ما يميّز الحياة هي أنها، في ضربةٍ واحدة، تصير عرضةً للموت. فجأة، يلوح موت الإنسان أمامه، ويكون مستحيلاً عليه إزاحته من مجال بصره، من رؤيته، يقترنان الواحد بالآخر بلا فكاك، ويكون الموت قبل ذلك غير مرئي، وغير مُهتَمٍّ به، ثمّ ما إن يكتشف الإنسان وجوده حتى يشرع في الاعتناء به بشكلٍ محموم. إنه لا يعتني بالموت نفسه، بل: بالخلود. فالخلود مقترن بالموت -يقول الروائي ميلان كونديرا- اقتران هاردي بلوريل.
هذا الخلود طبعاً لا صلة له بالإيمان بخلود الروح. الأمر يدور حول خلود آخر، دنيوي، يتعلّق بأولئك الذين يظلّون أحياء في ذاكرة الخلَف بعد موتهم، وهذا الخلود في متناول جميع الناس، بدرجاتٍ متفاوتة، ويراود الشخص منذ المراهقة.
ثمّة نوعان من الخلود الدنيوي، فليس الناس سواسية أمامه. هناك خلودٌ صغير، كذكرى شخص في أذهان من عرفوه، والخلود العظيم، وهو ذكرى شخص في أذهان من لم يعرفوه.
وثمّة لحظة سوف تأتي، في حياتنا نحن، الخلَف لأسلافنا من البشر، يقع بصرنا فيها على صورة منقولة من التاريخ. ليس من الضروريّ أن تكون صورة ملتقطة بعدسة كاميرا، فقد تكون حكاية، أو جملة، أو كلمة، أو حادثة وقعت بين إنسانين. وما إن يتمّ ذلك، ننتقل إلى الطور الثاني: نرسم كنايةً تختزل حياة الإنسان منقولة الصورة عنه. أمّا الطور الثالث من التصنيف هذا فهو: إدخال الإنسان إما في نطاق الخلود المضحك أو الخلود العظيم.
يمكن اعتبار ما سبق إيجازاً لمفهوم “الخلود” في رواية كونديرا السادسة في مشواره، والتي تحمل الاسم نفسه. إنّ المفتاح الذي يربط كتاب كونديرا بالحكاية التي نرويها هنا، تتلخّص في قولين: تكفي عبارةٌ سيئة النية لكي تحوّلك إلى الأبد إلى كاريكاتير يدعو للرثاء، ويستطيع المرء أن يضع حداً لحياته، لكنه لا يستطيع أن يضع حداً لخلوده.
من المقولتين (الأولى تحديداً) ننتقل إلى عباراتٍ أوردها إبراهيم الكيلاني، من استغاثة الشيخ “سعيد الغبرا” أمام السلطان العثماني كي يوقِف رائد المسرح السوري “أبو خليل القباني” عن عمله: «أدركنا يا أمير المؤمنين، فإنّ الفسق والفجور قد تفشّيا في الشام، فهُتِكت الأعراض وماتت الفضيلة ووُئد الشرف، واختلطت النساء بالرجال».
إنه صوتٌ ذليل، يمكن التعاطف معه ويمكن الحنق عليه. ذلك يرجع إلى الإنسان الذي انتقلت الصورة التاريخيّة إليه، وبالتأكيد: يرجع إلى موقفه الشخصي من التحريم والمنع والاتّهام بالهرطقة وسواها، وفي أيّة كناية يريد أن يختزل الصورة المنقولة عن الغبرا، وفي أيّ نطاقٍ من الخلود يريد أن يُدخله.
يمكن تخيّل الشيخ الغبرا على أنه رجلٌ قصير بدين، يقف خافضاً رأسه، حانياً ظهره، وركبتاه تصطكّان، فيما يستغيث بالسلطان. صوته لا مبحوح وغريب وحسب، بل فيه ما يشبه الحزقة الطويلة، عالٍ ولكنه غير مسموع، إنه مقرونٌ تماماً بإذلاله. صوتٌ متكسّر، لم يُقضَ على كبريائه بفعل الآخرين، بل صاحبه نفسه هو من كسّرها وقضى عليها وهشّمها.
«وكأنّ أبا خليل القباني بما فُطِر عليه من لطف الحس قد تنبّه إلى الخطر المحدّق بحركته الفنية وهي ما تزال في مهدها، فعمد إلى استرضاء زعماء الرجعية المتسلّطين فقاسمهم الربح، ويظهر أنّ نصيب أحدهم، الشيخ سعيد الغبرا الذي تسلّط على عقول العامة ببيانه ولسانه، كان ضئيلاً، فشدّ رحاله إلى الأستانة، عاصمة الخلافة، بعد أن أعجزته الحيلة عن محاربة القباني في بلده»، يضيف الكيلاني.
إذن، فإنّ نصيب الغبرا ممّا كان يعطيه القباني لزعماء الرجعيّة كي يغضّوا البصر عنه كان قليلاً، فارتحل إلى الأستانة، عاصمة الخلافة، حاملاً مضبطة فيها تواقيع قرابة تسعة وعشرين شخصاً من أعيان دمشق، وأورد كامل الخلعي نصّ هذه المضبطة في كتابه “الموسيقي الشرقي”، وجاء فيها:
«إنّ وجود التمثيل في البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية، وتراه على الناس خطباً جليلاً ورزءاً ثقيلاً، فيُمثّل على مرأى من الناظرين ومسمع المتفرجين أحوال العشاق، وما يجدونه من اللذة في طيب الوصال بعد الفراق».
لا يهمّنا من الصورة العامّة الأحوال التاريخية في ذلك الوقت، وخسارة رجال الرجعيّة الدينيّة للإقطاعيّة التي تموّلهم، ولا خطورة “التشخيص” المسرحي الذي يعرض ملوكاً وأمراء على خشبة المسرح، فخاف رجال الرجعيّة أن يصل البل إلى ذقونهم، ولا يهمّنا أيضاً فتاوى التحريم وإطلاق مُسمّى البدعة على كلّ ما هو جديد. فذلك قديمٌ قدمَ التاريخ، وقد بدأ منذ القرن الخامس قبل الميلاد، في اليونان (وربّما أقدم من ذلك)، حين أُحرقت كتابات الفيلسوف بروتاغوراس بشكلٍ علني في ساحة أثينا، سنة ٤١١ ق. م، كما تعرّض نفسه للمحاكمة والنفي. كلّ ذلك لأنه بدأ كتابه “عن الآلهة” بشكٍّ يقول فيه: «بالنسبة للآلهة، لا أستطيع أن أقطع بوجودهم أو عدم وجودهم». مع هذه الحادثة تبدأ سلسلة طويلة من حوادث مصادرة وإحراق الكتب، والمنع والاتهامات. وليس بعيد عن هذا ما حدث في روما، جمهوريةً وإمبراطورية، حين قرّر مجلس الشيوخ إحراق كتب الخطيب تيتوس لابينوس، الذي لجأ للانتحار بعدها، وكان مصير الخطيب كاسيوس سيفر شبيهاً بمصير تيتوس. حتى أوفيد، لم يوفره أغسطس قيصر، إذ نفاه إلى مدينة توما البعيدة «كي لا يفكر بتأليف كتب تفسد الشبيبة الرومانية»، ومثل ذلك حدث ليونيوس أرولنوس روستيكوس وهيرينوس سينيكو، وغيرهم. يمتدّ ذلك، في التاريخ الحديث، إلى فرج فودة ومهدي عامل، أمّا في المسرح، فإنّ الرصاص الذي أُطلق على المسرحي الجزائري عبد القادر علولة، لا يزال صوته مدوياً. هذه السلسلة الطويلة من المنع، كانت قد طالت القباني، كما وصلتنا الرواية عنه وعن الغبرا.
يعنينا من الرواية التي وصلتنا، نحن الخلَف، صورة الشيخ سعيد الغبرا فقط، في عبارات استغاثته الذليلة أمام السلطان، وهو يقف مطأطئاً، ضئيلاً، متقلصاً، ويرتجف من فرط الارتباك. يعنينا هذا الرجل الذي دخل خانة الخالدين المثيرين للضحك، بسبب سقطة، بسبب عبارات استغاثة، و«عبارة سيئة النية». وربّما: لأنه لم يقم وزناً لصورة خلوده، أو أكثر من ذلك: لم يحسب في يومٍ من الأيام حساباً أنه سيصير من أولئك الخالدين. إنه واحدٌ من الكلّ الذي لا يستطيع أن يضع حداً لخلوده.
وهو في ذلك شبيه بتيتشو براهي، عالم الفلك، الذي «لا نذكر عنه اليوم شيئاً سوى ذلك العشاء الشهير في البلاط الملكي ببراغ، حيث كبح بسبب الحياء حاجته للذهاب إلى المراحيض إلى أن انفجرت مثانته، وهو ما جعله يلتحق فوراً بالخالدين المثيرين للضحك».
ونحن اليوم لا نذكر من تاريخ الغبرا شيئاً غير أنه كان سبب حرق مسرح القباني في خان الجمرك، وعبارات استغاثته الذليلة أمام السلطان. إنه لا خلود مضحك فحسب، بل خلودٌ دنيء، يشبه خلود الأشرار ممّن عرفناهم. (بعض الأفلام السينمائية الكثيرة المصنوعة عن هتلر وستالين مثلاً، تؤكد وتصر على الصورة الكاريكاتورية التي يجب تصويرهما بها).
حين نذكر سعيد الغبرا، على الرغم من أنه أقلّ شراً من كثيرين، فسوف نتخيّل مسرحاً صغيراً بذل مؤسسه حياته من أجل مشروعه الفني الرياديّ، تتطاير منه ألسنة لهب، ويصير رماداً.
ومن فورنا، سوف ننقاد إلى المقارنة بين الخلودين، وقد نسمّيهما: خلود الغبرا المدنّس، الدنيء، المضحك، الهزليّ، الذليل، فيما خلود القباني: المشرّف، التراجيديّ، الجدّي، والبطوليّ.
سوف نرى “معبد المجد” الذي وصفه غوته على نحوٍ مختلف: كان غوته يتأمل ستاراً في مسرح لايبزيغ، وكانت الصورة المرسومة على خلفيته تمثّل له معبد المجد. «أمامه يظهر كل عظماء المسرح على مرّ العصور، يتوسطهم، ودون أن يعيرهم اهتماماً، رجل بسترة خفيفة يتجه رأساً إلى المعبد. وهو مصوّر من الخلف، ولم يكن فيه أي شيء يلفت النظر. إنه شكسبير المنطلق لملاقاة الخلود بلا دعم ودون روّاد سابقين».
أما حين تقع أعيننا على الصورة التي تأتي من التاريخ، للقباني والغبرا، فسوف نرى في القباني ذلك الرجل المصوّر من الخلف، المنطلق لملاقاة الخلود بلا دعم، فيما يتناثر وجه وجسد الغبرا في الخلفية، أسود مغبراً، مشتّتاً، وهو يقف ذليلاً ويستغيث. إنّ وجوده في اللوحة الشاملة ليس إلا لهدفٍ واحد: تلويثها.
ولكنّ هذا التلويث نفسه، هذا “الآخر” من اللوحة، هو الذي يفسح لنا مجالاً لنتيقّن من عظمة خلود القباني وجديّته.
يسأل كونديرا: هل تغيّرت خصائص الخلود في عصر الكاميرا؟ ولا يتردد في الجواب: «لم تتغيّر في العمق، لأنّ عدسة الكاميرا كانت موجودة قبل اختراعها كجوهر مجرّد، فمما لا شك فيه أنّ الناس كانوا يتصرفون كما لو يجري تصويرهم دون أن تكون ثمّة عين كاميرا مسدّدة إليهم».
ولكن، ألن يثير هذا الكلام تعاطفنا مع إنسانٍ لم يقم وزناً للخلود، لم يفكّر فيه، بل: لم يخطر له على بال أنه إنسانٌ قد يكون خالداً في يومٍ من الأيام؟
لقد تصرّف الغبرا بلا أن يحسب حساباً لصورته، لخلوده، ولذا لم يستطع وضع حدٍّ له، أو تقريره. وقف أمام السلطان، واستغاث، دون علمه أنّ عين كاميرا تاريخية، غير مرئية، مصوّبة إليه، تلتقطه، تسجّل كلامه، وسوف تدخله خانة الخالدين المثيرين للضحك، سوف تمنحه خلوداً دنيئاً، هزلياً. فيما كان أبو خليل القباني ينظر تماماً في عين الكاميرا، يرصدها كما ترصده، ويراقب الآخر: يراقبه بصمت، ويدعه يتصرّف بدناءة، ويشاهد مسرحه محترقاً فيصمت، ويمضي إلى بيروت ثم إلى مصر ثم إلى شيكاغو، بصمتٍ مطبق. يصمت ويترك للآخر أن يتكلّم ويستغيث، لأنّ هذا ما سيعكس صورته الشخصيّة: الخلود المثير للضحك للآخر سوف يعكس عظمة خلود القباني.
هذا، ربّما، ما أتاح للقباني أن ينطلق لملاقاة خلوده. إنه مصوّر من الخلف، ولكنه كان يعرف أنّ ثمّة عين كاميرا تترصّده، وربما التفت، بطرف عينه، وتأكّد من جديّة خلوده، لحظة ذاك فقط: أعطى ظهره للكاميرا بطمأنينة، ومضى إلى الخلود، دون دعم، وبلا رواد سابقين، فيما كان الغبرا يستغيث، وهو يتقلّص، دون أن يعرف أنّ الكاميرا تلتقط انكماشات جسده، وأنه لن يفوتها تسجيل صوته الذليل، الذي فيه ما يشبه الحزقة.
يوسف م. شرقاوي.
كاتب فلسطيني سوري