يهتمّ ركن “كِشْ ملك” بالأُهجيات والألعاب، بالأبراج والشعوذات اللغوية واللّسانية، بالمعقول والمستحيل اللذين يسبحان مع بعض. إنها كتابة نزقة، شعريّة وسياسية في آن، بالقفز وبالوثب؛ في تجاوز للقيود التقليديّة للنوع والموضوع وانفتاح على الجد والهزل، تيمّناً بذكرى عمّنا أبي عثمان الجاحظ.
***
“ادهن السّيرْ يْسِيرْ وبيهْ تَرْطَابْ لَخْرَازَةْ
النَّقبَة تْجيبْ الطّيرْ من بابْ سُوسْ لتازة”
سيدي عبد الرحمن المجذوب
اجتمعت يوم أمس أربطة الأحذية بالبلاد، وقد وصل مندوبوها تباعاً من مختلف ربوع المملكة، في جلسة استثنائيّة، من أجل تدارس الردود المناسبة على ما اعتبرته اعتداءً خطيراً على “كرامة” أربطة الأحذية: دهنها بالشحوم ومختلف الفازلينات حتى تتمكن من الانزلاق بسهولة أكبر في ثقوب الأحذية، أو إذا لزم الأمر، في ثقوب المخاصر، كما لو أنها غير قادرة بنفسها على اختراق الثقوب بصورة طبيعية، دون الخضوع لعملية الدهن المؤلمة نفسيا: “منذ فترة طويلة ونحن نخضع لهذه الإهانة التي لم تعد تطاق! “، حسب تعبير أحد المندوبين. على أي حال، فإن الجلسة، على الرغم من الشعور القوي بالغضب الذي سادها، عقدت في جوّ يطبعه الهدوء، باستثناء حادث صغير طرأ في نهاية الأشغال. فقد أظهر جميع المندوبين، سواء كانوا من الجلد أو القماش، انضباطاً مثالياً وروحًا عالية من التحضر. كان الجميع مع ضبط النفس، ولكن مع عقد العزم على مواجهة الإهانة ومحاربتها!
ومن المفارقات أن يكون التوتر والاضطراب واضحين وملموسين، ليس في الداخل، بل خارج الــ”غولدن شولايس”، القصر الذي عقدت فيه الأربطة مؤتمرها. لقد كانت مئات الأحذية فعلاً، وألسنتها متدلية، مكدسة متجمهرة عند مدخل للقصر، وهي تنتظر بفارغ الصبر وعظيم القلق نتيجة المناقشات.
“ماذا لو قررت أربطة الأحذية الدعوة إلى إضراب عام؟”، تساءلت الأحذية! وسرعان ما تحوّل السؤال إلى بداهة، فتناقلت الأحذية الشائعة، حتى اتخذت أبعاداً غير متوقعة.
إنها لساعات عصيبة! فبدون أربطة، ستبدو الأحذية المسكينة “ذات الثقوب” سخيفة ومثيرة للازدراء والضحك، أليس كذلك؟ بل هو كذلك!
والأدهى من ذلك أنها كانت تخشى، بغض النظر عن الجانب الجمالي، أن تجد نفسها في حالة بطالة إذا ما تم تنفيذ التهديد، لأن ذلك يعني تعميم استعمال الأحذية بدون أربطة! يا للكارثة!
خلال الصباح، التأمت الأربطة، في مجموعات صغيرة، داخل أوراش عمل للمناقشة والتفكير، وانتخبت لاحقًا كل مجموعة رباطا لتمثيلها وتقديم طريقة العمل المقترحة إلى الجمع العام.
لا ينبغي عادة تسريب أي شيء من اللقاءات التي تعقد في جلسات مغلقة، إلا أن رباطا ثرثارا للغاية باح لنا ببعض الأسرار. وفقًا لراويته، فإن النقاشات كانت عاصفة، وكادت الجلسة أن ترفع، لو لم يتم تدارك الأمر في اللحظة الأخير، عبر التوصل إلى حلّ توافقي. فقد دعت بعض الأربطة، التي تعتبر “متطرفة”، وتجنح إلى الحرب، إلى ارتكاب أعمال راديكالية، لا سيما أن رياح التمرد والتغيير تهب في المنطقة حاليًا، حسب اعتقادهم.
“سنخنق تلك الخنازير السمينة الفاسدة، التي لا تتورع عن الاختلاس، وبالتالي الاغتناء على حسابنا!؛ سنقطع أيدي كلّ من يجرؤ على دهننا!؛ وسنربطه، ونحن ندخل من فتحة الشرج، ونخرج من الفم، ثم نربط عقدة على مستوى البطن، ونرمي بالحزمة إلى مزبلة التاريخ!”. قالت بنبرة مهددة وهي تردد: “فليسقط الدّهن!”.
أما أربطة أحذية أخرى، وصفتها مصادرنا بالانتحارية، فقد هدّدت بترك نفسها عرضة للتلاشي: “ما علينا إلا التخلص من السدادات، وبذلك سنتلاشى شيئا فشيئا، ونفقد بالتالي صلابتنا، ولن نتمكن عندئذ، مهما تم دهننا بأفضل أنواع الفازلين، من اختراق أي ثقب، حتى لو كان فجوة عظيمة!”، بل دعت إلى انتحار جماعي: “نفضل الموت على أن نستمر في الخضوع للدهن باستمرار!”
في المساء، عندما كانت الجلسة على وشك الانتهاء، حاول أحدهم، في خطوة مذهلة ويائسة في آن، أن يضرم النار في جسده لإنارة الطريق للآخرين، وكان المسكين مجبرا على دهن نفسه بطن من الشحوم حتى يوقد اللهيب!
أفضى الحادث إلى تدخل جهاز الأمن، وخرج رباط الحذاء سالما إلا من بعض الحروق السطحية. لا داعي للقلق إذن. وباختصار، بدت خطوة رباط الحذاء التعيس كأنها “مفرقعة مبللة”، مثلها مثل الجلسة الاستثنائية لأربطة الأحذية التي طُبل وزمر لها، ولم تسفر، في آخر المطاف، عن أي قرارات حاسمة.
جاء البيان الختامي ليتوج المناظرات، فصرحت الأربطة، بصيغة متوازنة، إنها مصممة على محاربة العبث بها، لكن مع الإقرار في نفس الآن أن المعركة طويلة الأمد، وأنه لا يمكن التخلص، بين عشية وضحاها، من ممارسة راسخة وواسعة الانتشار، على جميع المستويات.
ماتزال هناك الكثير من التضحيات يجب بدلها!
ثم قال لنا أخيراً رِباطُ حذاء متذمر، بخيبة أمل لا تخلو من سخرية: “كيما قال سيدي عبد الرحمن المجذوب: والنيييت ما كين غير ادهن السير يسير…!”
شاعر، وروائي، ومترجم، وفنان تشكيلي مغربيّ.