل حلقة ارتجاعيّة. نتيجة لذلك، تستمرُّ الجامعات في إنتاج مواهب لصالح الصّناعة التكنولوجيّة، مواهبُ تنخرط في تطوير خوارزميّات أكثر نجاعة، مُستغلّة خصوصيّة المُستعلمين ومتلاعبة بأساليب استهلاكهم. بالنسبّة للجامعات، يجب أن ينصبّ الاهتمام على حلّ هذه الأسئلة عوض التمّحيص في حظر شات جي بي تي.
هل في استطاعة الإنسان الإفلات من حلقة الارتجاع الإيجابيّة هذه للنبوءة المتحققة بذاتها والمُترسّخة بقوّة في الثقافة المعاصرة؟ العام 1971م، وصف جريجوري بيتسون حلقة الارتجاع التي تُوقِعُ بمدمني الكحول: كأسُ بيرة لن يقتلني. حسناً، ها قد بدأت. لا حرجَ في كأس ثانية. طيّب، اثنتان حتى الآن، لم لا كأسٌ ثالثة؟ بالنّسبة لمدمن الكحول، إذا حالفه الحظ، يكون باستطاعته الخروج من هذه الحلقة الارتجاعيّة الإيجابيّة حين “يبلغ القاع”. وذلك حينما ينجو من مرضٍ فتّاك أو حادثة سير، على سبيل المثال[14]. إنّ هؤلاء الناجين المحظوظين يُطّورون حينئذ حميميّة مع الإلهيّ. هل في استطاعة الإنسان، هذا المُدمن المعاصر، مع كلّ ذكاءه وابداعه الجمعيّ، الهروب من مصير بلوغ القاع هذا؟ بعبارة أخرى، هل في استطاعته سلوك منعطف جذريّ والدّفع بالإبداع نحو منحى مختلف؟
أليست هذه فرصة مواتية سمحت بها بالضّبط الآلات الذكيّة اليوم؟ فباعتبارها ترقيعات تحلّ محلّ متابعي النموذج المُتكرّر، يمكن للآلات أن تُحرّر الإنسان من التّكرار وتسهر على تحقيق الإمكانات الإنسانيّة. إنّ هَمّنا اليوم مُلخصّ في اكتساب هذه القابلية على التحويل لا النقاش حول قدرة الآلة على التفكير، الذي هو (النقاش) فقط تعبير عن الأزمة الوجوديّة والوهم المُتسامي. لربّما يكون في استطاعة بعض البوادر الجديدة المتعلّقة بالإنسان-الآلة تحرير خيالنا. على سبيل المثال لا الحصر، نستعرض ههنا ثلاثاً من تلك البوادر:
- بدلاً من إيقاف تطوير الذكاء الاصطناعيّ، علينا في المقابل الحدّ من الكليشيهات التجسيميّة للآلات، وتعزيز ثقافة ملائمة للترقيع. فعلى التكنولوجيا أن تُوظّف في تحقيق إمكانات المُستعمِل (ههنا، يتوجّب علينا الدخول في حوار مع نظرية القدرة لدى الاقتصادي الهنديّ أمارتيا سن) عوض أن تكون منافسة لها أو مختزلة لها في نماذج استهلاكيّة.
- بدلاً من تحويل كّل من الآلة والإنسان إلى لغز، علينا فهم واقعنا التقنيّ الحاليّ وعلاقته بمختلف أوجه الواقع الإنسانيّ، وبذلك يمكن إدماج هذا الواقع التقنيّ مع الواقع الإنسانيّ لإعادة انتاج والحفاظ على التنوع البيولوجيّ والاختلاف الحسيّ والإدراكيّ (Noodiverisité) والتنوع التكنولوجيّ[15].
- بدلاً من تكرار النظرة الأبّوكاليبتيكيّة للتاريخ، كما تمّ التعبير عنها في صيغتها الأكثر علمانيّة لدى كلّ من كويجف وفوكوياما، علينا تحرير العقل من مصيرها الحتميّ نحو نهاية أبّوكاليبتيكيّة. إنّ هذا التحرير سيسمح بفتح مجال يمنحنا قابليّة التجريب حسب طرائق إيتيقيّة للعيش بمعيّة الآلات وكائنات غير إنسانيّة أخرى.
لا يتحقّق الاختراع دون قيود وإشكاليات. مع إنّ هذه القيود هي مفاهيميّة أكثر من كونها تقنيّة، فإنّ تجاهل المفاهيميّ هو بالضبط ما يسمح للشر بالنمو باعتباره نتيجة لانحراف يتمثّل في هيمنة الشّكل[16]. ليس بغير الاعتباد عن التحيّز الثقافيّ والنبوءة المتحقّقة بذاتها للصناعة التكنولوجيّة نستطيع تطويرَ حدسٍ أقوى بخصوص صياغة إمكانات للمستقبل، والتي لا يمكنها أن تتأسّس حصراً على تحليل البيانات واستخلاص النّماذج. في الغالب، قبل الوصول إلى هذه البدائل، سيكون أنبياء العصر الصناعيّ لزمننا هذا قد تفطّنوا إلى أنّ قدرة الآلات على التنبؤ بالمستقبل أفضل من بكثير من قدرتهم.
نقله إلى العربيّة أيُّوب المُزيّن وريم مجدي بالتوافق مع المُؤِّلف.
مراجعة: عمّار المأمون.
للاطلاع على النُسّخة الإنجليزية.
يُوكْ هوي
فيلسوف وأكاديميّ من هون كونغ. يشتغل على العلاقة بين الفكر الفلسفيّ والتكنولوجيات الجديدة. بعد دراسته للهندسة المعلوماتيّة، اشتغل على أطروحة دكتوراه تحت إشراف الفيلسوف الفرنسي بيرنار ستيغلر في كلية جولدسميث (لندن)، ثم حصل على درجة الأستاذيّة في فلسفة التكنولوجيا من جامعة ليونبورغ (ألمانيا). يعمل حاليّاً كأستاذ لفلسفة التكنولوجيا والإعلام بهون كونغ.