لم يكن يمرّ، قبل الزّلزال، يومٌ إلاّ وهزّ جسدي زلزال، بحيث تتحرك فيه قارّات غامضة ويصطدم ببعضها البعض، فيصير طوفانٌ هائلٌ من دماء تُشبه الحِمم، وسيولٍ جارفةٍ من الجثث والأحجار النيزكيّة، تحت سماء روحي المُطرّزة بالنّار، لكني لا أَكِلُّ من انتشال ضحايايَ من تحت أنقاض شموس تتوهّج، ثم تنطفئ فجأة، كأنّها ومضات تنبع من عيني، لا غير!
كلّ يوم زلزال، وكلّ يوم قيامة، وأنا واقف، على الرّغم من ترنحاتي السمفونيّة، أنفخ في الصّور، وأرى الموتى، تسبقهم النڭَّافات، والمدَّاحات، وأعوان السلطة، كما في مأتم عرائسيّ، يدخلون صَفّاً صَفّاً لست أدري إلى أين!
لستُ بالتأكيد ملاكاً، ولا تغويني فكرة الجنون. لكني أعلم أنّ الموت يهبني كلّ يوم بعض الحياة ويخطفها مني، في كلّ لحظة تخترقني مثل سهم، فيما أخترقها بدوري، كي أردّ له الصاع صاعين!
أنصت الآن إلى الله في اليوتيوب، وهو يُرَتَّلُ بصوت عبد الباسط عبد الصمد الشجيّ. سورة الزلزلة. فيقشعر بدني، وتنتفخ أوردتي، وتنفلق روحي، وتتصدّع صفائح ذهني، وتهتز وتتقلّب أحشائي، وحتّى لا تنفجر مسالكي البولية، أركض كي أفرغ السُّم الذي أحتسيه، في مرحاضي الذي رتّبته بشكل قد يبدو فيه كأنه حجرة ناسك في دير تنطح قبته السماء، أو دارةَ مومِسٍ من القرن التّاسع عشر الفرنسيّ، أو غرفة نوم مناضلة نسويّة لم تولد بعد:
بوسترات بالأبيض والأسود، أريكة جلدية، سبحة من جماجم صغيرة عاجية تلتف حول صليب مقلوب، خزانة كتب قديمة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في إطار زجاجي كبير، زجاجة بوردو فارغة، قارورة عطر، منفضة سجائر، ستائر مخملية حمراء قرمزية، تمثال صغير من المرمر لأفروديت، مطرقة ومنجل، ورموز جميع الحركات النسوية، الكل غارق في سحب من دخان البخور…
ثمّ أعيد الشّراب، وأنا أحصي موتايَ، وأُغَسِّلُهُمْ بمنيّي، وأكفّنهم بالأوراق البنكيّة الدخانية للتبرعات السخيّة، وأعيد دفنهم في النشرات الإخبارية، وفقاً لتذبذبات أسعار الأسهم، في البورصات العالمية.
كيف لي أن أكون هنا وهناك؟ ولِمَ لَمْ يتسنّ لي نسيانُ ما يمكن نسيانه؟ ما خطيئتي سوى أنّي شربتُ النّار يوماً من نبع يُشبه فرج امرأة مازال وجهها ماثلاً أمام عينيّ، رغم مرور آلاف العصور، حتّى لا يمرّ يوم إلاّ وهز جسدي زلزال…؟
شاعر، وروائي، ومترجم، وفنان تشكيلي مغربيّ.