في كتابه «في جوّ من الندم الفكري» يذكر عبد الفتاح كيليطو عددًا من التّعريفات التي صاغها الكاتب إيطالو كالڤينو للعمل الكلاسيكي، والتي يتناول في أحدها الأعمال الكلاسيكية، بصفتها تلك الأعمال التي يعلن القارئ أنه يعيد قراءتها، ولا يفصح البتة أنه يطلع عليها للمرّة الأولى.
المثير في هذا التعريف كونه يقرُّ ضمنيًا بوجود تصوّر شعبيّ لكلّ عمل كلاسيكيّ؛ أي أنّ الكتب الكلاسيكية هي كتب نُدرك مدار أفكارها ومصائر شخصياتها دون وجوب قراءتها. فلو تناولنا بالذكر، رواية فرانكنشتاين لماري شِلِّي، من المرجّح أن تتبادر لأذهاننا قصّة وحش يخلقه عالِمٌ مهووس بفكرة الخلود، لكن القصة تنتهي بهروب الوحش، بعد قتل خالقه، ليعيث في الأرض قتلًا وفسادًا.
بعيدًا عن كون القصّة الأصليّة مُخالفة تمامًا لهذا التصور الشائع، فإن هذا يحيلنا مرة أخرى إلى تعريف إيطالو كالفينو، لندرك أن الأعمال الكلاسيكية ليست فقط تلك الأعمال التي نتوهم عِلمًا مُسبقًا بها، بل هي كذلك أعمالٌ نعيد قراءتها على ضوء هذا التوهم. ومنه تغدو أيّ قراءة لرواية فرانكنشتاين مُلزَمة بالتطرق إلى أفكار من قبيل: علاقة الإنسان بالعلم، التخوف من التطور التكنولوجي وإعلان انتصار المادّة على الإنسان.
لكنّ قراءة فرانكنشتاين، للمرّة الأولى، كفيلةٌ بأنْ تكشف عن أبعادَ أخرى تتجاوز هذه الاختزالات. ولعلّه من المشروع أن نقارب هذا العمل من زوايا أخرى. وما أكثر هذه الزوايا التي يحفل بها عملٌ كفرانكنشتاين، والتي لها حظٌّ من أساس القصّة، لا من هامشها كما يخال البعض.
فلسنا نخطئ إن قُلنا أنّ قصّة فرانكنشتاين هي قِصَّةٌ إنسانيّة، عن حكاية مخلوق تخلّى عنه خالقه بسبب قُبحه، وأنكره النّاس لذات السبب، فضاقت نفسه من فرط الوحدة والكراهية، وعزم على الانتقام ممن جنى عليه بحياةٍ بائسة.
لا تولد قبيحًا: ماذا لو كان وحش فرانكنشتاين جميل المظهر؟
«كأحد أشباح موتى فرانكشتاين، أختار أقرب تابوت إلى جواري وأدخل فيه. أظلّ فيه حتى صباح اليوم التالي. مُجرّد جثة شمعيّة شاحبة على شفتيها ابتسامة توحي بالموت والانقباض الشديد…». في واحدة من قصصه القصيرة، كتب رجاء عليش هذه الكلمات واصفًا معاناته مع القُبح. والجدير بالذكر أن رجاء عليش، هو كاتب مصري، لا نكاد نقف اليوم على أثر له سوى روايته «كلّهم أعدائي» ومجموعة قصصية بعنوان «لا تولد قبيحًا» كتبهما قبل أن يقدم على الانتحار سنة 1979، بعد معاناته من التهكّم والنبذ، بسبب ما وصفه بِقُبحه الشديد.
ليس من المصادفة أن يستدعي رجاء عليش وحش فرانكنشتاين لوصف حاله، إذ أنّ المأساة هنا واحدة، وسببها كذلك واحد: أن يُولَد المرء قبيحًا! فقد نَبذ فرانكنشتاين مخلوقه لشدّة ذُعره من منظره القبيح. وهو القائل لحظة ولادة الوحش «رباه! ليس هناك فانٍ يُمكنه احتمال هيئته المخيفة. بل إن المومياء التي تعود إلى الحياة ليست تثير الرُّعب كذلك المسخ. لقد رأيته وهو لم ينتهِ بعد، وكان قبيحًا وقتها لا شكَّ في هذا»
كذلك نرى من خلال هذا القول أنّ إدراك القُبح، من جانب العالِم فرانكنشتاين، كان الحدّ الذي تحولت فيه فتنة الخالق بالمخلوق، إلى ذُعرٍ يعتري الصّانع مما اقترفته يداه. «لم أحتمِل منظر الكائن الذي صنعته» يقول فرانكنشتاين. ويبدو أن هذا الشعور الجامع بين الرعب والندم والاشمئزاز، هو من حتّم على فرانكنشتاين أن يتعامل مع مخلوقه بصفته وحشًا. فهو لم يكن وحشًا قبل الانتباه إلى قُبحه، ولكنّ القُبح هو سِمة الوحوش.
في رواية ماري شلِّي، كان هدف فرانكنشتاين بعثَ الحياة في جسدٍ ميّت. لكن هذا الهدف سرعان ما تلاشى لحظة نجاحه، فقد تمكّن فرانكنشتاين بالفعل من إحياء جسدٍ ميّتٍ، بيد أنّ هذا الجسد الميّت كان قبيحًا عند قيامه، فأيُّ معنى للحياة إذا ما قامت على صورة القُبح؟ ولعلّ هذا السؤال هو ما أرّق فرانكنشتاين عند بلوغه ما كان يخاله حُلمًا. ولعلّ مردّ ذعره، هو إدراكه لانعكاس قُبحه في صورة مخلوقه، من ناحية أنّ المخلوق كائنٌ على صورة خالقه، فالقبُح بتعبير رجاء عليش «يستفز مشاعر الآخرين العنيفة» ولمّا تحقق فرانكنشتاين من هذا القبح، أخذ في ازدراء مخلوقه، فوصفه بالوحش، ولقّبه بالمسخ تارةً، وبالجثّة الشيطانية طورًا، تاركًا إيّاه بلا اسم، إذ ليس للقبحى أسماء.
في معنى إدراك القبيح لقُبحه
كان الحُطيئة شاعرًا سليط اللِّسان، كثيرَ الهجاء؛ فقد هجا أمّه وأباه وزوجته وأبناءه. ويبدو أنّ الحطيئة قد كان مُدركًا للقُبح، برِمًا به، فطوّع قبيح الألفاظ لهجاء ما ماثلها من صور. ويُحكى أنّه قد مرّ يومًا ببئر، فرأى انعكاس صورته على سطح ماء البئر. ولمح فيها دمامةً لعلّه لم يلمحها من قبل، فقال هذه الأبيات يهجو فيها نفسه:
أبت شفتاي اليوم إلاّ تكلمًا
بسوءٍ فلا أدري لمن أنا قائله
أرى بي وجها قبَّح الله خلقه
فقُبِّح من وجه وقُبِّح حامله
كره الحطيئة ما رآه في وجهه من دمامةٍ، فطال بالهجاء نفسه، وعَدَّ قُبح الوجه دليلًا على بشاعة الذات. وشبيهٌ هذا بشعور وحش فرانكنشتاين حين تعرّف على صورته، للمرة الأولى، في بركة ماءٍ شفّافة فقال «تراجعتُ إلى الخلف في البداية، غير قادرٍ على تصديق أن هذا هو انعكاسي بالفعل في المرآة، وعندما اقتنعتُ تمامًا بأنني هذا الوحش بالفعل امتلأ صدري بأقسى مشاعر القنوط والخزي. يا للخسارة! لم أكن أعرف بعد التأثير اللعين لهذا التشوُّه البغيض»
إنّ صدمة وحش فرانكنشتاين، هي صدمة مخلوق أدرك اختلافه عن سائر الخلق. وهي صدمة كائن لا تصِحُّ فيه صفة الوحش. فمنذ متى صارت الوحوش تضيق بالقُبح بل وتدركه؟ ثُم أنّ مشاعرًا كالانكسار والخزي والدونيّة هي مشاعر إنسانية، علاوةً على كونها نابعة من تفطّن صاحبها إلى صفة الدمامة، ومُقترنةً بألم الرّفض والتخلّي من جانب الخالق. فليس لهذا المخلوق بعد كلّ هذا، إلا اليقين من كونه مِسخًا قبيحًا لا طائل من وجوده.
ولرجاء عليش قولٌ في هذا، إذ يزعم أنّه عارفٌ بالقُبح كما لم يعرفه أحدٌ غيره. فالقبح، بحسب وصفه، هو صديقه اللدود، وعدوّه الوفيّ، يعايشه ويعيش داخله. ونقرأ في مقدّمة الكاتب لمجموعته القصصية «لا تولد قبيحًا» عن لحظة الإدراك، والتي تبدو كامتداد لتجربة وحش فرانكنشتاين من قبله، فيكتب واصفًا إيّاها «أحسست بفظاعة الاكتشاف منذ لحظات الإدراك الأولى لحياتي.. وضعت أناملي الرقيقة فوق جلد حيوان خرافي رهيب بعث الرعب في قلبي منذ اللحظة الأولى» يتحدث رجاء عليش عن اكتشاف فظيع؛ ذُعرٌ يدفع المرء إلى التراجع إلى الخلف! يتعلق الإدراك هنا بفكرة الاختلاف مرة أخرى؛ فالآخرون بشر، في حين أن القبيح حيوان خرافيّ أو وحشٌ مشوّهٌ بغيض. ويغدو المشهد هنا أشبه بمرآة يقف أمامها رجاء عليش، ليرى صورة وحش فرانكنشتاين ماثلة أمامه.
فنُّ صناعة الوحوش
بعد تخلّي فرانكنشتاين عن وحشه، أخذ المخلوق البائس يجوب الأرض شريدًا، فعاش في الغاب كما تعيش البهائم. ثُمَّ مضى يحاكي حياة الإنسان الأوّل، فاكتشف النّار، وتغذّى على الثّمار، وأبى قتل الحيوانات وأكل لحومها. ثُمَّ اتّقد في نفسه الحنين إلى الأُلفة والنّاس، وضاق صدره بالوحدة من جديد، فكان شعوره هذا تنزيهًا لطبيعته عن طبيعة الوحوش. ولئن كان المُؤثر للعزلة، بكلمات أرسطوطاليس، وحشًا أو إلهًا، فإنّ مخلوق فرانكنشتاين كان أقرب إلى كونه حيوانًا اجتماعيًا من كونه وحشًا بريًا.
في رحلته هذه، يهتدي مخلوق فرانكنشتاين إلى كوخ تسكنه عائلةٌ فقيرة، فيأخذه الإعجاب بأشكالهم وملامحهم «كنتُ معجبًا للغاية بهيئة جيراني، بجمال ملامحهم ونعومة بشرتهم» ويعزم المخلوق على التقرّب منهم، وخلق صلة بهم. فيراقبهم من مخبئه، ويقضي يومه في الاستماع إلى أحاديثهم، حتى انفكّت عقدة لسانه، وتعلّم الحديث بلغة بني الإنسان.
تخيّر المخلوق يومًا، كان فيه الكوخ خاليًا من أهله، باستثناء شيخٍ أعمى لا يكاد يبرح مكانه. فدخل عليه الوحش، وادّعى أنه مسافرٌ يبتغي الجلوس أمام النار لبعضٍ من الوقت. وجرى في ذلك حديثٌ طيّب بين الوحش والشيخ، ورقّت نفس الوحش لهذا القبول الذي لم يعهد له مثيلًا، وظلّ يذكر قول الشيخ «إنني كفيف ولا يُمكنني الحُكم على صِدق ملامحك، لكن ثمَّة شيئًا ما في كلماتك يُقنِعني بأنك مُخلِص.» ولكنّ ساعة الألفة لم تدم طويلًا، إذ عاد أهل الكوخ، ورأوا أباهم يجالس مسخًا قبيحًا. فمنهم من خرّ فاقد الوعي، ومنهم من انقضّ على الوحش ضربًا، ففرّ المسكين هاربًا يجرّ مأساة رفضٍ جديدة.
في عالمٍ من العُميان، لن يكون وحش فرانكنشتاين وحشًا.
ولكنّ أعين المُبصرين قادرةٌ على صناعة الوحوش. فعندما جفل فرانكنشتاين من مرأى مخلوقه وعزم على تدميره، تَقدّم الوحش واضعًا يده على عيني صانعه «ها أنا ذا أريحك يا صانعي» ولعلّ رجاء عليش كان حالمًا بهذه الراحة، أو لنقل بهذه الرحمة التي تقيه من عيون البشر السامة. لنراه مُحدثًا عن مدينة فاضلة من العُميان «لو تصورنا مثلاً عالماً من العميان، أو تصورنا القبيح يعيش وحيداً في مكان ليس فيه بشر، لما كانت هناك مشكلة على الإطلاق.. المشكلة أنّ هناك عيوناً آدمية مليئة بقسوة مروعة توجّه أشعتها الدائمة إلى الإنسان القبيح فتحرقه.. تثير فيه كلّ عوامل الإحساس بالنقص والغرابة.. بأنه منبوذ من العالم الذي يعيش فيه، وأن من الخير له أن يغرب عن وجههم، لكنّ الإنسان القبيح من حقّه أن يعيش في هذا العالم؛ لأنه يملك كلّ مقومات الحياة والوجود في داخله، لكن الناس لا يسمحون له بذلك.. الطبيعة تسمح، لكنّ الناس لا يسمحون»
يقف رجاء عليش مرة أخرى إلى جانب وحش فرانكنشتاين، فيقاسمه الخيبة ويشاركه الأحلام. كما يأخذنا في قصّة له بعنوان «الأشياء الصغيرة» ليحدثنا عن ذات الحنين والشّوق، الذي دفع الوحش إلى ملاقاة سكان الكوخ. ولكنّ شيئًا من شوق رجاء كان مُتعلقًا بالمرأة، أو بصورة الجمال التي أبصرها في المرأة، فيقول «حنين عميق يدفعني إلى الهروب لملاقاتها في الشارع.. ليس فقط لمداعبة خصلاتها الطويلة الحمراء، كما أفعل وأنا داخل الشقة، بل لأحتويها كلّها بين ذراعي.. لأذوب فيها تماماً.. أريد أن أقف تحت خصلاتها الطويلة الحمراء، وآخذَ حماماً دافئاً يذيب كلّ حبات البرد المتجمدة في دمي.»
وإن كان الشوق واحدًا، فالخيبة كذلك واحدة. ويبدو لنا رجاء عليش، كمن لم يعد يرجو من الحياة شيئًا «لاأحد في هذا العالم يحب الإنسان القبيح.. لا أحد يشفق عليه، أو يثق فيه. إنه المرفوض الأول.. المكروه الأول.. المعذّب الأول.. إنه ضمن وخارج إطار الحياة المألوفة، يعيش وحيداً ويتعذب وحيداً ويموت وحيداً.» يُحاكيه وحش فرانكنشتاين في هذا الشأن فيقول «كلُّ البَشَر يكرهون القبح، فكيف لا يكرهونني أنا الذي أقبح وأكثر بؤسًا من أيِّ كائنٍ حَيّ.» وبهذا يغدو القُبح حقيقةً لا خوض فيها، فمتى حكم الناس على شيء ما بالقبح، فعلى هذا الشيء أن يكون بالفعل قبيحًا. ولا عجب في أن يُدرك المرء قُبحًا في وجهه، إذا ما كان يُناظر سحنته بأعين سائر البشر.
الشوق إلى حواء
هل يمكن تخيّل آدم وحيدًا في الجنّة؟ وأي سعادة في الجنّة إذا ما كان المرء وحيدًا؟ فليس توق العباد إلى الجنة إلا توقًا منهم إلى ملاقاة أحبائهم وذويهم. ونحن نرى في رواية فرانكنشتاين، استدعاءً متكررًا لقصّة الخلق، في علاقة بالأُلفة والوحدة. ونرى كذلك، مُناجاة المخلوق لخالقه، وتوسّله العطف والأُنس خوفًا من الوحشة والخلاء. يقول الوحش مخاطبًا فرانكنشتاين «تذكَّر أنني صنيعتك، وحريٌّ بي أن أكون كآدمَ لك، لكني صِرتُ كإبليسَ الذي حرمته من السعادة دون جريرة.» والحرمان من السعادة هنا، مرادفٌ للحرمان من زوجٍ ورفيق.
ونحن نعلم أن الله قد خلق آدمَ، وخلق له من ضلعه زوجًا، وقال له بأن يسكن وزوجه الجنّة. ونعلم كذلك أن فرانكنشتاين قد خلق كائنًا على صورة وحش، وأبى عليه زوجًا يسكن إليه ويؤنس وحدته. وقال له هذا الجحيم فاتخذ فيه مسكنًا! ومنه كانت الحياة جحيم هذا الوحش.
ولم يكن تمرّد هذا الوحش، وسعيه إلى الانتقام، إلا شكوى من مرارة الرفض وألم الوحدة «لم تكن لديَّ حوَّاء تُخَفِّف آلامي وتُشارِكني أفكاري» ونراه فيما بعد متضرّعًا إلى خالقه كي يجعل له قرينةً، تكون له عزاءً عن صدود البشر. فلو ردّه أبناء آدم فإن «مخلوقة شائهة مخيفة مثلي لن تتمنَّع عني. رفيقتي يجب أن تكون من نوعي نفسه وبعيوبي نفسها.. وأنت ستصنع لي هذه المخلوقة»
ومن ناحيته، كان رجاء عليش دائم التوق إلى «حوّاءِه» دائم الخوف من صدّها. ففي قصّته «القبيح والناس» يغنم البطل برفقة حوّاء جميلة، على أنّ مجرّد الرفقة خيرٌ من حال الوحدة، ونراه يمشي إلى جانبها متثاقلًا، فيما تتقاذفه الهواجس «للمرة المليون لا يستطيع أن يصدق أنّ فتاة جميلة يمكن أن تحبّه هو في الوقت الذي يحسّ فيه أنّه مكروه من كلّ الناس.» ثُمّ تنتهي القصّة بمرور الرجل والمرأة، من أمام «شلّة من الأوغاد» فيأخذ كُلٌّ منهم في رميه بأشنع النعوت، فإذ هو فأرٌ طويل الذيل، وإذ هو قردٌ ناطق، وإذ بأحد أفراد الشلّة يخاطب الآنسة التي تصحب البطل فيقول «ألا تخشين منه يا آنسة.. يمكن أن يعضّك.. إنه غوريللا.. غوريللا بالتأكيد..؟»
غَنِم بَطلُ رجاء عليش، في هذه القصة، بشيء من الألفة ولو لوقت وجيز. أُلفة كالتي طابت لها نَفْسُ الوحش عند المكوث لدى الشيخ الكفيف. ولكنّ أعين المبصرين عادت لتكشف عن الوحوش، وزال بهذا، الحلم الخائن.
إن إمكانات وجود حواء، بالنسبة لوحش فرانكنشتاين ورجاء عليش، محدودةٌ للغاية، فإمّا أن تكون هذه الحواء عمياءَ، وإما أن تكون على صورة آدم، أي مخلوقة من ضلعه، «شائهةً مُخيفةً مثلي» بتعبير وحش فرانكنشتاين.
ولكننا نلاحظ على مدار الرواية، رفض فرانكنشتاين خلق الحواء التي حلم بها الوحش. وفي هذا دلالة على أن القُبح ليس فقط سمةً مرفوضة، من ناحية كونه قُبحًا، بل إن إنتاج القُبح، وتناسل القبحى، لأمرٌ أشدُّ هلعًا من الدمامة نفسها. ولئن كان فرانكنشتاين، قد شرع بادئ الأمر في صُنع مخلوقةٍ من جنس وحشه، إلا أن ما أثناه عن عزمه، هي فكرة إنتاج القُبح، إذ يقول محدثا نفسه «حتى لو تركا أورپا ولجآ إلى صحاري العالم الجديد، فإن واحدًا من أول الأشياء التي يتعطَّش لها الشيطان إنجاب الأطفال، وعندها سينتشر جِنس من المسوخ في الأرض، ويجعل حياة الإنسان ذاتها محفوفة بالمخاطر مليئة بالرُّعب.» ونقرأ شيئًا من هذا، في قصة «الفتى والمقارنة» لرجاء عليش، أين يتمّ صدّ شابّ قبيحٍ عن تعلّم عزف البيانو، بتعلّة أن في يديه تشوهًا يحول دون قدرته على العزف. وفي هذا إقرارٌ بأن القبح قاصرٌ عن خلق الجمال، ولو كان ذاك الجمال مجرّد لحنٍ يمرُّ بالآذان.
في العتب على الخالق
سبق وقلنا، أنّه يصحّ فهم رواية فرانكنشتاين بصفتها قصّة عن الخلق والتخلّي، والمصير الناتج عن هذا التخلّي. مما يوحي بعلاقة قلقة بين الخالق والمخلوق؛ أي أنّ مأساة المخلوق هاهنا، من صنع الخالق كذلك. إذ يرى الوحش في رواية فرانكنشتاين أن خالقه قد أذنب في خلقه قبيحًا، كما أذنب في خلقه وحيدًا، لتستحيل الحياة بهذا ضربًا من خالص العبث والمعاناة. وفي كلمات الوحش ما يُبين عن شديد سخطه على خالقه «ملعونٌ اليوم الذي تلقَّيتُ فيه الحياة! ملعونٌ يا صانعي! لماذا صنعت وحشًا بشعًا تفر أنت نفسك منه باشمئزاز؟ الله برحمته خلق الإنسان في أحسن تقويم، لكني مجرَّد صورةٍ قذرةٍ منك أنت تفوق شناعتها الوصف. إبليس كان لديه رفاقه من الشياطين أما أنا فوحيد منبوذ.»
وُلِدَ وحش فرانكنشتاين مصلوبًا، وكان فِعلُ التخلِّي بمثابة الصليب الذي حمَلَه المسخ طيلة حياته، فكان شقيًّا لا ينفكُّ عن السؤال: إلهي إلهي! لماذا تركتني؟ ونقرأ على لسانه قوله هذا «تذكَّرتُ تضرُّع آدم لخالقه، لكن أين كان خالقي أنا؟ لقد هجرني تمامًا، وبكلِّ ما يعتمل في قلبي من مرارة لعنته» ولئن كان السؤال عن الخالق متكررًا، فإن له أكثر من نبرة؛ فقد يُطرح من فرط الحزن والأسى، وقد يُطرح بدافع السخط والانتقام وطلب الثأر. يحضر هذا السؤال عند رجاء عليش، مصحوبًا بعنف شديد ونقمة أشدّ «أتصوّر لو أنني رأيت الإله، في لحظات الحزن الفظيعة في حياتي، لما تردّدت في إطلاق الرصاص عليه، فما صنعه هذا الإله بي يُعدّ جريمة لا يمكن اغتفارها.»
يبدو السعي إلى قتل الإله هنا، ضربًا من ضروب تعزية النفس عن الخطيئة الأولى؛ أي خطيئة القبح التي ارتكبها الخالق في حقّ مخلوقه. ونحن نجزم بأن ولادة شخصية خيالية كوحش فرانكنشتاين، هي طبعًا مختلفة عن ولادة رجاء عليش. لكن هذا الأخير يظلٌّ مُصِرًّا على كونه صنيعةً لكيان تسبب في وجوده على هذه الشاكلة. وهو في هذا، لا يقتصر في عتابه فقط على الإله حين يقول «إلهي، لقد أرسلتني إلى عالم أشعر فيه بخجل شديد من نفسي كلما أبصرتها في عيون الآخرين.» بل يتوجه بعتابه إلى أبيه، سُلطةٌ أخرى تُعدُّ معنيةً بوجوده، وواهبةً إيّاه الحياة بشقائها «أبي.. بنوّتي لك تمنعني من كراهيتك.. لا أعتقد أنني حقيقةً أكرهك.. لكنني لا أستطيع أن أغفر لك أنك أحضرتني إلى عالمٍ يناصبني العداءَ الشديد حتى نخاع عظامه.»
لا يقف العتاب عند حدّ كونه عتابًا؛ فنحن نرى كيف يمضي مخلوق فرانكنشتاين في ملاحقة صانعه، وكيف تدفعه رغبة الانتقام إلى النيل من صاحبه «سأنتقمُ لجراحي، وطالما لا أستطيع العثور على الحُب، فسأنشرُ الخوف» ولكنّ انتقام الوحش لم يكن أهوج كانتقام الوحوش الساعية إلى فناء البشر. بل على العكس تمامًا، فوحش فرانكنشتاين لم يقتل، في حقيقة الأمر، إلا شخصيتين، هما شقيق فرانكنشتاين وزوجته. وكان الوحش في هذا مدفوعًا بألم الوحدة، فأراد لخالقه أن يتجرع ذات الكأس لعلّه بذلك يعي شيئًا من معاناته.
وللانتقام حظٌّ كذلك في قصص رجاء عليش، إذ نقرأ في قصة القبيح والناس، عن إقدام البطل على طعن أحد أفراد «شلّة الأوغاد» فكان بذلك كالمُقتصّ من الربّ في صورة عباده الآثمين. وعلى عكس وحش فرانكنشتاين، لا يملك رجاء صلة تيسّر له انتقامًا مباشرًا من خالقه. ولئن كان في البشر شيئٌ من خالقهم، فإن في النيل منهم إدراكًا لثأرٍ من هذا الخالق. يقول رجاء واصفًا مشهد الانتقام «أخيراً وقعت الكارثة التي كان يتوقّعها دائماً في حياته؛ أن يقتل إنساناً آخر من الذين استفزّوه بشدة، وامتهنوا آدميّته.»
هل للحياة معنى في ظلّ القُبح؟
منذ أن بدت عليه ملامح الحياة، حكم فرانكنشتاين على مخلوقه بالموت. ولا تكمن قسوة هذا الحُكم في مجرّد سلبه للحياة من مخلوق حيّ. فقرار الموت الذي أصدره فرانكنشتاين، هو قرارٌ خالٍ من أي شعور بالتعاطف مع كائن حيّ، قد تُشقيه الحياة بسبب اختلاف مظهره. وليس هذا الحُكم برديفٍ لأحكام كالموت الرحيم مثلا، فنحن لا نرى هنا أي رغبة من جانب فرانكنشتاين في الحنوّ على مخلوقه، أو التفكير في وضع حدّ لمعاناته، بقدر ما نراه مدفوعًا برغبة تدمير مسخٍ شائه، أو مداراة خطأ ما كان يجب التورط في ارتكابه. ولعلّ هذا الدافع، هو أكثر ما آلم مخلوق فرانكنشتاين. وهو ما أجاد رجاء عليش التعبير عنه بهذه الكلمات «عندما يصبح الموت مجرد إبعاد شيء غير مرغوب فيه، يكتسب بُعداً جديداً هو المهانة.»
بِمَوتِ العالِم فرانكنشتاين، انقطعت أسباب مخلوقه بالحياة، وتراءت له أشدّ عبثًا مما كانت عليه؛ فقد أذاقته البؤس منذ لحظة إدراكه الأولى. واتّسمت، في باقي لحظاتها، بغياب المعنى وانتفاء السبيل. وموتُ فرانكنشتاين، هو موتُ كلّ فرصةٍ لمخلوقه للنعيم بالصحبة والأُلفة، وهو كذلك موت لكل غاية جمعته بالحياة، لِيَلُوحَ الانتحار كأوحد السبل وآخرها إلى الخلاص.

رجاء علّيش
العام 1979، انتحر رجاء عليش، دون أن نقف في هذه السنة على يومٍ أو شهرٍ يُؤرّخ لنا تاريخ هذه الواقعة. رحل رجاء عليش، دون أن يُدرك أحدٌ حضوره السابق لرحيله، فهو رجل، بحسب تعبيره، «مات في حياته» وما ظلّ سببٌ يجمعه بالدنيا، بعد أن ضاق بها وضاقت به، فكان الفراق، وكانت هذه كلمات رجاء الأخيرة «عشتُ هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء»
مات رجاء عليش ميتة وحش فرانكنشتاين. وذلك بعد أن مرّ بأثره، وسار على خُطاه، وتعثّر بالحياة حتى استقامت مشيته بالموت. وكان كلاهما صورةً صادقةً لمعاني الشقاء، وأثر النبذ وعبث الحياة. حتى أنّي أخالهما معًا، مُترنِّميْن بشعر أبي العلاء المعري حين أنشد «فيا موتُ زُرْ / إنَّ الحياة ذميمة» ولأنّ هذه الحياة ذميمة، ولأنّ الدهر هازلٌ، أطلق رجاء عليش النار على نفسه، فكان في النار خلاصه. في حين ألقى وحش فرانكنشتاين بنفسه إلى الأمواج، وكان آخر حديثه «ستنام روحي في سلام، وإن كنتُ أستبعد أن أجد سلامًا حتى في الموت» ثُمّ غابَ في الظّلمات بلا أثر.
أحمد محجوب
طالب فلسفة بجامعة بلد الوليد (إسبانيا)