أمسك الشّاعر الأمريكيّ، صربيُّ الأصل، تشارلز سيميك، بذكاء ومهارة لافتين وفي خفّة الجنيّ، بخيوط الشّعر الأمريكيّ من حيث تطوّراته المعرفيّة والشكيليّة واقتراحاته الجماليّة. ليُحقّق شِعريّة عاليّة. وبالرغم من كل عوالمها الحدسية التي تبدو مفاجئة، غريبة أحيانا للقارئ، وتشي بغير الواقعية، نعثر في شعره على ذاكرةٍ حيّة، ذاكرة تحفظ بوهج تلك اللحظة المنبثقة من العدم، اللحظة التي انقذف فيها سيميك الصغير من فراشه في بلغراد، أيّام الحرب العالمية الثانية، ليقع على أرضية الغرفة، وإلى جواره شظايا زجاج النوافذ المهشمة بفعل سقوط قنبلة ألمانية… نقرأ في هذه المقالة أيضا اللاقصدية واللاتصور واللاتخطيط في شعر سيميك، روح الدعابة والإيجاز، وكيف أن الشاعر بسخريته وفنيته المبتكرة “أراد كتابة قصيدة يمكن للقرّاء الوصول إليها بسهولة، لكن حتى إذا أشرفوا على نهايتها رفعوا حاجب التعجّب: يا إلهي، ثمة شيء آخر يحدث هنا!”…
***
لن تتوقّف الكتابة الشِّعرية في العالم عن تقديم المزيد من التجارب والاقتراحات الجماليّة المُختلفة، القادرة على أن تكون مفصلاً أو إضافة مهمّة في تاريخ الشعر الإنساني. لا زال الشّعر يسير نحو المستقبل، وما تزال مقولة هولدرلين : “ما يتبقى يؤسسه الشعراء” على مقاس كل من الحقيقتين الشعرية والفلسفية.
وبما أنّ الشعر فن الدهشة والكشف الذي لا ينتهي، ومخزون المعرفة الحدسية، فإن القصيدة في بحثها المستمر عن الشّعر تظل بالنسبة للشاعر استئنافاً ووعداً. وهي في مسعاها ذاك، تتحوّل وتتغيّر ولا تحرم نفسها من الطفرات والقطائع التي لابدّ منها من أجل تناول العالم والموجودات في أفق ممكن آخر، يفرضه التحوّل والتغيّر والرؤية الفنية والتجربة الذاتية والمزاج والذائقة الشخصية. أليس ذلك ما عبّر عنه الشاعر الأمريكي ويليام كارلوس ويليامز حدّ الانفعال: “لن أكون راضياً أبداً إلا حين أكون قد دمرت كل الشّعر كما كان(معروفاً) في الماضي”؟. إنّه القلق الملازم والمزمن للشاعر. قلقٌ فنيٌّ ومعرفيٌّ في البحث عن الشكل الكامن في احتمال لم نبلغه بعد.
كل شاعر يستحق هذه الصفة، هو شاعر يستبد به هذا القلق بشكل مداوم. يسعى من دافع داخلي ضاغط تمليه حساسيته ورؤيته الذاتية إلى العالم، وإلى الوجود والشّعر نحو الهدم. فلا يمكن لقصيدة تبني نفسها في أفق فني مغاير دون أن تكون نسفاً.
خلافاً للقصيدة المغلقة على نفسها كالدائرة المحكمة، تشبه القصيدة المتجدّدة الخط المتجه نحو المجهول بقليل علامات.. يتذبذب في انبساطه الحر مفعماً بالحماس للصدف والاحتمالات التي تومض في الذهن بسعادة. كل قصيدة يكتبها شاعر حقيقي هي بالقطع قصيدة لا تنتهي بنقطة أبداً، ولا تقف عند كاتبها؛ بل تسير وتسيرُ في مستقبل قصائد أخرى، وربّما بأكثر من لغة وأكثر من زمن وأكثر من شاعر.
قصيدة تشارلز سيميك الذي رحل عن عالمنا قبل أيام (9 مايو 1938- 9يناير 2023) ، هي من هذا النوع، منذورة للمستقبل وتسير. انطلاقها كان استئنافاً للقصيدة الأمريكية التي لا تريد أن تنتهي من الخلق المتجدّد والمسارات المتعدّدة. أمسك سيميك بذكاء ومهارة لافتين وفي خفة الجنيّ، بخيوط الشّعر الأمريكي من حيث تطوراته المعرفية والشكلية واقتراحاته الجمالية. ومن خلال قراءات الشاعر وذائقته الشفيفة احتكت تجربته بشكل حميم بتجارب عديدة بالأخص بكل من تجربة والاس ستيفز وإيميلي ديكنسون ووليام كارلوس ويليامز. فانبعثت شرارة هذا الشّعر الجديد الذي كتبه.
كانت ولادة تشارلز سيميك ذو الأصل الصربي في مدينة بلغراد، من يوغسلافيا السابقة. عاش ظروف الكارثة التي حلت بأوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، والتي بسببها هاجرت عائلته خلال سن مراهقته إلى أمريكا. وبمثل تلك السخرية المبثوثة في قصائده حيال مفارقات الحياة، رأى الشاعر في ستالين وهتلر وكلاء سفره. لكنّ الشاب تشارلز واجه في البلد الجديد ظروفاً صعبة كذلك، دفعته إلى العمل المضني من أجل عيشه وما تتطلبه أعباء الدراسة في الجامعة، فاشتغل في مهن متواضعة: بائعاً للقمصان، أو في متجر صغير للكتب لكن سرعان ما وجد نفسه في وضع نفسي أشد ضغطاً بسبب عبء الخدمة العسكرية. سينشر في هذه المرحلة مجموعته الشعرية الأولى: ” ما الذي يقوله العشب” 1967 لتتوالى بعدها أعمال أخرى بلغت طيلة مسيرة حياته أكثر من سبعين كتاباً توزعت بين الشّعر والترجمات التي تناول فيها الشعر الصربي والكرواتي والمقدوني والسلوفيني والفرنسي، إضافة إلى كتابة المقالات والنصوص النثرية، لعل أبرزها سيرته الذاتية المعنونة بـ “ذبابة في الحساء”.
أضحى تشارلز سيميك بفعل إسهاماته تلك، اسماً بارزاً في الشعر الأمريكي لأكثر من نصف قرن، وقد حاز على جوائز مهمة مثل: جائزة البوليتزر 1990، وجائزة والاس ستيفنز عام 2007، وهو العام الذي توّج فيه بلقب “ملك شعراء الولايات المتحدة الأمريكية”، وفي سنة 2019 حظي بجائزة الأركانة العالمية للشّعر.
بالرغم من كل عوالمه الحدسية التي تبدو مفاجئة، غريبة أحيانا للقارئ، وتشي بغير الواقعية، نعثر في شعر سيميك على ذاكرةٍ حيّة. ذاكرة تحتفظ بوهج تلك اللحظة المنبثقة من العدم، اللحظة التي انقذف فيها من فراشه ليقع على أرضية الغرفة، وإلى جواره شظايا زجاج النوافذ المهشمة بفعل سقوط قنبلة ألمانية، ثم وقوع بصره، بصر طفل لم يتجاوز سنواته الثلاث، على اشتعال النار في المبنى السكني المقابل في الجهة الأخرى. مشهد هائل ولا شك، أكبر وأثقل من أن يبدأ به المرء حياته. ذلك أن نظرة الطفل هي نظرة مضاعفة ألف مرة. إنها تتجاوز ما نسميه ذكرى؛ تقول الشاعرة لويز غليك: “ننظر إلى العالم مرة واحدة في الطفولة، والبقية ذكرى”.
يعود جزء من تميز سيميك بين جيله من الشعراء إلى صرامة وإلحاح هذه الذاكرة الحارقة، والعاطفة الملتهبة التي وجهت ذهنه إلى اختلاق صور بعينها، إلاّ أن هذه العوالم المشتعلة في ذاكرته عن بلغراد التي دكّها القصف لم تكن أبداً قضية الشاعر، ولا مقصده”فالعدو الأكبر للشّعر هو القصدية” يكتب سيميك.
لم يكن دور الشّعر عند صاحب “تعرية الصمت” 1971، وأغاني بلوز لا تنتهي” 1986، والعودة إلى مكان مضاء بكوب من الحليب” 2009 هو خدمة أحداثٍ تجري في مكان ما مثل بلغراد في منتصف أربعينيات القرن العشرين أو فظاعة الحروب. بالتالي لم تضع القصيدة نفسها في أيقونة قضية كبرى ولو أنها جزء من مأساة عاشها كاتبها، كما هي مأساة آلاف البشر، لأنّ أهم أيقونة للقصيدة هي الشعر ذاته، بما هو مساحة خلاّقة حرّة ومضيئة، أما العالم فهو قديم، وتلك عبارته الواضحة: “العالم قديم، لقد كان دائماً قديماً” ذلك هو العود الأبدي للمأساة والحروب والفظائع. ها نحن نشهد اليوم عودة الحرب إلى أوروبا مهدّدة بما هو أسوأ من أي حرب سابقة. ليس هناك من جديد إذن لنقوله بشأن هذا العالم الذي يكرّر مآسيه، لكنّ الجديد يكمن حتماً في سرّ القصيدة. سرّ يستحق أن نوليه الأهمية عوض تحميلها ما لا تحتمله، فلا يكون ثمة من نصر للشاعر سوى في ملعب النص.
في هذه الرقعة السيميكية يتحرّكُ المُعجز والبليغُ والصدف والمفاهيم، وينطق الصمت، وتميل أشباح الرغبات التي لا تملك سوى جسد الكلام. وتنطق لغة الصور وليس صور اللغة، عبر بسيط العبارة. العبارة التي ترفع لنا حاجب التعجّب، أو تتحوّل ركحاً لمسرح المفارقات والسخرية، حيث الماضي والحاضر والمستقبل يتداخل كلّ منها في الآخر، ماسحين الزمن، كالأحلام الليلية.
لهذا ولغيره، لا تنشأ قصيدة سيميك عن تصوّر ولا تخطيط مسبقين، بل عن الحدس فقط. عبر كتابة عبارات فردية يصعب نسيانها، سطور تلخّصُ شيئا كنت تلمسه في الحياة بكل حواسك دون أن يقبض عليه الذهن تماماً، كسمكة تنزلق من بين الأصابع. قصائد موجزة، تتميّز بالبساطة والوضوح حدّ العماء، وبالدقة التعبيرية. ثمة صعوبة كامنة وراء هذا الأسلوب، وراء هذا النص القصير المقتصد. بكلمات قليلة نشعر بتزحزح بوابات ثقيلة لندخل جنّة الشاعر، فتتحوّل بعض الأجزاء في النص إلى غاية في حدّ ذاتها.
ثمة ميزات أخرى، تكمن في الالتفاف على المقدمات المعرفية للقارئ، مع تثبيت ما يسمى بالوجود المشترك أو العادي بطريقة لا يمكن التنبؤ بها. وجهة النظر هذه تتضمن في كل قصيدة مفاجأة واحدة على الأقل.
ومن بين أسلحة القصيدة الأكثر فعالية أيضاً، نجد المفارقة، ووجود العقل، وروح الدعابة القاتمة التي تميل إلى تسليط الضوء على الخوف في مواجهة عبثية الشر. مثل جراحٍ دقيق، يقول سيميك قصيدته بوضوح وذكاء، ببديهة وقدرة على الاختراق. لا يتناول مجمل كل شيء ليقوله عبر القصيدة، بل يشتغل بتركيز شديد على صورة واحدة: فتى في دكان، فتاة تمشي في حديقة، شجرة، ذكرى طفولة، رجل يتناول وجبته في مطعم، أو شاعر ينحني على ورقته…
نقرأ في قصيدة “المتاهة البيضاء” التي ترجمها سنان أنطوان:
هناك واحدة تنتظرك
على كل ورقة بيضاء
فكن حذراً من الوحش اللامرئي
الذي يحرسها
إذ يندفع نحوك
وأنت مسلّح بالقلم وحده
واحذر من الفتاة
التي ستأتي لنجدتك
بذكائها وكرة الخيوط
وتقودك من أنفك
من تيه إلى آخر.
في العادة، تقول قصيدة سيميك أكثر ممّا نصغي إليه، إذ في كل وقت نحن بحاجة دائمة للعودة إلى ما قرأناه من قبل. نلتمس منه السؤال في كلّ مرّة، يستجيب ويلعب معنا بالمكر ذاته وهو يدفع بالسؤال الذي لن نشبع من متاهاته. سؤال القصيدة نفسها، وسؤال الشعر.
يقول سيميك “أردت كتابة قصيدة يمكن للقرّاء الوصول إليها بسهولة، ولكن بعد ذلك أجعلهم محاصرين، فعندما ينتهون من قراءتها سيقولون: هناك شيء آخر يحدث هنا !”
كانت تلك هي الحياة التي راقبها الشاعر في قصيدته عن كثب، أما فكرة الموت فلم تزعجه كثيراً، لقد كانت رؤيته له أقرب إلى الدين أو إلى بعض الحقائق الفلسفية، لا ينفصل فيها الموت عن الحياة، إنهما متجاوران أو كلاهما واحد. رحل سيميك تاركاً لنا هذا العمل الشعري الكبير، المبهر والمختلف الظاهر والمتخفي واللاهث نحو المجهول.
من آخر قصيدة له ضمن الكتاب الأخير الذي نشره بعنوان “أيام قصيرة وليالٍ طويلة” نقرأ هذين السطرين الأقرب إلى طقس الوداع:
“قاربي الصغير
اعتنِ بنفسك، لاتوجد أرض في الأفق”.
منير الإدريسي (الرباط، 1976)
شاعر وكاتب مغربي، صدرت له “مرايا الريش الخفيف” 2007، “انتباه المارة” 2017، “بنظارة أشف من الهواء” 2021، ونشرت نصوص شعرية، نثرية ومقالات في جرائد ومجلات عربية وأجنبية. تُرجمت بعض قصائده في أنطولوجيات عالميّة، منها:” أصوات شعرية العالم” بالمكسيك 2020.