في هذا اللقاء، التقى الشاعر والمترجم اللّبناني بول شاوول بالقاص والروائي المغربي محمّد زفزاف. يقول شاؤول في تقديم زفزاف : “محمد زفزاف، من خلال قصصه ورواياته، يعبر عن الاتجاه الأكثر طليعية والأكثر جرأة في التجربة القصصية المغربية. وهو إلى ما يعمد إليه من تجريبية وتجاوز مستمرين، يطمح إلى ارتباط أكثر صميمية بامتداد القصة العربية والمغربية. من أعماله: “حوار في ليل متأخر” (محموعة قصصية 1975)، “المرأة والوردة”(رواية 1972)، “الأرصفة والجدران”(رواية 1974)، “بيوت واطئة”(مجموعة قصصية 1977)، “قبور في الماء”(رواية 1978)، “الأقوى”(مجموعة قصصية 1979).”. نُشر الحوار ضمن كتاب “علامات من الثقافة المغربية الحديثة” العام 1979، وتعيد طِرْسْ نشره في ركن “مخزن” رغبة منها في تحيين وتفعيل النقاشات الثقافية، الأدبية والفنية، بين المغرب والمشرق.
***
بول شاوول: إنّ هناك شبه انقطاع بين المشرق العربي والمغرب العربي، إلى أي مدى ينعكس ذلك على النتاجات الفنية في المغرب وفي المشرق؟
محمّد زفزاف: بالفعل هناك شبه قطيعة مفتعلة بين الأدب المغربي المعاصر وبين نظيره في المشرق العربي. هذه القطيعة المفتعلة قد تتجلى في تجاهل بعض إخواننا المشارقة لكتاباتنا هنا في المغرب العربي. وخصوصا التي نكتب منها باللغة العربية. وأخشى أن أقول أن هناك عقدة لدى القارئ العربي ف المشرق تجاه ما نكتب هنا بالعربية الفصحى. إن إخواننا في المشرق ينظرون بانبهار إلى ما نكتبه بالفرنسية.
لقد خلقت هذه المشكلة شبه انفصام في أدبنا المعاصر. إن المغاربة ينظرون في الآونة الأخيرة إلى المغرب نظرة انفرادية عوض أن تكون نظرتنا كأدباء عرب موحدة تجاه الثقافة الإنسانية بصفة عامة.
لهذا السبب نجد كثيرا من محاولات التجريب أدباءنا الشباب. إن أملنا أن يهتك النقاد المشارقة بأدب المغاربة بدل أن ينصب اهتمامهم على السوريين واللبنانيين والعراقيين والمصريين فقط. فالعالم العربي لا تمثله هذه الدول الأربعة وحدها، ولكن هناك أدباء يستحقون العناية سواء ف الخليج أو السودان أو حتى إريتريا أو موريتانيا.
ب.ش: أقصد بسؤالي أن النتاج المغربي ابتعد إلى حد كبير بفعل هذا الانفصام المفتعل عن التفاعل بالأدب بالمشرقي واتجه خصوصا في الأعمال الحديثة نحو التفاعل بالغرب…
م.ز: إن الأدباء المغاربة على اطلاع كاف بما ينشر في الشرق. وإذا كان هناك نوع من التفاعل، فهو تفاعل معرفي فقط، وليس تفاعلا على مستوى الإبداع. صحيح أن هناك استثناءات في المشرق العربي وهي أسماء تظل مغمورة مع الأسف. هناك مثل غالب هلصة والروائي السوري عبد النبي حجازي والعراقي محمد خضير. إلا أن الصحافة المشرقية أو بالأحرى النقد الصحافي لا يعيرهم اهتماما. إننا نطلع على مثل هذه الأسماء ونقدرها، لكن النقاد في المشرق لا يسلطون الأضواء إلا على بعض الأسماء التي تنتمي لشلل معينة مهما كانت تفاهة ما ينتجون. وهذا لا يمنع من أن هناك بعض الكتاب الشباب المغاربة الذين لا يقرأون سوى لغة واحدة، كونهم يحاولون تقليد ما ينشر هناك أو هنا. أقصد في المشرق أو في المغرب. وهؤلاء الذين يقرأون بلغة واحدة ألا وهي العربية يعتبرون قلة قليلة.
ب.ش: لكن هناك أكثرية في المغرب تقرأ أيضا لغة واحدة وهي الفرنسية، مما يجعلهم يكتبون بها. ما رأيك في قيمة هذه الكتابات من حيث مردودها على الواقع العربي؟
م.ز: إن أغلب الأصدقاء الذين أعرفهم والذين يكتبون بالفرنسية في المغرب الأقصى يتقنون لغتهم العربية ويستطيعون أن يكتبوا باللغتين. لكن عدم اهتمام دور النشر العربية بإبداعاتهم، وقد كتبت أصلا باللغة العربية، جعلتهم يصرون على الكتابة بالفرنسية. لأنهم يجدون تسهيلات كثيرة من طرف دور النشر الفرنسية. هناك مجموعة من الأسماء تكتب بالفرنسية وبالعبية معا. مثل عبد الله العروي، عبد اللطيف اللعبي ومحمد البريني، ومحمد برادة…
ب.ش: لكن رغم كل هذا، نجد أن المغرب كما في تونس والجزائر وسواها، كتابات بالفرنسية. ما مردود هذه الكتابات بصرف النظر عن ظروفها؟
م.ز: مع الأسف، إن لهذه الإبداعات مردودا فعالا على مستوى قراء المغرب العربي فقط، لأن الذين يهتمون بالقراءة وليس المتعلمين، في إمكانهم-خصوصا بعد حصول هذه الدول على استقلالها- أن يقرأوا باللغتين معا نظرا لانتشار حركة التعريب. إن عهد الجيل السابق قد مضى، أقصد جيل مولود معمري ومولود فرعون وإدريس الشرايبي وأحمد الضفريوي وألبير ميمي وغيهم… لأن هؤلاء كانوا نتاج ثقافة الاستعمار.
أي من خلال أداة التعبير، أي اللغة أم شيء آخر كالمضامين ؟
الكتابة باللغة الفرنسية تعطي إمكانية أكثر للاتصال بالقارئ العربي الذي يجيد الفرنسية. عما يمكن أن نعبر عنه بلغة أجنبية لا يمكن للعقل العربي أن يتقبله إذا كتبناه في اللغة العربية. فهناك مجموعة من التقاليد المتحجرة وهناك أيضا مجموعة من المفاهيم الجامدة التي لا تزال تسيطر على عقلية الإنسان العربي، وإني أتساءل كيف لا نستطيع أن نعبر باللغة العربية عن أشياء لم يستطع الله نفسه أن يخجل من خلقها. إننا نجد في القرآن الكريم آيات تتحدث عن بعض الأشياء الجنسية.
وأستطيع أن أعطيك مثالا بروايتي “المرأة والورد” التي صدرت أول الأمر عن “الدار المتحدة للنشر”، لكن مدير الدار لم يسبق أن قرأ النسخة الأصلية، ولكن عندما “قرئت” له و”فسرت” بالطريقة التي قرئت بها، تنكر لها، فأعاد يوسف الخال نشرها من جديد ضمن منشورات دار “غاليري واحد”. لماذا؟ لأن الكتاب قد يتحدث عن أشياء جنسية و”فظيعة”. هذا مثال على نوع العقلية التي تسود دور النشر العربية.
ب.ش: لكن من خلال ماذا ارتبطت مرحلة “الجيل السابق” للاستعمار؟
م.ز: إنّ الجيل السابق الذي كتب بالفرنسية لم يتلق في أغلبه تعليما جامعيا ككاتب ياسين ومولود معمري، ولكنهم كانوا عصاميين استطاعوا أن يقرأوا اللغة الفرنسية وأن يعبروا بها في مرحلة كان فيها كتاب كبار في المشرق العربي يلهبون العزائم ويبثون روح الوطنية في الأمة العربية(ساطح الحصري، الرصافي، الزهاوي…) إلا أن هذا الجيل لم يكن على اطلاع على هذا الأدب، ومع الأسف، حتى أدب المقاومة الفرنسية لم يؤثر فيه إلا بشكل ضئيل، وحتى صرخة مالك حداد “اللغة الفرنسية هي منفاي” لم تكن تبدو لي سوى صرخة مفتعلة، تحاول استدرار العطف بشكل مجاني.
ب.ش: ولكن يقال إنه حتى الجيل الجديد، ينظر إلى المشاكل الثقافية والاجتماعية والسياسية العربية من منظور ثقافة الاستعمار ومن منظور أوروبي…
م.ز: عن مثل هذا الاتهام بالنسبة إلى الجيل الجديد، هو اتهام مطروح فعلا، لكن من طرف بعض الذين ليس لهم إلمام بكتابات الجيل الجديد. إن إبداعاتهم في الغالب هي إبداعات نضالية ضد الإمبريالية والرجعية المسيطرتين. ولعل كتابات مصطفى النيسابوري والطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي وعبد الكبير الخطيبي ومحمد البريمي ومحمد الوقيرة هي خير شاهد على أن ما يكتب بالفرنسية لا ينزر إلى واقعنا من منظور استعماري أو مستلب من جهة الغرب. إن مشاكلنا تفرض نفسها لكي نعبر عنها حاليا وفي ظروف مرحلتنا الانتقالية هذه لأية لغة وحتى ولو كانت لغة الشيطان.
ب.ش: وهذا الجيل الجديد، سواء عبر بالفرنسية أو بالعربية، نجد أن كثيرا من روح الثقافة الأوروبية تدفع بناه وتراكيبه وحتى مضامينه في مختلف الاتجاهات.
م.ز: الثقافات تتفاعل فيما بينها، فمن الطبيعي جدا عندما أكتب أن يكون هناك تأثير تركيبي لغوي لما أقرأ على ما أكتب.
ب.ش: الجيل الجديد الذي تتكلم عليه، بماذا -في رأيك- يتميز عما سبقه في المغرب؟
م.ز: إن الجيل الجديد يكاد ينفصل نهائيا عن الاتجاهات الأدبية السابقة. الجيل القديم كان يهتم أكثر بمسائل التراث. أما الجيل اللاحق فقد فتح عينيه على عوالم أخرى واستطاع أن يبدع فيها، سواء على مستوى الشعر أو القصة القصيرة أو الرواية. إننا نجد أن هناك حركات تجريبية كثيرة، لكن، بهجف التجريب وحده، ولكن بهدف محاولة توظيف للرقي بالإبداع الأدبي المغربي إلى مصاف الآداب التي استطاعت أن تعبر عن هموم شعبها.
ب.ش: على سيرة التراث، كيف تحدد بصفتك من الجيل الجديد علاقتك بهذا التراث؟
م.ز: إنني أقرأ التراث العربي لكي أستفيد منه، لا لكي أنسخه أو أقلده، أو إذا شئت “أقردنه”. ليس التراث كله مرفوضا، بل فيه ما يمكن أن يفيدنا في مسيرتنا الحضارية نحو الأسمى، كما أن كل ما يكتب في الحاضر ليس بالضرورة ملبيا لتطلعات الإنسان، إذ نجد هناك نوعا من الغربلة لما نقرأ. فالقراءة نفسها فن يجب أن نتعلم كيف نتقنه.
ب.ش: كأن نظرتك إلى التراث نظرة انتقائية؟
م.ز: بالفعل.
ب.ش: أنت تكتب، بشكل عام، القصة القصيرة والرواية، هل يبدو هذا الانفصال المفتعل في علاقة نتاجك القصصي بنتاج المشرق العربي القصصي؟
م.ز: إن أي قصاص أو روائي يجب أن يكون متميزا عن غيره، وإلا فلا داعي لأن يكتب. وهذا التميز يمكنه أن يتجلى في طريقة معالجة موضوع ما. أو حادثة واقعية أو متخيلة. إن موضوعا واحدا أو “مادة للكتابة” إذا ما طرحناها للتناول من طرف مجموعة كتاب، فإننا نحصل في نهاية الأمر على عدة “مواد للكتابة” وليس مادة واحدة، فالموضوع واحد، ولكن طريقة التناول تختلف، ومن هذا المنطلق يمكن أن أحدد ما أكتب بين ما يكتبه الآخرون.
ب.ش: بالنسبة إلى القصاصين العرب، من أثر فيك أكثر من غيره؟
م.ز: لقد قرأت مجموعة من القصاصين العرب ووجدت أن هناك قصاصين يرقون إلى المستوى العالمي. ولا داعي هنا لذكر الأسماء. وعندما أقرأهم أشعر أنه لا فرق بينهم من ناحية القيمة الأدبية، وبين بعض الكتاب العالميين الكبار. إن القصة والرواية العربيتين، رغم الكثير من المحاذير تحاول ما أمكن وبطريقة جادة رصد ما يموج به العالم العربي من مشاكل وهموم.
ب.ش: والقصة والرواية في المغرب؟
م.ز: إن الحديث يطول عن الرواية والقصة في المغرب، وللمزيد للتعرف على ذلك يجب الاطلاع على بعض الأطروحات التي قدمت في هذا الميدان مثل “الفن القصصي في المغرب” لأحمد البابوري، و “فن القصة القصيرة في المغرب” لأحمد المديني. وبعض الدراسات الموجودة في كتب مثل “المصطلح المشترك” لإدريس الناقوري، و”الأدب في المغرب الأقصى” للدكتور سيد حامد النساج.
ب.ش: ورأيك أنت؟
م.ز: إن القصة المغربية قد بدأت تتضح معالمها خصوصا بعد الستينات، فقد ظهرت مجموعة من القصاصين ذات اتجاهات مختلفة، لكنها استطاعت أن تثري الحركة الأدبية في المغرب، ونذكر من هذه الأسماء محمد شكري، أحمد المديني، مبارك ربيع، محمد برادة، إبراهيم بوعلو ومصطفى المسناوي…
محمّد زفزاف (القنيطرة 1945 – الدار البيضاء 2001)
قاص وروائي مغربي. يعتبر زفزاف من أهم الأدباء المغاربة المعاصرين و أحد أكثر الكتاب المغاربة مقروئية في العالم العربي. تجاوزت إبداعات زفزاف المحلية، حيث ترجمت مجموعة من أعماله للغات غير العربية. تميزت تجربته الأدبية بتواتر تميمات العوالم السفلية و الإقصاء الاجتماعي، و بحمولتها الإنسانية و بلغتها الشاعرية السلسة، و هو ما أهّله لأن يعرف بلقب «شاعر الرواية المغربية» في المجتمع النقدي العربي
بول شاؤول (لبنان، 1942)
شاعر ومترجم وناقد أدبيّ لبنانيّ.