في يوم غير محدّد من ماي/أيّار 1855م، ولد بحاضرة تونس داود بن موسى بن داود سانتينا، أو سانتيلانا، كما تُطلق عليه المراجع العربية والغربية، غير الإيطالية منها. إنّه يهودي ولد في أرض الإسلام بلقب إسبانيّ، وجذور برتغالية، وانتماء إيطاليّ وتبعية لملوك إنجلترا. هكذا كان سانتيلانا، مزيجاً من كل شيء ومثالاً نموذجيّاً لما كان يعرف في القرن التاسع عشر بـ”المواطن العالمي”. بل إنّه عنوان لوحة تراجيدية للشتات واللا انتماء. لقد خلّفت سانتينا عملا مهما لازال جزء مهم منه غير مدروس، أو على الأقل لم يحظ بالدراسة الكافية، غير أن ما وقع تناسيه أكثر هو سيرة الذاتية. في هذا المقال نتتبع نتفا من تجربة ومسار سانتيلانا الإنسان، تاركين مدونته الفكرية لأجزاء أخرى لاحقة، لعلّها تمنحنا الحافز والسراج الذي نفهم على سناه ميراثه وأثره.
طفولة بأكثر من هوية
فتح الطفل داود عينيه على العالم في ظلّ معطيات جديدة، فمع بلوغه السنة الثانية شهدت الإيالة التونسيّة صدور أول قانون سياديّ من نوعه، ألا وهو عهد الأمان، والذي نص في مادته الأولى على: “تأكيد الأمان لسائر رعيّتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرمة وأموالهم المحرمة وأعراضهم المحترمة”. لقد كان هذا التنصيص الدستوري الأول من نوعه استجابة لحادثة شهيرة راح ضحيتها يهودي تونسي أوجبت تدخل القوى الأوروبية للضغط على باي تونس لإصدار هذا القانون. مع مُضيّ السنين، سيعاين داود اشتداد ضغط ونفوذ هذه القوى الغربية، لا كمجرد ملاحظ بل كطرف مباشر فيها/لها. ليجد نفسه في قلب رحى التنافس الأوروبي المشتد بين ثلاثة أطراف رئيسيّة تطمع في المملكة: فرنسا وإيطاليا وإنجلترا، ومعها جميعا سيكون للفتى الفذ، المقبل بحماس على تعلّم لغاتها، شأن كبير.
صحيح إنّ سانتيلانا ينتمي لعائلة يهودية ذات جذور برتغالية، لكن استقرار أهله في مدينة تونس ربط مصيرها بفئة أخرى. ذلك أن يهود تونس ينقسمون أساسا إلى صنفين: اليهود المحليون الذين تعود جذورهم لفترة التاريخ القديم، وهم المعروفون باليهود “التوانسة”؛ أمّا الفئة الثانية، الأقل عدداً فمعروفة بيهود “القرانة”، نسبة لمدينة ليفورن الإيطالية. وهم مجموعة دينيّة غادرت الأندلس تباعاً، منذ القرن الخامس عشر، لتستقر في المدن الإيطالية.
منذ نهايات القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، اختار عدد من هؤلاء، خاصّة الأثرياء منهم، عن طريق ميناء ليفورن، التوجه نحو مدن بلاد المغرب وخاصة تونس[1]… وذلك كان الشأن بالنسبة لسانتيلانا الذي تشبّع بثقافة هذه الفئة، وحاز امتيازاتها ومكانتها الرفيعة لدى بلاط الباي حاكم البلاد وضمن أروقة السفارات المتعددة.
تكوين مُتعدّد المناهل
كأغلب أبناء أثرياء يهود القرانة، أو غيرهم من الإيطاليين، دخل سانتيلانا المدارس الابتدائية الإيطاليّة، حديثة النشأة في تونس، وفيها تلقّى اللغة والثقافة والتاريخ الإيطالي. ونظراً للجذور البرتغالية البعيدة، ارتبطت عائلة سانتيلانا بشكل وثيق كذلك بدوائر الإنجليز في المملكة التونسية. إذْ كان والد داود، موسى سانتيلانا، مترجماً في بلاط باردو الملكيّ قبل أن يتمتّع بحماية التّاج الإنجليزيّ، ليكون بذلك من رعايا بريطانيا ويلتحق بخدمة قنصلها في تونس[2]. وهو ما أثر على الطفل داود، حيث ضمّه مبكراً السِّير ريتشارد وود، قنصل إنجلترا، لأبنائه وأرسله رفقتهم نحو لندن لمواصلة تعليمه هناك[3].
كانت الرّغبة مُلحّة لدى موسى، ليواصل إبنه تكوينه في لندن حتى يتمكن من الانخراط في السلك الدبلوماسي للامبراطورية العظمى، غير أن الأيام شاءت غير ذلك. ليضطر المراهق للاقتصار على استكمال دروس الحقوق والعودة لتونس بسبب ظروف عائلية، لا نعلم كنهها. الأهم أنه قد عاد سنة 1873م، مُحمّلاً بشهادة علمية في القانون وبزاد لغوي قوامه سبعُ لغات: أهمّها العربيّة والعبريّة والفرنسيّة والإنجليزيّة والإيطاليّة.
أولى الخطوات العملية
عاماً قبل عودته إلى تونس، تمّ تعيين سانتيلانا عضواً في إدارة “الكومسيون المالي” الشهير، وهي لجنة مالية دولية تم إيفادها سنة 1869م لتشرف على مالية المملكة المفلسة، وعلى استخلاص ديونها لفائدة القوى الاستعمارية. وقد وفرت اللجنة الفرصة لهذه القوى لمزيد تثبيت نفوذها في المملكة، وفي خضم الصراع بينها لابد أن الاستعانة بسانتيلانا قد تمت من طرف الانجليز الراغبين في تعزيز مكانتهم داخل اللجنة وبإلحاح من والد الأخير. وفعلا لم تطل المدة إثر عودته، حتّى تم تعيينه في أكتوبر 1873م سكريتيراً لهذه اللجنة، وفي تلك الفترة الوجيزة تعرّف على رئيسها الوزير المصلح خيرالدين وتوثقت علاقتهما قبل أن يغادرها نحو الوزارة الكبرى.
لم تقتصر تجربة الشاب على عضوية الكمسيون المالي، بل إن مؤهلاته وعلاقاته وخاصة ارتباطات أسرته مع القصر الملكي وسفارة انجلترا، مكنته من الولوج في تلك السن الصغرى إلى سرايا باردو الملكية حيث اشتغل هناك مترجما لدى الباي وتحديدا تم إلحاقه بقسم الشؤون الخارجية. ليترقى شيئا فشيئا ويبلغ منصب المترجم الثاني للباي سنة 1875م. وتناط به مهام أخرى عدة أثناء وزارة خيرالدين[4].
مع خير الدّين في مجده وأفوله
لا شكّ إنّ القنصل الإنجليزي وود، من خلال دفعه سانتيلانا الشاب نحو الالتحاق باللجنة، أراد تدعيم موقف بلاده ضمنها أمام النفوذ الفرنسي القوي. ولا شكّ، في المقابل، أنّ خيرالدين باشا الذي ترأس اللجنة لم يكن محببا لديه- أي القنصل- خاصة أن علاقته مع صهره خزندار صديق القنصل أخذت في البرود والتوتر المتصاعد. بيند أنّ مع تقاطعات كثيرة ساهمت في إعادة ترتيب هذه العلاقة، وعلى تخومها لعب الشاب داود دوراً مهماً : ففي سنة 1871م، أشهر قليلة قبل التحاقه بأعمال الكومسيون المالي، عاين سانتيلانا واحدة من أهم الأزمات داخل الكومسيون بسبب شحّ الموارد المالية للدولة، ليهدد خيرالدين باستقالته من أعمالها، وهو ما لم يتخذ في شأنه الباي أي قرار[5]. وهنا كادت الأزمة أن تؤدي بكامل أعمال للجنة لولا تدخل القنصل الأنجليزي وود. ما يهمنا هنا هو أن الشاب الذي لم يلتحق باللجنة إلا منذ فترة قصيرة، قام تضامنا مع قيادتها بتقديم استقالته، ولكن مع مرور الأزمة حافظ على منصبه وتوطدت علاقته برئيسها خير الدين. قد يكون موقفه ذلك مرده رغبة الانجليز في مواصلة أعمال اللجنة أو قناعته الراسخة بدورها الإيجابي في تحسين وتنظيم المالية العمومية للدولة المفلسة أو كلاهما معا. ولكن الأهم أنها فتحت أمامه أبواب العلاقة مع الوزير الأكبر القادم. ليكون في عهده أحد أبرز مترجمي البلاط وقسم الشؤون الخارجية ويظهر إسمه في ملفات عدة مثل قضية وزير الباي الفار نسيم شمامة ويشغل سنة 1878م مقرر لجنة خط عنابة-قالمة للسكك الحديدية والتي كانت الأزمة المبشرة بسقوط خيرالدين السنة السابقة.
غير أن أبرز دور لعبه سانتيلانا خلال وزارة خيرالدين هو موقفه من أزمة هنشير سيدي ثابت الشهيرة في يوليوز/تمّوز 1877م، وتفاصيل هذه الأزمة معقدة وطويلة ولكن المهم فيها هو أنها مثلت واحدة من أولى مراحل الاستيطان الفرنسي العقاري المباشر والتي حاول خيرالدين التصدي لها. وقد كان لسانتيلانا يد طولى في صياغة موقف الحكومة التونسية الصارم والمتشدد أمام محاولة تلاعب صاحب لزمة الهنشير الفرنسي دي سانسي. صحيح أن جهود خير الدين لم تفلح. ورغم مغادرته الوزارة إلا أن الأزمة تواصلت خاصة مع تشدد بقية أعضاء مجلس الباي ومنهم سانتيلانا الذي توجه بنفسه رفقة عدد من أعضاء إدارة الباي يوم 10 دجنبر/كانون الأوّل 1878م نحو هنشير سيدي ثابت في محاولة لدخوله[6].
غير أن وضع البلاد المتراجع أمام التغول الفرنسي، والتسليم الانجليزي بهذه الحقيقة ومغادرة القنصل وود وعدم قدرة حلفاء سانتيلانا الإيطاليين على تحقيق التوازن وفوق كل هذا إنهيار المحاولة الاصلاحية الأخيرة لحكومة خيرالدين وتعويضها بحكومة مهادنة للفرنسيين، كل هذه العوامل مجتمعة كسرت من مقاومة فلول الاصلاحيين التونسيين المتشبثين بمعركة سيدي داود. وبضغط من قنصل فرنسا، تمت “تصفيتهم” سياسيا وعلى رأسهم سانتيلانا، الذي تم إجباره على الاستقالة مطلع جانفي 1879، ليغادرها نحو إيطالياـ مثلما فعل خيرالدين قبله بسنة. وبعدها بسنتين، ينجح الفرنسيون في تحويل الإيالة التونسية لمحمية فرنسية.
التغريب والتشريق
غادر سانتيلانا تونس، في ظرف سيء. ولابد أن مغادرته تلك شبه الإجبارية، قد تركت في نفس أسى كبيرا. أما عن وجهته، فقد اختار روما غير البعيدة للاستقرار فيها. ففي سنوات شبابه تلك توطدت علاقات سانتيلانا بمحيطه من يهود القرانة ذوي الميول الإيطالية الصريحة والموظفين الايطاليين في تونس. وإضافة لاتقانه اللغة الإيطالية، مثلت روما خيارا جذابا للشاب لأسباب عدة، أهمها الحركية الفكرية في جامعة روما وبروز نواة للدرسات الاستشراقية ضمنها. إضافة لكون إيطاليا ولحدود السنوات الأولى للحماية الفرنسية على تونس، مثلت الجهة الاوروبية الأكثر معارضة للدور الفرنسي في تونس، في حين تخلى الإنجليز- رعاة داود- على ذلك الدور. لذلك لم يكن من المستغرب أن يختار هذه الوجهة وهو المصنف ضمن خصوم الحماية.
هكذا وصل الشاب روما سنة 1879م، ليلتحق بكلية حقوقها حيث نال ليسانس الحقوق سنة 1883م، والتحق رسمياً بسلك مهنة في نفس المدينة، ثم في فلورنسا لاحقاً. إبّان نفس الفترة، حصل على الجنسية الإيطالية. وباستثناء انقطاعات قصيرة، استقر داود في إيطاليا التي لم تتوان عن الاستعانة بخدماته وصولا لسنة 1912م. وقتها تخلّى عن مساره المهني السابق، نحو البحث الأكاديميّ، فسجل في الدكتوراه واختار التخصص في دراسة الفقه الإسلامي تحديدا، ليصبح بذلك أحد أبرز مستشرقي عصره وأشهرهم. وشهرته تلك، سرعان ما جلبت له أنظار الاستعماريين مرة أخرى، ولكن هذه المرة قادته نحو مصر[7].
في مصر.. من المحكمة إلى الجامعة
كان لمصر بدورها نصيبٌ من سيرة الرجل ومسيرته، وتحديداً في مناسبتين متباعدتين زمناً وتجربة. كانت أولّها محاكمة الزعيم المصري أحمد عرابي، الذي حاول التصدي للحملة الإنجليزية على مصر، وبسبب فشل حركته تمّ اعتقاله، ووقعت محاكمته سنة 1882م. وبينما كان سانتيلانا الشاب طالباً فيروما، تواصلت معه ثلة من المحامين الإنجليز، كانوا قد مثلوا لجنة الدفاع عن عرابي. وقد وقع اختيارهم على ذلك الشاب نابعاً من شهرته حينذاك، وتمكنه من اللغات العربية والانجليزية، وكذلك لسمعته. هكذا سانتيلانا بحماس في هذه التجربة، وانيطت إليه خلالها مهام عدة من ترجمة محاضر المحاكمة وحتّى التوسط لدى ممثلي سلطات الأنجليز[8]. وبعد صدور حكم الإعدام بحقّ عرابي، تم تخفيفه للنفي نحو جبل سرنديب في المحيذ الهنديّ.
رغم دوره الحاسم في هذه المحاكمة، إلاّ أنّ الشاب عاد وانكب على دراسته القانونية التي توسعت شيئا فشيئا لتعم عدة علوم أخرى من علوم الحضارة العربية الإسلامية كالمنطق والفلسفة. كذلك ذاع صيته في تدريسها بالجامعات الإيطالية. ولذلك أرسلت الجامعة الأهلية المصرية سنة 1910م طلبا للحكومة الايطالية لإلحاق الدكتور بها من أجل تدريس الفلسفة الإسلامية، وهو ما تم تحت إلحاح حكومته وأصدقائه، وهناك أمضى فصلين دراسيين، درس فيهما أحد أهم أعلام مصر، طه حسين. وفي مذكرات هذا الأخير، نجده يشير صراحة لأستاذه فيقول: “وهذا الأستاذ سانتيلانا يدرّس بالعربية أيضا، وفي لهجة تونسية عذبة، تاريخ الفلسفة الإسلامية وتاريخ الترجمة خاصة”[9].
تونس مرّة أخرى
في الفترة التي تخللت تجربتي سانتيلانا في مصر، وأثناء إقامته في إيطاليا، وصلته دعوة غريبة. لم يكن متوقعا أن الفرنسيين الذين كانوا وراء ترحيله من تونس، سيطلبون منه العودة مرة أخرى… لقد كانت عودته العام 1896م، هذه المرّة، مرتبطة بدور محدّد يتعلّق بمهاراته وسمعته الأكاديمية التي ما فتأت تتصاعد. ذلك إنّ الفرنسيين الذين كانوا بصدد مباشرة وضع المساطر القانونية التونسية، ونقلها من منظومة الفقه الإسلامي نحو ترسانة وضعيّة حديقة، على شاكلة القوانين الوضعية الفرنسية، لم يجدوا أهلا للمهمة أفضل من المحامي الكهل. فالرجل ملم بالقوانين المدنية الأوروبية على اختلافها خاصة الحديثة منها كالمجلتين الإيطالية والألمانية. ومن جهة أخرى هو متخصص في الفقه الإسلامي السائد في البلاد التونسية إضافة طبعا لمعرفته بأحوالها وشؤونها.
لم ترد سلطات الحماية خوض معركة قانونية مع النظم السائدة في تونس واستنساخ تجربة الجزائر، لذلك لم تجد أفضل من داود كرجل تعديل ومصالحة وتسويات، ليشغل مكانة مقرر لجنة “تقنين القوانين التونسية” التي كانت متكونة من خمس أعضاء، أربع منهم فرنسيون أما هو فقد كان الوحيد العالم بالفقه الإسلامي وتحديدا المذهب المالكي السائد في تونس[10]. وبعد ثلاث سنوات من العمل أصدرت اللجنة تقريرها، الذي اشتهر بين المتخصصين والناس تحت مسمى تقرير سانتيلانا. ذلك أن الجهود المبذولة فيه فعليا كانت أغلبها راجعة للرجل وفكره وتمثله للقوانين الغربية والفقه الإسلامي، فيما اقتصر الدور الفرنسي على المعاينة والملاحظة. وهكذا صدر المشروع التمهيدي للمجلة المدنية التونسية في حوالي 900 صفحة ويشمل النواة الأولى للتقنين المدني الحديث في تونس وواحدة من أولى تجارب المنطقة ككل في التقنين الوضعي وخاصة في المصالحة بين المنظومتين القانونيتين للحضارتين. ولعل استمرار العمل بمجلة الالتزامات والعقود التونسية- نتاج مشروع سانتيلانا- لحدود اللحظة، دليل على نجاعة هذا العمل وديمومته واستلهامه في عدة تشاريع عربية أخرى: المغرب وموريتانيا ولبنان[11]. وإثر انتهاء عمله، غادر داود تونس في صمت، ليعود مجددا نحو إيطاليا مستكملا دروسه وأعماله ومشاريعه.
في خدمة إيطاليا .. حتى النهاية
عند عودته لإيطاليا، أمضى داود الردح الأطول من سنواته في البحث العلمي وخاصة الترجمة، أين نقل للإيطالية مختصر خليل، أحد أهم مراجع الفقه المالكي وبعد رحلته التدريسية لمصر، شاءت الأقدار مرة أخرى أن يعود لبلاد عربية، هي ليبيا هذه المرة. إذ إحتاج له الإيطاليون أول غزوهم لها، في وضع مشروعهم الاستعماري الكبير لإعادة قولبة البلاد، خاصة على الصعيد القانوني. ونظرا لشهرة سانتيلانا ونجاح مشروعه التوفيقي في تونس، طلب منه هذه المرة وضع جملة من التشريعات المدنية الحديثة والمتناغمة مع ثقافة ونظم البلاد. وهو ما قام به، ولكنه اختار في النهاية التفرغ أكثر وكليا لدراسات الفقه والحضارة العربية الإسلامية. ومن سنة 1913 إلى 1923، شغل كرسي الشريعة الإسلامية في جامعة روما ليكون أول مدرس للفقه الإسلامي فيها[12].
ميراث سانتيلانا
الثاني من مارس/آذار 1931م، في العاصمة روما، رحل داود سانتيلانا عن عمر ناهز 75 سنة، تاركاً وراءه إرثاً ضخماً من المؤلفات والمحاضرات في الفقه الإسلامي، والقانون الإسلامي الروماني المقارن، والقانون الوضعي الحديث، إضافة إلى أبحاث أخرى متعددة في المنطق والفلسفة الإسلامية والعلوم السياسية، ومسودات ومشاريع لم تكتمل في الفقه والتاريخ وغيره. في تلك الفترة، مَثّل الرجل بواكير مدرسة استشراقيّة جديدة تخلّت عن التنميط المتعصب والمستعلي على الشرق وعلومه وحضارته، وتوجهت صوب البحث والتنقيب فيه، في صميم بناه الداخلية، بأدوات نقدية صارمة ومنفتحة.
لحدود اللحظة لا تزال أعماله، وإن قلّت شهرتها، بمثابة وثائق مرجعيّة لفهم النقلة النوعية في النظم القانونية والحضارية لدول عربية، خاصّة تونس. ولكن هل كان سانتيلانا مستشرقاً حقاً ؟ تبدو الإجابة بنعم قاصرة على الإلمام بكلّ الصورة. فالرجل، وإن تعدّدت مناهله وخلفياته وتجاربه، إلا أنه حمل في صميم هويته ومسيرته من روح الشرق وهمومه وترابه الكثير… ولو جازفنا لقلنا إنّ داود لم يكن يوماً مستشرقاً بقدر ما كان خليطاً من كلّ شيء!
أحمد حرشاني (تونس، 1999)