في إطار برنامج الإقامة الفنية في المركز الفرنسي في دير القمر، قام كلّ من غايتان بارسيهيان ومسلمة الشهال بإقامة ورش عمل مع شباب وشابات من مدينة طرابلس اللبنانيّة وضواحيها، تهدف في شكلها النهائيّ إلى تسجيل عدة مقطوعات صوتيّة بمثابة توثيق صوتي لطرابلس الشام ولعلاقتهم مع المدينة.
انطلق المشروع من فكرتين رئيستين، الأولى إعطاء الأحقية بالرواية للمشاركين والمشاركات وتمرين قدرات الملاحظة الحسيّة بشكل عام، والصوتية بشكل خاص، بغية خلق سردية عن المدينة برواية سُكّانها، ومن وجهة نظرهم، على عكس الممارسة البحثية الكلاسيكية التي تعطي أولوية الملاحظة وممارساتها وتحليلاتها واستنتاجاتها، ومن ثم روايتها للباحث أو للفنان، لا للأفراد والجماعات الملاحَظة. بمعنى آخر، هي محاولة لإعادة استحواذ الناس من خارج المجال البحثي والفني على أدوات البحث والرواية والإنتاج الفني.
من ناحية أخرى -غير التوثيق- سعى هذا العمل إلى تفعيل وتمرين فعالية العلاج كإحدى تطبيقات الملاحظة الحسيّة. إنّ ما يسميه الباحثون ملاحظة، يسميه عارفون آخرون بالتأمل، حيث أن تفعيل الحواسّ بشكل واعٍ ومسؤول ليس مجرد مراقبة خارجية للمحيط ولكن له قدرة علاجية-ذاتية على خلق المساحة الكافية والمتزنة بين مشاعر الفرد ومحيطه بدل الغرق في الانفعالات والمشاعر الداخلية. بمعنى آخر هو تطبيق الوعي بمشاعرنا وتفاعلاتنا أثناء ملاحظة الخارج، وإيجاد نقطة الوصل بين دواخل الإنسان وما يحيطه خارجياً، الأمر الذي قد يساعد الأفراد على التعبير عن مشاعر ما بعد الصدمة في مجتمعاتٍ -كالمجتمع اللبناني- تعاني من تحولاتٍ جذرية في نمط الحياة على كل مستوياتها، الاجتماعية، الاقتصادية، البيئية وحتى الغذائية والأمنية.
المقطوعات الثلاث التالية، هي نتاج تسجيل المشاركين والمشاركات لأصوات المدينة أثناء تنقلهم في مساحاتها العامّة، وفي بعض الأحيان، من داخل منازلهم مع عوائلهم، كما أنها نتاج عمل مشترك بين هؤلاء الشبان والشابات وبين المشرفَيْن على المشروع اللذين قاما بالمساعدة في إعداد السيناريو الصوتيّ والإنتاج النهائي.
مقطوعة البحر بيضحكلك: حين قابلنا منى وبنان، صبيّتان من “القبّة”- كاسمه، هو أحد أحياء طرابلس المرتفعة والبعيدة نسبيّاً عن البحر- أخبرتانا أن أجمل ما في طرابلس بحرها و”المينا”، وهو الحيّ المحيط بميناء المدينة. لكننا نكتشف لاحقاً أن فكرتهما عن المينا محصورةٌ بالكورنيش، وبأفكار تختزل الحيّ برومانسيّة البحر وهدوئه، ونظافته. لذلك قررنا أن نختصر جولة “الكورنيش” لنتوغل عِوَضاً داخل أحياء المينا، برفقة مسجلَيّ صوتٍ، منطلقين من “ساحة التلّ”، وسط المدينة القديمة. هناك، ضجيج سوق الميناء وأحيائها الداخليّة لا يختلف عن ضجيج السوق وسط المدينة، و بصمته الصوتيّة ليست بعيدةً عن تلك التي نسمعها في سائر طرابلس، على الأقل نهاراً، باعتبار أن أصوات الليل والسهر وموسيقى البارات في شارع “المينو” في الميناء، لها طابعها الخاص، المختلف عن سائر الأحياء. لكن قد تكون أصوات البلاستيك والزجاج على الشاطئ، وهو يتكسّر تحت أقدامنا، أكثر ما بعثنا على التساؤل: كيف ولماذا لم تتأثر وداعة وجمال نظرة الفتاتين عن بحر مدينتهما، بمنظر الزجاج اللامع وصوت قرقعة البلاستيك؟
بين طرابلس ومخيّمها: روان، فتاةٌ فلسطينيّة من طرابلس، وهي تعيش في “نهر البارد” أحد مخيّمات المدينة. تقديمٌ بحدّ ذاته عجيبٌ لو تأملنا، فنحن حين نولد ونعيش في مدينةٍ، ننتسب لها عادةً، لكنّ الوضع بالنسبة لفلسطينيي لبنان أبعد ما يكون عن الطبيعيّ! قررت روان على طريقتها، أن تكسر الصورة النمطيّة عن “المخيّم”، بدءاً بإعادة طرح السؤال عن معنى الكلمة ذاتها: ما الذي يعنيه المخيم؟ ما الذي يحويه المخيّم؟ هل يسكن الناس الخيم؟ “المخيّم بيخوف؟” في مزيج بين الحوار والتوثيق العفويّ لحياة الناس والأصوات التي تحيط بهم، تطلعنا روان على شهادة فتاتين طرابلسيتين من الجنسية اللبنانيّة، تتحدث فيهما عن مشاهدتاهما في المخيّم بعد دخوله للمرة الأولى وارتياده بعدها لعدة شهور بغرض العمل. ما يميّز عمل روان، أنّها حاولت كسر الأفكار النمطيّة عن مكان سكنها، بشهادة وكلمات القادمين من الخارج، لا أبناء حيّها العالقين بين بؤس الداخل و تحقير الخارج.
أتنفس: هلا فتاةٌ تعيش في إحدى القرى القريبة من طرابلس. علاقتها بالمدينة، كالكثير من أبناء “عكار” والضنيّة” علاقة كمن لم يكن يوماً من خارجها، لأسبابٍ يحتار المرء أحياناً في وصفها، محزنةٌ أم مفرحة. فلا جامعات حكوميّة هناك، ولا أسواق كبيرة، و كثيرٌ من أبناء الشمال ليس لهم إلا طرابلس ” أم الفقير”، كما يحلو للبعض تسميتها. من هنا، بدأت حكاية هلا مع المدينة، التي أصبحت متنفس حريّة و منطلقاً لتطوير نفسها. السوق، الجامعة، المكتبة، مراكز التدريب، ورش العمل، قلّت أو كثرت، كانت على قدرٍ من الجودة أم لا، لا يهم، فوضع المدينة في تدهور أصلاً، فكيف بمن يعيش في القرى؟
“تحارج” هلا باعة الخرز و الخيطان ببراعة وبخفة دم و” هضامة” لطيفتين، تعلو صوتها نبرة “انتصار” كلما ثقل وزن الغنيمة و قلّ ثمنها، فهي بهذا ترفع هامش الربح من الإكسسوارات اليدويّة التي تصنعها وتبيعها فيما بعد. تنتقل بعدها لتحارج العطّارين، على وصفة أعشاب طبيعيّة من أجل شعرها أو بشرتها، وكل ذلك، بعد نهارٍ طويل أمضته في ورشة تدريب حول الإعلام، في مركزٍ على ساحة التلّ، على بعد بضع عشرات أمتارٍ من السوق. تعود إلى قريتها، تغلق باب غرفتها، وتنهي يومها المزدحم بالناس والأفكار وضجيج المدينة، بوضوءٍ وصلاةٍ وتسبيح. تجد هلا في طرابلس الحريّة التي تبحث عنها، والتي برأيها ستعينها في طريق الاستقلاليّة الماديّة، لكنّها تتعثر مرغمةً بمغريات المدينة على حسب قولها، فتجد في الصلاة وفي قريتها ملجأ من شرور النّفس حين يهبط الظلام.
نرافق هلا في هذا التسجيل، في السوق، وعلى طريق العودة، إلى تسابيح الفجر من غرفتها والأذان الصادح من جامع قريتها.
مسلمة الشهال (طرابلس، 1987)
مسلمة الشهال باحثة في العلوم السياسية بمعهد الدراسات السياسية آكس أون بروفانس (فرنسا)، وعضوة فريق منصّة طِرْسْ.
غايتان بارسيهيان (مارسيليا، 1984)
مؤلف موسيقيّ إلكترو-كاوستيك وباحث في فيزياء الصوت.