رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ و شيوخٌ، مكدّسون قسراً في عربة ترحيلاتٍ ظلوا داخلها طوال يومٍ كاملٍ، ثمّ تاهت تلك العربة في الطريق، وبقيت وحيدةً! كان هذا مقطعاً من فيلم “اشتباك” من إخراج محمد دياب (2016). جسّد الفيلمُ الحادثةَ الشهيرة، المعروفة باسم عربة ترحيلات سجن أبو زعبل، التي مات بداخلها 37 سجيناً في 18 غشت/أغسطس 2013، إثر رمي أحد ضُبّاط الأمن قنبلة دُخان داخل العربة، وموت السجناء اختناقاً. هذا ليس إلّا تمثيلاً للواقع الحيّ لفلسفة سلطوية ما بعد 3 يوليوز/تمّوز حيال أجساد المصريين، حيث يستمر الجسد الأمني بالقبض على الأجساد الأخرى من مهنيين، وصحافيين، ومُعارضين إسلاميّين ومؤيدين للسُلطة. أجساد مواطنين لا يبدو تصرف السلطة فيها وكأنها تمتلكها فحسب، بل تعتبرها فائضة غير لازمة.
هكذا تَمركزتْ فلسفة وممارسة سُلطويّة ما بعد الثالث من يوليو 2013، على أساس حق امتلاك أجساد المواطنين. سُلطويةٌ “شخصانيّة”، ترتكز على شخص واحد، هو رئيس الجمهورية المصري عبد الفتاح السيسي، ومعه مُقرّبوه، في إدارة الثروات والبلاد والأجساد،[1]، الجسد السياسي تحديداً، بما أنّها جاءت بانقلابٍ على فئة سياسيّة (إسلاميّة). كما قسَّمت هذه السلطويّة أجساد المصريين إلى أربع فئات: أجسادٌ مُعارضة يجب تفعيل حالة الاستثناء بحقّها ومن ثمَّ قتلها أو عزلها أو إخفائها; أجسادٌ مؤيدةٌ (مُحايدة ربما) يجب الحفاظ عليها; أجسادٌ تابعةٌ يجب تدريبها وتقويتها من أجل القضاء على الأجساد المُعارضة بالقتل والعزل والإخفاء، أما الفئة الأخيرة فهي أجسادٌ فائضة. فما هي هذه الأجساد الفائضة؟ كيف نشأ التقسيم؟ وكيف تتجلّى ممارسته عملياً؟
الجسد التابع
لفهم سياق سلطوية ما بعد يوليوز/تموز 2013، لا بدّ من العودة إلى الجسد التابع في تاريخ بناء الدولة المصرية الحديثة، حيث كان بناء الجيش من أساسات بنائها. وبناء جيشٍ يعني بناء ورصّ أجساد مُسخرة لخدمة السُلطوية، وهو ما سمّاه الباحث الفلسطيني رشاد توام بمفهوم “الدولة في الجُندي”[2]. والجندي ما هو إلا جسد مُسَخّر، فكانت أيضاً الدولة في الجسد. الجسد “الجندي” الذي عُسكرتْ مشاعره، وأصبحت متأثرةً بالاستثناء القادم من “أهل الشرّ”، التي بُثَّت في الوجدان الجماعاتي لأفراد القوات العسكرية التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع.[3]
تُعتَبَر هذه الأجساد المُسخّرة (أي جسد الجنديّ)، بمثابة أجساد تابعةٍ للسلطوية. أجسادٌ يجب تدريبها وتقويتها، كما ذُكر سابقاً، ليس فقط من أجل القضاء على الأجساد المعارضة، بل ومن أجل ضمان استمرارية الأجساد المؤيدة والمحايدة على وضعها، وذلك من خلال التخويف والترهيب. تمثّلت هذه التقوية في عدّة ممارسات، أبرزها عدم إعطاء تأجيل أو إعفاء المُتقدمين للتجنيد ضمن القوات المُسلحة. وهو إجراءٌ يندرج ضمن فلسفة التسخير الإجباري للجسد من أجل الخدمة والطاعة للسُلطوية التي بُنيت عليها “الدولة المصرية الحديثة” في أساسها. بالإضافة إلى القضاء على الأجساد المعارضة وضمان استمرارية تأييد أو حياد الأجساد الأخرى، فإنّ لتقوية أجساد الجنود التابعة وتدريبها وتأهيلها معنوياً ومادياً، دورٌ ثالثٌ، وهو حماية وتقوية الجسد الأمني التابع للسُلطوية. من خلالها، نجحت السُلطوية في تحقيق سيادتِها، عبر جسدها الأمني القوي، في القضاء على المُعارضة، إمّا بالقتل المُباشر، كما حدث في الاحتجاجات والاعتصامات، أو بإخفائها تماماً من خلال إيداعها داخل بنيويّة السجن الضخمة التي تمتلكها وتوسّعها عاماً بعد عام.[4] أو حتى عبر ابتلاعها كُليةً، وإخفائها لسنوات طويلة وربما لأبد الدهر، دون أن تُعلم مصائرها.[5]
هذه التقوية جاءت في صُلب منهجية السلطوية الجديدة التي تعلمتْ من أخطاء الماضي، متمثلةً في انهيار الجسد الأمني (قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية) يوم 28 يناير 2011، حين سيطر الثوار من الشعب المصري على الفضاءات العامة، وعلى مقرّات الشرطة بعد اقتحامها وحرقها. الأمر الذي لمّح له رئيس السُلطوية الأعلى قائلاً: “الكلام اللي كان حصل من سبع ثمن سنين، مش هيتكرر تاني في مصر”، قاصداً انهيار الدولة وتحديداً مؤسستها الأمنية القوية إبان ثورة يناير، مُحذراً من تكرار هذا الأمر[6]، ومؤكداً على أنّه رجل عسكري لا سياسي، لا يعرف التفاوض والمُهادنة والسماع للآخر في إدارة شؤون البلاد، لكن في حقيقة الأمر، وحسب وصف الباحث جيل أنيِجار، هو سياسي يحكم بالأداة العسكرية أي بالسلاح.[7]
وعلى غرار حادثة “الفنية العسكريّة”[8]، في المحاولة الفاشلة لاغتيال السادات، والتي شهدت تشريع إجراءات جديدة مثل “تنظيف الجسد الأمني” التابع للسلطوية من أي جسد سياسي، حرصت سلطوية ما بعد يوليو 2013 أشدّ الحرص على “تنظيف” جسدها الأمني “التابع” من أي أجساد سياسية، حتى لو كانت فردية وهشّة، ومنعها من الدخول، حيث شُدِّدَ على منع التحاق أي شاب مصري له سابقة سياسية بالمفهوم الحركي وغير الحركي الشامل بالخدمة داخل الجيش.
ما سبق، هو بمثابة تشريحٍ لرؤية ومنظور السلطوية للشعب المصري، فالجندي تابعٌ وحامٍ للجسد الأمني، الذي يقوم بدوره بتصفيه الجسد المعارض، ضامناً بذلك أيضاً- بالترهيب والتخويف- بقاء المؤيدين والمحايدين على موقفهم. فما هي الأجساد التي لا تقع ضمن هذه التصنيفات الثلاث إذاً؟ وأين هو موقعها من هذا الصراع؟
الجسد الفائض
في كتابه “السعي إلى العدالة”، يشرح خالد فهمي التحوّل الذي طرأ في نظرة ومفهوم السلطة لأجساد المصريين، مع بدء حكم محمد علي في مصر (1805) قائلا: “كان إنشاء الجيش هو الذي أدى إلى تحول كبير في مفهوم السلطة، فإن ممارسة السلطة لم تعد عبارة عن عملية قيادة للموضوعات، عن طريق التهديد بالقتل، من أجل الحفاظ على السيادة، وإنما أصبحت السلطة تُمَارس من أجل الحفاظ على الحياة، وذلك لسبب مختلف، هو إدارة الحياة وتحسينها، وإخضاعها لرقابة دقيقة وشاملة”. ويخلُص فهمي، إلى أن هذا كان سبباً رئيسياً لإصرار الباشا على إدخال الطب الحديث في مصر، حيث كان يأكل الموت أجساد جنود الجيش من المصريين، فكان الطب الحديث هُنا، أداة للحفاظ على حياة هذه الأجساد من خطر الموت، والذين بدونهِم، لن يتمكّن الباشا من تكوين جيشه الحديث، وخوض هيمنته، سواء داخلياً أو خارجياً.[9]
مع سُلطوية ما بعد الثالث من يوليو، تبدّل الحال، وبدأت تظهر ملامح السلطوية الحالية، التي سخّرت أدوات العنف من أجل امتلاك جسد المواطن، تفعل به ما يشاء، تبقي على حياته أو تمحيه عن الوجود، حسب قابلية الاستثمار بجسده. أصبحت الأجساد التي كانت تسعى السلطوية قديماً للحفاظ على حياتها من أجل بناء الدولة، أجساداً فائضةً لا حاجة للدولة لها. هذا التحوّل في نظرة السلطوية للجسد المصريّ، أدّى إلى ما سمّاه أستاذ الاجتماع السوري حليم بركات بـ”الاغتراب السياسي للمواطنين”. اغتراب المواطن عن دوره في الوطن وفي المجال السياسيّ، حيث يُصبح الشعب خادماً للسلطة، بدلاً من أن تكون السلطة في خدمته، وحيث تسعى الدولة لإيجاد مواطنين “أجساد” تحكمهم بدلاً من أن يسعى المواطنون لتأسيس نظام دولة يتوافقون عليه لإدارة حياتهم[10]. بهذا، لم يعُد المصري جسداً يتعايش وفقاً لرؤيته الخاصة التي يُحددها هو حسب هُويّته (ممارسته)، ويتفاعل مع السُلطات من حوله بشكلٍ طبيعي، بل بات يعيش ويموت وفقاً لاحتياج هذه السلطة، ويُقتل ويُسجن ويختفي بيدها إن أرادت.
ولا يتوقف الأمر فقط عند تشريع السلطة حقّها في امتلاك جسد المواطن وحريّة التصرّف فيه، بل باتت تحمّله أيضاً مسؤولية أي فشلٍ أو تراجعٍ في شؤون الدولة. بدلاً من إدراك نظام السيسي أخطاء إدارته الكارثية للأزمات الاقتصادية، التي أدت إلى انهيار المستوى المعيشي لطبقاتٍ فوق متوسطة ومتوسطة وفقيرة ومُدقعة في الفقر، وتراكم الديون على الدولة “الشعب”، فإنّه يقف ويلبّس الشعب وأجسَاده مسؤوليةَ هذه الأخطاء. كيف لا وهو يعتبرها أجساداً متطفّلة على الدولة؟
مسألة الإنجاب والتعداد السكانيّ، هي أحد أبرز الأمثلة على نظرة السلطوية الحاليّة للجسد المصريّ، فكثيرٌ من خطابات مفكّرها الأعلى، الرئيس عبد الفتاح السيسي، تتطرّق إليها، طالبةً من المصريين عدم الإنجاب، ومُحمّلةً الزيادة السُكانيّة مسؤولية أزمة البلاد الاقتصادية. كما يقدم مقارنات في خطاباته بين مصر والدول المُتقدمة أو التي تمتلك ثروات وفيرة، دول الخليج كمثال، والتي تمتلك عدد سكانٍ أقل بكثير، زاعماً أنّ هذا هو العامل الذي يجعل الفرق بين وضع تلك الدول ووضع مصر الاقتصاديّ. وهنا تعبّر السُلطوية ورأسها عن نظرتها للمواطنين، وبحسب وصف ميشال فوكو وكأنّهم “أدوات حيوية” مملوكة لها. ولكن وليس كما كان الوضع سابقاً، فلقد أصبحوا فائضاً، وهي اليوم ليست في حاجة إلى هذا الفائض من هذه الأدوات “الأجساد”، إذ أنّه يُحمّل الدولة تكلفة وجوده، ولا حاجة للسُلطوية بأجساد جديدة تتعايش.[11]
في غشت/أغسطس من عام 2021، اشتدت هذه الحملة السياسية المطالبة بتحديد إنجاب المصريين، حيث انضمت لها الألسنة الإعلامية المحسوبة على السُلطة، بالإضافة إلى رموزٍ دينية. في تصريحٍ له، استدلّ شوقي علّام مفتي الجمهورية المصري، بحديث للإمام أبو حامد الغزالي عن قضية “العزل” لافتًا إلى أن “الصحابة كانوا يعزلون أنفسهم” أي أنهم يستخدمون من الوسائل المتاحة لديهم لعدم تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، وذلك كان يحدث أثناء وجود الرسول محمد وموافقته على ذلك.[12]
هكذا إذاً تكون منهجية النُظم السُلطوية، التي تشكّل علاقة السُلطة بأجساد مواطنيها على التضاد من المعقود عليه دستورياً. تتبدّل أدوار كل منهما، فتُسخِّر السُلطة السياسية أجسادَ مواطنيها لخدمتها في البقاء والهيمنة والتوسّع وغير ذلك من طموحات سُلطوية. فنرى مثلاً -والأمثلة عديدة- كثرة صناديق التبرع التي تطالب المواطنين بالتبرّع من أجل نهضة الدولة، مثل صندوق تحيا مصر (2014)، والحملة الشهيرة المعروفة بعدها (2016) بـ”صبّح على مصر بجنيه”، والتي قامت الدولة نفسها بتأسيسها!
تُجدد السُلطوية دائماً خطابها المُبرر للفشل، بدءاً من حالة الاستثناء بسبب أهل الشرّ و”فوضى” ثورة يناير 2011، وصولاً إلى الزيادة السُكانية وعدم مقدرة الدولة على إدارة هذا الكمّ الكبير من المواطنين، الذين وبنظرتها أصبح جزء منهم، جزءاً فائضاً يجب منع تكاثره.
أحمد عبد الحليم
كاتب وباحث مصري يشتغل على قضايا الاجتماع السياسي ودراسات الجسد.