في هذا الحوار، يُسافر بنا فريد الزّاهي إلى عوالم متعدّدة، يمتزج فيها الفكري بالفني والنقدي بالتاريخي، وذلك من خلال تقاسم تصوراته حول المتغيرات التي تعيشها كل من حقول الثقافة، الأدب والفن والعلوم الإنسانية؛ من خلال تجربته الطويلة، باعتباره مثقفاً ملتزماً داخل المجال الأكاديمي وخارجه، خَبِرَ وعايش محطّات مهمة من تاريخ المغرب الحديث، تمكّن انطلاقاً منها من بلورة مشروع فكري ثريّ يغري في تقاسمه مع القراء والمهتمين بمجالات الصورة والجسد، خاصة الشباب منهم. وهو في ذلك يتحدث دون أن يشوبه أدنى تكبّر أو انفعال، بحسّ ساخر ولاذع إذا ما اقتضى الأمر ذلك. ناهيك عن رصيده الزاخر في ميدان الترجمة. لم يتوان الزّاهي في إغناء المكتبة المغربية والعربية بمساهمات قيّمة في مجالات متنوعة ومتناغمة ما تزال حاضرة في المشهدية الثقافية، بمقالات وكتب تواكب تحولات المشهد الثقافي والفني بوتيرة ذات صدى يتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة للوصول إلى المهتمين المغاربيين والعرب بهذه الحقول. من كتاباته: “الجسد والصورة والمقدّس في الإسلام” (1999)، “النص والجسد والتأويل” (2004)، “الصورة والآخر” (2013). من ترجماته: “مواقع: حوارات مع جاك دريدا” (1992)، “الصورة وموتها” لـ ريجيس دوبريه (2002)، “المقالات” لمونتيني (2021)…
طرس: في كلّ ما كتب عن مسارك المهني، وكذلك في الحوارات التي أجريت معك، يتم تقديمك بعدة “قبعات” (كاتب ومترجم وناقد فني). في أيّ صفة تجد نفسك أكثر؟
فريد الزّاهي: الحقيقة أن الصفة الأولى هي أمّ الصفتين وكأنهما جاءتا للتدقيق والتوضيح. أحيانا حين يتعلق المجال بالفضاء الأكاديمي أُنعت بالباحث. هذه الصفات كلها ترتبط بالكتابة بما هي أسلوب وخصوصية شخصية. فالباحث والمترجم والأديب، كما المفكر وناقد الفن، كلهم يواجهون محنة الكتابة واجتراح أسلوب خصوصي يعبر عن تموقع شخصي في رحاب اللغة والفكر والسؤال. ولا أخفيك أن تفضيلي لصفة الكاتب ورغبتي في أن تحجب “الواجهات الأخرى” التي تحضن ممارستي الثقافية، يأتي أصلا من كون الكتابة هي القدَر الذي يفصل بين الكاتب الحقيقي والكاتب الكاذب أو المزيف. أما الصفة التي أمقتها، والتي جاءت من ممارستي للنقد الأدبي في بداياتي، فهي صفة ناقد، التي لا زال البعض ينعتني بها، فأبلع ريقي امتعاضا. لقد كان جيلنا يقرأ الأدب، ويدرس الفلسفة، ويهتم بالسينما، ويرتاد المعارض التشكيلية. فممارستي الكتابية المتعددة نابعة من هذا المسير. وهي حكاية بدايات… فلكي تكتب عن الفكر، يلزم أن تنتظر طويلا قبل أن يصدر ما يستهويك؛ ولكي تكتب عن السينما، عليك أن تنتظر عاما أو أكثر كي يخرج فيلم مغربي للقاعات… كان إيقاع الثقافة المغربية في السبعينيات بطيئا بحيث كان صدور قصة أو قصيدة في جريدة أو مجلة يعتبر حدثا ثقافيا. وأنا بدأت أنشر في أواخر 1977 مقالات عن الأدب والثقافة، وصرت مترجما رغما عني لأني بدأت أترجم منذ نهاية السبعينيات إلى العربية البطائق التقنية للأفلام (التي كانت تأتينا باللغة الفرنسية)، تأميماً منا للنادي السينمائي بالمدينة الذي كان حينئذ يسيره الفرنسيون… وهكذا عند عودتي من فرنسا بدأت أنشر مقالات ودراسات عن السينما، وكنت من المؤسسين لجمعية نقاد السينما بالمغرب، قبل أن أضجر من أحوال السينما وعلاقتها المرضية بالدعم، وأعود لحبي الأول، الفن التشكيلي. لكن هذه المرة بالكتابة عنه باللغة الفرنسية… وتلكم كانت تجربة انفتاح مزدوجة الأثر والفاعلية والمتعة…
بيد أن هذا التعدد ليس من باب التنافر أو المفارقة. فتكويني في الفلسفة والجماليات يؤهلني أكثر من أي تكوين آخر لقراءة الصورة والسينما والفن. أما الترجمة فثمة تقليد جعل من هنري كوربان أول مترجم لهايدغر، ومن جاك دريدا مترجما لهوسرل في بداياته… وفي العالم العربي ثمة كتاب مترجمون أكثر من المترجمين المحترفين: عبد الرحمن بدوي، جبرا إبراهيم جبرا، أدونيس، محمد برادة، محمد بنيس، كاظم جهاد، عبد السلام بنعبد العالي، وغيرهم… إنه تقليد عالمي وعربي يمنح للترجمة بعدا ثقافيا شخصيا وغيريا ونكهة خاصة… وهو أمر يجعل من ممارستي للترجمة جزءا من اهتماماتي الفكرية. بل إني أحيانا أبالغ في الأمر فأقول: إني أفضل ترجمة كتاب جيد على أن أصدر كتابا غير مقنع!
ها أنت ترين أني بقبعاتي كلها لا أشعر بالانتقال من مجال إلى آخر بقدر ما أحسّ بأني أمارس ذاتي بشكل مختلف، تبعا لمزاج اللحظة أو تفاديا للملل أو بحثا عن متعة مغايرة… فأنا لست كاتبا أكاديميا، إذ إني بدأت النشر وأنا لا زلت تلميذا، أي قبل أن تطأ قدماي عتبة الجامعة بسنوات. وقد تكوّنت شخصيتي في تلك الفترة بالضبط. وحين بدأت البحث، كان أولا بممارسة الترجمة وكتابة المقال، لهذا لا تجدين في كتاباتي تلك “الركاكة” الأكاديمية المعهودة في الأبحاث، وقد أبدأ بحثا بحكاية وأنهيه بأخرى… البحث كما أراه هو أيضا مسألة لغة، وكتابة، وأسلوب من خلالها يعيد الباحث تأويل الذات والفكر واللغة والعالم…
ط: يُعتبر البعد الفلسفي- الأنثروبولوجي بمثابة الخيط الناظم للأبحاث المشكلة لمشروعك الفكري المُنبني على ثلاثية ” الصورة والجسد والمتخيل في الثقافة العربية”. تحدث لنا بتفصيل عن أهمية هذه المقاربة؟
ف.ز: لأعترف بدءاً بأنّ تكويني الجامعي فلسفي وأدبي في الآن نفسه. وهذا التواشج تلاءم أيضا مع دراستي الأكاديمية لأعمال الخطيبي، وهي ذات أبعاد فلسفية وسوسيولوجية وأدبية (بل وأنثربولوجية) في الآن معا. لعلي أنتمي للجيل الأخير الذي كان ميْسمه الأساس التشعب والتعدد اللغوي والمعرفي والثقافي، قبل أن تغلق الجامعة والتكوين الأكاديمي المرء في تخصصات لا يحيد عنها. أما أنا فقد اكتشفت أن اهتمامي الفلسفي والأدبي بالجسد يجرني حثيثا نحو آفاق أنثربولوجية قاومتها فترة قبل أن أجد نفسي في مرتعها كليا. وما دام الجسد كيانا وموضوعا ناظما ومخترقا لكافة المجالات (من الطب إلى التحليل النفسي، مرورا بالفلسفة والسوسيولوجيا والأنثربولوجيا)، وما دام هذا المفهوم يرتبط ارتباطا وثيقا بالصورة (صورة الجسد في التحليل النفسي، الصورة/الجسد في اللغة، الصورة المحتفية بالبورتريه والجسد في الفنون كلها)، بل ما دامت الصورة (الذهنية كما العينية) مدخلا للمتخيل وأداة له يبني عليها جدلية الدنيوي والمقدس، فإني وجدت نفسي أرتحل طواعية بين هذه الميادين من غير أي إحساس بالعسف أو الاعتباطية. إنها مسألة منظورية perspective نستبدل فيها المواقع لنرى بشكل جديد وأفضل جوانب في المجتمع كما في النصوص يصعب رؤيته انطلاقا من منظور واحد. ثم إن هذا التفاعل (في الموضوعات كما في المنطلقات المنهجية) يكون بشكل بديهي ضربا من التفاعل بين المباحث (InterLmultiLtransdisciplinarité) في وقت أضحى فيه هذا شعارا أكثر منه موقفا وموقعا فكريين. فهو لا يفكك فقط أحادية المعرفة ومركزياتها، وإنما يتطلب أيضا إلماما بالمباحث والمنهجيات المتفاعلة، وهو أمر لا يبلغه الكثيرون… لذلك يتقوقعون في موقع منهجي ونظري واحد ليطلوا من نافذتهم الضيقة على شسوع المعارف والموضوعات، وهي تنفلت منهم انفلاتا…
في الواقع، حين ندرس الجسد ونجعله محطّ اهتمامنا الفكري والبحثي والتحليلي، نجد أنفسنا بالضرورة في قلب قضايا يأخذ فيها البعد الأنثربولوجي حصة الأسد. لهذا السبب تحولت أبحاث دافيد لوبروطون من السوسيولوجيا إلى الأنثربولوجيا، بالرغم من أنه لا يقيم الفواصل بين المنظورين، حين اهتمت بالجسد والحواس والوجه والعواطف والمشي والألم وغيرها.
في بداياتي، حين درست الجسد في المجتمع العربي القديم، وجدتُ نفسي أمارس أنثربولوجيا تاريخية كانت بمثابة مدخل لأبحاث أخرى عن الجسد الكولونيالي وعن الانتحار والصورة وغيرها. أما الجسد في الفن والإبداع عموما فإنه، إضافة إلى هذا البعد الأنثربولوجي، يأخذ لبوسا فلسفيا فينومينولوجيا وجماليا. وهو ما يعني أن تضافر المقاربات تمكّن الباحث من حرية في النظرة والتحليل تجعله ينصت لمحددات موضوعه ومتطلباته، ويسعى للإمساك به تبعا لما يقترحه عليه أيضا. فالمنظور المنهجي، بالرغم من أهميته، يغتني دوما بالإنصات لمقترحات موضوع البحث والتحليل، وإلا أصبحت المنهجية أشبه بالروبوت تطبق تعسفيا على كل ما هبّ ودب، وتنتج تحاليل متناسخة.
ط: عبّرت أكثر من مرّة في لقاءاتك على أنّ التضخم الحاصل في الكتابات الأدبية بالمغرب منذ بداية الثمانينات إلى حدود اليوم هو نتيجة الإجهاز على الفلسفة والعلوم الاجتماعية في الجامعة. حدّثنا عن هذا الربط السببي؟
ف.ز: أنت تعرفين أن أول فيلسوف مغربي حديث يمكن أن ننعته بهذا الاسم هو محمد عزيز لحبابي. وأول كتاب نشره عن الشخصانية بالفرنسية ثم لاحقا بالعربية (فهو كان متمكنا من اللسانين) كان عام 1953. وهو ما يعني أن تاريخ الفلسفة الحديثة (في المغرب)، حتى وقت الإجهاز على الفلسفة وشعبها، لم يجاوز الثلاثة عقود. بل هو ما يعني أن ذلك القرار السياسي العسْفي كان يرمي إلى وأد أنفاس الفلسفة الحديثة بالمغرب في مهدها.
من ناحية أخرى، كانت شعبة الفلسفة تُدرّس أيضا علم الاجتماع وعلم النفس. وكانت تعتمد كثيرا إلى حدود الثمانينيات على أطر تعليمية مصرية وعربية في جامعتي فاس والرباط. كان الرهان إذن مزدوجا: تكوين فلاسفة وأساتذة فلسفة مغاربة من جانب؛ والإجهاز على هذه الولادة الصعبة من جانب الدولة واستبدالها بالدراسات الإسلامية التي كانت تشكل صيغة ملطفة من الشريعة التي كانت تحظى بكلية لها بفاس. وهذا الإجهاز كان قد لحق معهد السوسيولوجيا الذي أغلق في 1970، سنة الاضطرابات الطلابية الكبرى، الذي كان، بالرغم من محدودية إمكاناته، قد كوّن أجيالا منحتنا أسماء لامعة في المضمار السوسيولوجي والأنثربولوجي.
لم يكن أمام الطلاب الجدد في الثمانينيات، خاصة في الكليات الجديدة التي انطلقت في مكناس ومراكش ووجدة والجديدة والمحمدية وتطوان…، سوى دراسة الأدب، الشعبة الأقرب إلى الفلسفة… وهكذا تكونت أجيال كثيرة في دراسة الرواية والسرد والسيميائيات والشعر والأدب القديم والنص المسرحي، بما أن الجامعة لا تمارس تعليما في مجال كتابة الرواية والشعر والمسرح. هكذا وجدنا أنفسنا سنوات بعد ذلك أمام وضعية تضخم رهيبة ومخيفة: فعدد النقاد ودارسي الأدب أضحى يتجاوز بكثير عدد الأدباء وممارسي فنون القول هذه (وكأنّك تقول إنّ ميكانيكيي السيارات أكثر عدداً من السيارات)، فيما تضاءل عدد الباحثين في العلوم الاجتماعية. وكان من اللازم انتظار بدايات الألفية ليتم فتح شعب علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة ويتم تدريس الجماليات… لتستعيد هذه العلوم أنفاسها بعد أن عاشت عقودا من الكبح والكبت…
لا غرْو في أن زعمي ذاك ليس تنقيصا من قوة الأدب، إذ إنه ظل يمارس تطوره بالموازاة مع هذا الوضع، وأنتج أسماء جديدة ذات بعد عربي وعالمي، وأخرى قديمة عضدت مكانتها الإبداعية؛ وإنما تنبيها إلى المزالق التي أنتجتها تلك الوضعية والتي تتمثل في قلة ممارسي الكتابة الأدبية مقارنة مع نقادها ودارسيها! وسأعطيك مثالا عن الآثار التي خلقها هذا التضخم: أغلب الترجمات التي صدرت في الثمانينيات والتسعينيات كانت تخص الدراسات الأدبية (لا الإبداع الأدبي) تعود للبنيويين والشكلانيين والسيميائيين وجمالية التلقي… فيما ظلت ترجمات العلوم الاجتماعية باهتة حتى بداية الألفية الجديدة. إنه مؤشر على ذلك التضخم الذي جعل الدراسات الأدبية تغدو سلطة تغطي على أهمية الإبداع الأدبي والثقافي…
بل سأعطيك مثالا آخر: في الوقت الذي تطور مفهوم السرديات ليغدو مفهوما تاريخيا وأنثربولوجيا في الدراسات الثقافية ظل لدينا متحجرا ينحصر في مجال الكتابة الروائية… إن هذا لدليل على أننا اتباعيون حدّ النخاع ولا نتمثل معطيات الآخر لنروّضها ولنستنبتها في تربة مغايرة لها. بمعنى ما، نحن مترجمون حرفيون لثقافة الآخر…
ط: هناك مجموعة من الرؤى المتباينة حول ما إذا عايشنا حراكا أدبيا وفنيا في المغرب… تحيل وجهة النظر الأولى عن حركية في عقدي الثمانينات والتسعينات؛ ووجهة النظر الأخرى تشير إلى مطلع الألفية كمنبت لحيوية هذه المجالات. كيف تقرأ هذا المعطى؟
ف.ز: الجواب على سؤالك يتطلب أن ندرك ما نعنيه بالحراك الثقافي والفني. الحراك في لغة السياسيين الشباب يعني الانتفاضة و”الثورة” بعد الجمود والركود. والحال أن الثقافة المغربية بجميع أصنافها وجوانبها لم تعرف أبدا الجمود، وإنما ضربا من العسر في الولادة في الخمسينيات والستينيات، وتطورا هاما منذ السبعينيات. فإذا كنا نعني تطور حركة النشر وتعدد المعارض الفنية وكثرة الكتاب والفنانين، الذين يعلنون عن نفسهم كذلك، فمطالع الألفية ستجيبنا على ذلك بالإيجاب.
يمكننا القول إن ثمة مفارقة سنقف عليها في هذا المسير: الأدباء والكتاب المغاربة ذوو البعد العربي والعالمي هم نتاج الستينيات والسبعينيات (على سبيل التمثيل لا الحصر: العروي، الخطيبي، الجابري، اللعبي، الشرايبي، خير الدين، الطاهر بنجلون، بنيس، برادة…). فلماذا لم تنتج الألفية الجديدة مفكرين وكتابا من هذا العيار، سواء في اللغة الفرنسية أو العربية أو الأمازيغية؟
بالمقابل، وباختلاف نسبي، يمكن القول إن الفنون التشكيلية والبصرية، وإن برزت رموزها الكبرى منذ الخمسينيات والستينيات (الغرباوي، الشرقاوي، بلكاهية، المليحي، شبعة، القاسمي…)، فإنها ظلت محافظة على جدلية الكم والكيف، إذ ولّدت تجارب في الثمانينيات والتسعينيات لا تقل أهمية. بل إن الأجيال الجديدة أضحت تفرز تجارب جديدة وإن اختلفت في الحوامل والوسائط، إلا أنها فرضت نفسها محليا وعربيا وعالميا.
بهذا المعنى يكون التطور الكمي، الذي نعيشه في المجال الأدبي (شعرا ورواية ونقدا…)، شبيهاً بالتطور الكمي الذي يعرفه الإنتاج البصري السينمائي والتلفزيوني، الذي كلما توافر فيه الإنتاج كلما قلت الأسماء والتجارب التي يمكنها أن تنفلت من هلام المجهولية والضحالة الفنية والأدبية.
اسمحي لي بأن أذكّر هنا بأن سؤالك يمس في الصميم سؤالا طالما طرحته، يتعلق بغياب تاريخ للثقافة المغربية ولمنجزاتها الفكرية والأدبية والبصرية. وهو ما يعني أن من الصعب الجواب على سؤال كذلك الذي طرحته، من غير أن نشير إلى أمرين: أن الجواب يستلزم معرفة وتحليلا تاريخيين للثقافة المغربية في مجمل منتجها وتفرعاتها، وهو أمر ليس ميسرا لأي كان، إلا لمن ينكبّ على هذا التاريخ أو على الأقل على مجال من مجالاته. ثم إن أغلب ما يكتب عن منتجات هذه الثقافة (بحثا أو رواية كان أو فيلما أو تجربة تشكيلية أو فوتوغرافية أو عمرانية) يتناولها كأنها ولدت من فراغ، أو كأنها جزيرة منفصلة عن اليابسة. بل الأدهى من ذلك، أن من يتناولون بالتحليل فرعا من فروع ثقافتنا في بعده التاريخي (وما أقلهم في العقود الأخيرة)، لا يعيرون اهتماما للتواشجات الشبكية التي سادت منذ الستينيات بين الكتاب باللغة العربية والكتاب باللغة الفرنسية، وبين المفكرين والسينمائيين والأدباء وهؤلاء والتشكيليين، كما بين الفلاسفة والأدباء…
هذا ما اسميه بالأرخبيلية، وهي صفة تسود الفنون كما تسود الأدب والفكر والعلوم الإنسانية والاجتماعية، إذ صار كل واحد كما يقول المثل الشعبي “كيلغي بلغاه”، وكأنه الكاتب الأوحد أو المفكر الأوحد…
بالجملة، إن ما تسمينه حراكا ثقافيا يبدو كذلك، في ظل مفارقة أخرى، تتمثل في تراجع القراءة وانحصارها في طلبة الجامعات، وانتشار ثقافة الصورة والثقافة الشفهية الجديدة التي تبلورت مع شبكات التواصل الاجتماعي. وما يسمى ثقافة رقمية لا يأخذ صفته تلك باعتباره صنفا جديدا من الثقافة وإنما باعتباره يتمثل التواصل الشفهي وآلياته. إن الإبداع الثقافي لا يتكرّس إلا حين يخلق ذاكرته المستمرة في الزمن ويقاوم المحو والنسيان والمجاوزة، ويخلق من ثم امتدادات في التاريخ الثقافي العام. بيد أن ثقافتنا تعيش قطائع متوالية أشبه بموجات البحر، وهذه القطائع ليست ناجمة عن تطور داخلي متأصل فيها وإنما عن تبني الدعوات والمناهج الآتية من وراء البحار، بحيث إننا ما إن نتذوق طعم البنيوية حتى تأتي الدراسات التفكيكية والثقافية لتطويها، وما إن نبدأ في تمثل هذه الأخيرة حتى نتبنى الدراسات ما بعد الكولونيالية (ثم الديكولونيالية) والجندرية لترمي بها في المزبلة الأقرب… وهكذا دواليك… كنا نتحدث في السبعينيات عن التبعية الثقافية، وأنا لا أرى تبعية أعمق ولا أشد لصوقا بالجلد مثل هذه…
ط: وما العمل في نظرك إذن؟
ف.ز: إنه برنامج لا يمكن أن يكون فرديا. فغياب الحوار داخل الثقافة المغربية والعربية، وسيادة الأرخبيلية والنكران، يجعل بعض الجهود الراغبة في تأصيل فكر محلي (من قبيل فكر الخطيبي والعروي مثلا) جهودا لا تترسخ جذورها في البنية الثقافية العميقة، ولا تجد من يسير بها إلى منتهاها، بشكل فردي أو جماعي، فتظل صيحة في وادٍ. نحن لا زلنا لحد اليوم بحاجة إلى ذلك النقد المزدوج الذي يمكّننا من بناء فكر خصوصي، وما أحوجنا إلى وقفة نتساءل فيها: ما هي الثقافة التي بنيناها منذ الستينيات؟ طبعا هذا السؤال يلزم أن نطرحه في معزل عن الهوية المتوحشة القائلة بالأمة المغربية والأصالة المغربية وتمغربيت…
ط: يهمنا أن نعرف رأيك في العلاقات الثقافية بين المغرب والمشرق، أخذا بعين الاعتبار التحولات السياسية والمجتمعية التي تنتج نوعا من “المركزية” التي تحكم هذه العلاقة حسب وصف بعض المهتمين بالمجال؟
ف.ز: كان المغرب يستورد ثقافته كلها من المشرق، منذ أن تبنى المولى سليمان الوهابية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. ولم يكتب لمسعى مولاي الحسن الأول النجاح الذي كان يرتجى منه حين بعث في أواخر القرن نفسه بنحبة من الطلبة لتلقي تكوين في العلوم والتقنيات، لأن أغلب هؤلاء اشتغلوا في الإدارة. إنها الحداثة المحجوزة. نحن ندين للمشارقة بأول جريدة بالعربية أنشئت بطنجة في بدايات القرن، بالرغم من أنها كانت موالية للاستعمار. كما أن الفرق المسرحية المشرقية ارتادت المسارح المغربية منذ العقود الأولى من القرن الماضي، ناهيك عن كون الأساتذة كانوا في أغلبهم مشارقة، وأن أسماء طه حسين والعقاد والمازني وغيرهم كانت تملأ مقرراتنا التربوية.
يعود هذا الوضع إلى البطء الذي عرفته الحركة الثقافية المغربية؛ فالمشرق لم يكتشف ثقافتنا إلا عبر علال الفاسي ومحمد عزيز لحبابي، ثم لاحقا في الستينيات، مع بدايات نشر محمد برادة ومحمد شكري وآخرين لقصصهم في مجلة الآداب البيروتية ومجلات أخرى بسوريا والعراق. والحقيقة أن بدايات الاعتراف بهذه الثقافة الوليدة ستتنامى في السبعينيات والثمانينات مع العلاقات التي أقامها الكتاب المغاربة فرادى مع كتاب مشهورين بالمشرق، ومنفتحين على الطابع المزدوج لسانيا للثقافة المغربية (الخطيبي ثم محمد بنيس وأدونيس، شكري وسهيل إدريس، محمد برادة ومعظم مثقفي المشرق…). وقد تم ذلك أحيانا من خلال اتحاد كتاب المغرب، الذي كان يُشهد له في المشرق بقوته وباستقلاليته عن السلطة، كما من خلال الجمعية المغربية للفنون التشكيلية، التي لعبت قبل اتحاد الكتاب دورا فاعلا في هذه العلائق المنفتحة والندّية، من خلال مشاركة الفنانين المغاربة في البينالات العربية (ملتقى الواسطي، البينالي العربي الأول ببغداد…). وقد تُوِّجَتْ هذه التفاعلات الخصبة بتنظيم المغرب للبينالي العربي في دورته الثانية والأخيرة بالرباط (1976).
هذه العناصر الأولية ستُتوَّج بتواتر نشر الكُتّاب المغاربة في المجلات ودور النشر المشرقية (دار الطليعة وغيرها)، وتوالي ترجمة الكتاب المغاربة الناطقين بالفرنسية للعربية في هذه الدور (الخطيبي والطاهر بنجلون وغيرهما)… وهكذا يمكننا اعتبار الثمانينيات والتسعينيات فترة تسللت فيها الثقافة المغربية للمشرق ووجدت فيه اعترافا وتقديرا سوف يتناميان ليصلا أوجهما مع الألفية الجديدة، خاصة مع ظهور الجوائز في المشرق والخليج، التي بدأ نُقّاد الأدب، والمترجمون بالأخص، يحصدونها تباعا. ولا أدل على هذا الوضع تتويج العروي وعبد الفتاح كليطو بجائزتين تعتبران من أرقى الجوائز اعترافا بعطاء الرجلين الفكري والأدبي.
يمكننا القول اليوم، إن كل ثقافة عربية قطرية لها قوتها ومناحي ضعفها. فالمعضلات السياسية التي واجهت البلدان المنتجة للثقافة والمستقطبة للمثقفين العرب لمدة عقود متوالية كلبنان والعراق وسوريا ومصر، ما كان إلا ليغير قطب الرحى في المجال الثقافي العربي، وينقله إلى رحى آخر. وهو ما منح لبلدان الخليج (منذ بداية الألفية الجديدة) فرصة فرض نفسها. فإذا كانت بلدان الخليج قد بلورت لقاءات وجوائز تتطلب تمويلا وافرا، وتستقطب مجمل كتاب وفناني العالم العربي، فإن الثقافة المغربية قد وجدت نفَسها في التركيز على معطياتها الخصوصية وتعميقها، كما وجدتها أحياناً في الترويج لنفسها في المشرق… بالجملة إنّ للثقافة المغربية منطقها وذكاءها وعمقها. وقد حان لها الوقت، إبّان الأزمنة الرّاهنة، أن تكشف عن غناها وخصوبتها، لنفسها أولا، ثمّ للآخر عموماً، مشرقاً كان أم غرباً…
فريد الزّاهي (نواحي فاس، 1960)
كاتب ومترجم مغربي، أستاذ التعليم العالي
خديجة برّاضي (سلا، 1987 )
أستاذة جامعية – عضوة فريق “طِرْسْ”