يعتبر محمود درويش أبرز شاعر فلسطيني، ومن أهم الشعراء العرب المعاصرين. نشر آخر مجموعة له هو فرصة لإعادة قراءة كل أعماله الشعرية التي تنبع من النكبة وظلم التاريخ. هنا يبدو رسم خرائط المنفى كأنه فعل مقاومة شعري وسياسي في مواجهة واقع تاريخي حيث الحرية الفردية والتحرر الجماعي لم يتحققا بعد.
***
تنبع تجربة درويش الشعرية من اختيار أولي للتعبير عن فقدان الأصول، وإيجاد كلمات ومعنى للاقتلاع، والمنفى دون عودة، للحدود التي فرضها التاريخ على الوجود الفردي للشاعر والشعب الفلسطينيّ برمته. إن ما يصبو إليه الشاعر، هو أن يصير المرء صوت التجربة الوجودية لذاته من خلال التجربة الجمالية، ولكن أيضًا منح الصوت “لأولئك الذين فقدوا الحق في الكلام”. ففي حين ينسى التاريخ نكبة الفلسطينيين ويتجالها الإعلام، تتحول هذه النكبة إلى ذكرى في عمل الشاعر.
إن “الكارثة” الفلسطينية، التي غالبًا ما تُثار مع الأحلام، بالنسبة لدرويش، لا يمكن لها أن تصبح ذاكرة وكلامًا إلا من خلال العلامات التي يكتبها التاريخ على الجسد، وبخاصةً على جسد الشاعر المنفي. يتناقض ماضي المنفيّ وحاضره مع قوة الأحلام. هل من الممكن إذن أن نتصور المستقبل بطريقة مختلفة؟ وبالتالي يظلّ الجسد هوية مرفوضة، ومكانا لحقيقة مجردة، جسداً محروماً من جميع الحقوق ومختزلاً ــ إذا اقتبسنا مصطلح أغامبين إلى “إنسان المُستباح” محكوم عليه بالحياة المجردة/ العارية/ الصرفة، يشير دائمًا إلى صدمة الخسارة التي لا توصف.
تعلم كلمة منفى
دون إغفال العمل على الشكل، وعلى الإيقاعات والقواعد الجمالية للشعر في اللغة العربية، يجعل درويش من شرطه كمنفيّ نقطة انطلاق لتفكير مؤلم في مستقبل مصيره الوجودي وكذلك مستقبل شعبه. إن المنفى القسري تعلم مزدوج (المنفى وحروف الأبجدية) لطالما نقشه درويش على جسده. تتميز سيرته بالتجوال: من قرية البروة المدمرة بعد النكبة إلى بيروت (“بيروت نجمتنا”) مروراً بموسكو والقاهرة وتونس وباريس قبل أن يعود إلى رام الله (“جئت، ولكن لم أصل. / أنا هنا لكني لم أعد! “). في كل هذه التنقلات، تعلم الكاتب الفلسطيني اللغة العبرية (“كانت العبرية أول لغة أجنبية أتعلمها عندما كنت في العاشرة أو الثانية عشرة من عمري”) وكرس نفسه للشعر، وحوله إلى “وطن” للفلسطينيين الذين لا أرض لهم. كثيرة هي الأماكن التي ستعمل على صهر مراحل تجربة الشاعر، جغرافيا مرتبطة بالحواس لأن كل رائحة هي ذاكرة تتحول إلى أثرً لا يمحى إلى الأبد.
بعد نكبة عام 1948، سيطرد الشاعر من أرضه، ويعيش تجربة النفي، والاقتلاع، ويخضع لسياسات الفصل، في سياق شروطه كغريب دائم. وهو يعيش في حالة حصار يومية، يباشر الشاعر عمل بحث مستمر عن المعنى في الحاضر، مسائلا الماضي انطلاقا من حالة الاقتلاع والنفي، والحرمان من بطاقة الهوية. نحن هنا أمام معاناة تنطلق من الصدمة التي سببتها النكبة. وهكذا يصبح المنفى فعلا سياسيًا، وشكلًا من أشكال المقاومة بين الحضور والغياب، بين ذاكرة الماضي (التاريخ) والحاضر المكون ليس من أماكن معينة (الجغرافيا) فحسب، بل أيضًا من الروائح والعطور، مثل آثار عالم مفقود يعود بالذهن إلى الوراء. وهكذا يأخذنا الحنين بعيدًا عن الحاضر، عن اللحظة التي نعيشها، وفجأة يصبح العطر ذكرى بعيدة. بالنسبة للمنفيين، فإن رائحة القهوة تعني إعادة اكتشاف أصولهم، والجغرافيا المفقودة، وتأكيدا لهويتهم، ولو للحظة.
“القهوة مكان (…) القهوة جغرافيا”
لكن المنفى هو أيضًا منفى ذاتي، حيث المرء كائن مُهجَّر إلى الأبد، حالة عرَّفها إدوارد سعيد على أنها كينونة في الخارج، يكون فيها المرء “دائمًا في المكان الخطأ”. ها هي العلامات والندوب، مرة أخرى، على الجسد الذي ترفضه الحياة والحب، الشيء الذي يجعلنا نعيش في حالة من الغربة الأبدية على الأرض، مقتلعين من الزمان في أي مكان.
“لم أتعلم كلمة المنفى إلا عندما نمت مفرداتي. كانت كلمة العودة هي الخبز الجاف اليومي للغتنا. عودة إلى المكان، وعودة في الزمن (…) وأصبحت فلسطين نقيض كل ما لم تكنه، فردوسا مفقودا، حتى يوم…”
يهجّن درويش الشكل الشعري، باستخدام الحوار، والسيناريو المسرحي، وتقنية الفلاش باك. إنه شعر متجذر بقوة في واقعه التاريخي، “الآتي من الجنوب”، تكون القصيدة أحيانًا قصيدة نثر، متناغمة بقوة بفضل التكرار الدائم، والتغيرات المستمرة، والسجع، بالإضافة إلى كثرة استخدام الجناس. يمكن تعريف هذا الشعر على أنه شعر غنائي يجمع بين الإيقاع والشكل الملحمي في حوار إنساني مستمر بين الثقافات، ولكن أيضًا مع الشعراء “الغربيين” الأقرب إلى الشاعر مثل لوركا ونيرودا ورينيه شار وتي إس إليوت، حتى ديريك والكوت.
“من الآن فصاعدا، أنت هو آخر”
تظل الهوية إحدى الثيمات المركزية في شعرية محمود درويش، وفلسطين استعارة للشرط المعاصر للمنفى، للغريب بدون أرض، للمحرومين من أوراقهم الثبوتية الذين يسردون هويتهم. “من أنا؟ إنها مشكلة شخص آخر”. “سجل! أنا عربي / ورقم بطاقتي خمسون ألفا”. ليست هوية الشاعر هي هوية بطاقته، بل هي خيال وقناع. “وجدت قناعًا وأغوتني فكرة / أن أكون آخري. لم أكن / في الثلاثين من عمري، حين اعتقدت أن الكلمات كانت / حدود الوجود”. إن الهوية تتطابق مع اللغة. {لا أعلم إذا كان كلامي جسدي أم جسدي، كلامي}. بالتحديد، من خلال الإمكانيات اللانهائية للغة، يشير الشاعر إلى طريقة لإعادة صياغة عالمه المفقود. فتستعيد الكلمة معناها الكامل، وتصبح ذاكرة، وذكرى، منتزعة من النسيان والصمت، عالم أولئك الذين يعيشون المنفى في أرضهم.
ـ عندي حكمة رجل محكوم عليه بالإعدام.
(لي حكمة المحكوم بالإعدام:
لا أشياء أملكها لتملكني،
كتبت وصيتي بدمي:
“ثقوا بالماء يا سكان أغنيتي!)
يختار الصوت الشعري تمثيلًا {خياليًا} لـ “الأنا”، وهو سرد مزدوج يجب أن يقول الحقيقة، خارج نطاق أي اصطناع. (“وحدها الحقيقة ثورية”)، ولكن بطريقة جدلية. ” من أنا؟ لأقول لكم ما أقول لكم؟”.
(أنا لا أمشي، أطير، أصير غيري في التجلي
لا مكان ولا زمان، فمن أنا)
يبني درويش على اللغة حلم “وطنه”. {لدينا بلد مكون من الكلمات}. وهنا تتحاور وتتشابك موضوعات السيرة الذاتية مع الأحداث التاريخية والسياسية للشعب الفلسطيني. اللغة هي ارض الشاعر في المنفى. في عزلة وانفصال يصاحب باستمرار المنفيّ في أي مكان. غالبًا ما يقدم الشاعر في قصائده مواضيع متعارضة: الحياة / الموت، الحرب / السلام، العدالة / الظلم، الهوية / الغرابة، الثقافة / الرعب، يتم قراءتها دائمًا من خلال مرشح الذاكرة. وهكذا يدعو الشاعر اليهود، ” العابرون بين الكلمات العابرة”، إلى ترك “ذكريات الذاكرة”.
(فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأوّل
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا… والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برنا… من بحرنا
من قمحنا… من ملحنا… من جرحنا
من كل شيء، واخرجوا
من مفردات الذاكرة
أيّها المارون بين الكلمات العابرة!)
“التاريخ يوميّاتُ أَسِلحَةٍ مُدَوَّنةٌ على أَجسادنا”
أخيرًا، نجد موضوع {الوطن} في بُعد تاريخي أوسع. فقد أصبحت أرض الشاعر رمزا، واستعارة للحالة الإنسانية برمتها، وهكذا بمرور الوقت، تخلى درويش عن الكتابة الواقعية لصالح شكل من أشكال التفكير الميتافيزيقي، وغالبًا ما يلجأ إلى لغة تشبه الحلم. بعد ذلك، أخذت فلسطين تقوم بوظيفة ميتا تاريخية تقريبًا، فأصبحت نوعًا من ” الفردوس المفقود “، حتى تاريخ طرد اليهود والعرب من الأندلس عام 1492. {على الجسر، رأيت أندلس الحب والحاسة السادسة}. بالطبع، لا يمكن فصل الرسالة الشعرية والسياسية لمحمود درويش عن موضوع المنفى. يمكن للعمل الشعري أن يلعب دور المنقذ في المنفى، لكنه لا يحل محل الوطن الحقيقي. عندئذ، يصبح الشعر والكتابة ذاكرة، آثار مقاومة ضد الإبادة التي تفرضها سرديات المنتصرين.
“نُعامل كغرباء في وطننا […] إنه مفهوم أكثر تعقيدًا عن الغريب، مرتبط بالحالة الإنسانية. نحن غرباء على هذه الأرض … “. يجب تذكر كل مكان، كل منظر طبيعي، كل عطر من أجل ذاكرة شعب بأكمله. ليس الشاعر مؤرخًا، ولكن على العكس من ذلك يجب أن يحرر التاريخ “من إطاره الزمكاني ليمنحه تعبيرًا بشريًا ودائمًا”.
لا تكتبِ التاريخَ شعراً، فالسلاحُ هُوَ
المؤرِّخ. والمؤرّخ لا يُصَابُ برعشة
الحُمَّى إذا سَمَّى ضحاياه ولا يُصْغي
إلى سرديّة الجيتار. والتاريخ يوميّاتُ
أَسِلحَةٍ مُدَوَّنةٌ على أَجسادنا
لقد سمحت المسافة بالنسبة للزمن الآني لدرويش بأن يتجاوز تجربته الشعرية، ما يسميه “صوته الفردي الجماعي”، نحو أرض أخرى أوسع بكثير من الناحية الثقافية. [الأدب هو التاريخ الوحيد الممكن -> 1947] لشعب عانى من استعمار قاسي، فهو يمثل شكلاً من أشكال السرد المضاد، الذي يتحدى إنكار الثقافة الفلسطينية، من خلال تفكيك التاريخ المحرف والمشوه للمستعمرين. ذلك السرد الرسمي الذي يهدف إلى نزع الصفة الإنسانية عن حياة المستعمَر وتشييئها، وإزالة جميع أشكال الأصالة والكرامة والواقع الإنساني. حالة ثابتة اليوم في الأراضي المحتلة.
“شاعر طراودي”
تحت أنقاض طروادة الآتية (“لأن طروادة لم تسرد حكايتها “)، يعتبر درويش نفسه “شاعرا طراوديا” لوصف حالة الحصار وتدمير “مدينته”، واضعًا نفسه بحزم إلى جانب الخاسرين الذين حرموا من حقهم في ترك أي أثر لهزيمتهم، بأي شكل من الأشكال. “أما بالنسبة لي، فأنا أبحث عن شاعر طراودة، لأن طراودة لم تسرد حكايتها” “. التاريخ يكتبه المنتصرون، لكن الأدب مسؤول عن كتابة {الحيوات الصغيرة} للضحايا.
” لم أختر أن أكون ضحية سواء من الناحية الوجودية أو السياسية. فالظروف التاريخية هي التي جعلت من الفلسطينيين، بمن فيهم أنا، ضحايا. وهكذا أ أبذل كل جهدي في التعبير عن وعي الخاسر والضحية. هذا ما يعنيه أن أكون { شاعرا طراوديا }: التصريح بأنه ليس هناك سرد المنتصر فقط. ”
الشاعر هو وديع الذاكرة في مواجهة النسيان. ولا يزال الأمر يتعلق بالتعبير عن الفقدان والمنفى. إنها ليست وظيفة المؤرخ، بل هي وظيفة الشاعر الذي يكتب انطلاقا من الهوامش بـ “صبر المسافة”، مما يسمح بإلقاء نظرة أوضح على ثقل الذاكرة. هنا يتم إعادة ربط التجربة الفردية بالتجربة الجماعية، وسريرة الشاعر بمحيطه الخارجي في تجربة شعرية تصبح لغة عالمية، “للسماح لنا بالشعور بالألم والجروح البليغة، وبالتالي، لتمكيننا من البلوغ إلى إنسانيتنا.”
شاعر، وروائي، ومترجم، وفنان تشكيلي مغربيّ.