أذكرُ منذ عهدٍ ليس ببعيد، ساعاتٍ قضيناها، كتلاميذ بالمرحلة الثانوية، في تدارس ما سمّته المقررات المدرسية بـ” الفكاهة والهزل في القصّ العربّي القديم.” وأذكر ما صحبنا خلالها من ضجرٍ وفتور، حتّى آثرنا التغيّب. كُنّا في البداية مدفوعين بشغف سماع شيء من الهزل، طامعين في قدر من الضحك، لكننا لقينا ما لا تُسرُّ به نفسٌ، ولا يفترُّ لسماعه ثغر.
لقد جرى الأمر على أن يتناول الأستاذ قِطعة مُختارة من مقامة للهمذانيّ، أو شيئًا من نوادر البخلاء وأبي دُلامة، فيقرؤها علينا ثم يُشير إلينا بأن نُردّدها من بعده، ونقطّعها أقسَامًا وفق معيار نختاره، ثم نتبيّن مظاهر الإضحاك فيها. هكذا دأبنا على البحث عن مواطن الإضحاك في نصوصٍ لم نضحك عند قراءتها. وكان الأستاذُ يلتمس شرحها، فيضحك وحده دون غيره، حتّى حسبنا الأدب العربي ثقيلًا لا يولّد غير السأم والضّجر.
لعلَّ شيئًا من قِدم اللغة قد حال بيننا وبين فهم المُراد من هذه النصوص، أو ربّما ما تمّ تخيّره منها، لرسم صورة في أذهاننا عن الأدب العربيّ، قد باعد بيننا وبين تذوّق أدبٍ هو أقرب إلينا مما كُنّا نخال.
فما تصوّره لنا المُقررات، لا يعدو كونه بحثًا في غائيّة اللهو والهزل: كأنّ اللهو لا يُطلب لذاته، بل لِمَا توارى خلفه من نقدٍ وجدٍّ وتتبّعٍ للأفعال المزيدة وجُمل النهي والأمر. فيكون الإضحاك ههنا مُتسّمًا بالرّفعة والتعفّف، لا يشوبه نبوُّ ولا تُفسده خوارج الألفاظ.
ولمّا كُنّا في سِنٍّ يفُور فيه الشباب، وينطلق فيه اللسانُ بكل لفظٍ وقول، آثرنا من حديث النوادر والنّكات ما اتّسم منها بالفُحش، وما كان منها قريبًا من لساننا، فلا تكون بيننا كُلفة، ولا نُطالَب إثر حكيها بتقصّي الأبعاد والمغازي. وإنّما هي أحاديثٌ تُروى لذاتها، لا غاية منها إلا الترويح عن النّفس ودفع ما تعلّق بها من كدرٍ. ومنه قرَّ الرأي لدينا على خلوُّ الأدب العربي ممّا يعده المدرّسون فكاهةً وهزلاً حتّى كادت تنقطع أسباب الوصل بيننا وبينه.
في مسألة الألفاظ الخارجة والكلام الزائد
ولسنا ندري كيف وقعنا ذات يومٍ على قصيدة لمظفّر النوّاب، ينطُقُ فيها الشّاعر بلفظ «قَحْبة» فهزّت نفوسنا وأنكرنا مسامعنا، بل وأنكرنا كامل القصيدة كأنّ ليس فيها غير تلك الكلمة. فأخذنا نُهلِّلُ كأنّما ظفرنا بنصرٍ عظيم، وحملناها على أكتافنا كما يُحمل الأبطال، مواجهين بها أستاذ العربيّة آنذاك قائلين في عفّة وتصنّع: «هذا مُظفّر النوّاب الذي حدّثتنا عنه ذات يومٍ، يقول دون تحرّج ما يشذُّ عن قول الأدباء والشّعراء، ودليل ذلك لفظة كذا…». فهم الأستاذ تلميحنا فابتسم وقال: «هي كلمة عربيّة! وأعجبُ من أنها أوحد ما علق بأذهانكم من القصيدة! وليس من الحرج في شيء أن تُوظّف متى استوجب توظيفها، على أنّكم تقولون ما شابهها وما زاد عنها من فاحش الألفاظ!»
وهكذا كانت لنا في مظفّر النواب، فاتحةُ حديثٍ لم نخَل له وجودًا. ومضينا على إثره نتتبع نابي الألفاظ وفاحش الأقوال، لا حُبًا في الفُحش والنبوّ، وإنّما لترميم فجوة بين الهزل وما قُرّر علينا من هزل. وعرفنا من بعد هذا أسماء أخرى؛ كالجاحظ وأبي حيّان، وضربًا من الشّعراء كبشّار وأبي نوّاس وعمر بن أبي ربيعة. وأخذنا نتذاكر من أخبارهم ما تجاوز صُحُف الكتب المدرسيّة. وزادنا ذلك ذهولاً على ذهول.
والعجيبُ أنّ ما تزخر به كتب التراث، لهو أشدّ اتصالًا بما نرويه اليوم لغاية اللهو والهزل. والأعجب أن هذا الاتصال ليس بمُقتصر على فحوى الهزل من جانب المعنى فقط، بل وكذلك من ناحية اللفظ وغِياب الكُلفة في الترّفع عمّا يُعدُّ «كلامًا زائدًا» أو حديثًا مُخلّا بالآداب والأخلاق. وكان هذا الدّأبُ في مجالس الأسلاف والقدماء، أين تُرسل النوادر على سجية ألفاظها دون حفيظة ولا نفور. وفي هذا يقول الجاحظ «وبعض من يُظهر النسك والتقشُّف إذا ذُكر الحر والأير والنَّيك تقزَّز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجلٌ ليس معه من المعرفة والكرم، والنُّبل والوقار، إلاَّ بقدر هذا التصنُّع. وإنما وُضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألاّ يُلفظ بها ما كان لأوّلِ كونها معنىً، ولكان في التَّحريم والصَّون للُغة العرب أن تُرفع هذه الأسماء والألفاظ منها. وقد أصاب كلَّ الصَّواب من قال: لكلِّ مقامٍ مقال»
ونرى أن المقام إذا ما اتّصل بالهزل، كان المقال فيه خاليًا من التصنّع والتخيّر. إذ يذهب الجاحظ إلى أن هذه الألفاظ التي يعدّها البعض من قبيل الإسفاف والفُحش، ليست إلا كلامًا لا حرج في قوله، بل ولا يتّم معنى الحديث بغيرها من الألفاظ. فلو كانت زائدة عن الحاجة لرُفعت وحُرِّمت. وما كانت لترد على ألسن الصحابة والتابعين كما ذكر ذلك الجاحظ في رسالة مفاخرة الجواري والغلمان. ثمُّ ليس في هذا مما يؤاخذ به قائله، فيُعدُّ بقوله آثِمًا، ومن هذا حديث ابن قتيبة إذ يقول «وإذا مر بك حديث فيه إيضاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع على أن تُصَعِّر خدك، وتُعرِض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تُؤثِم، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب.»
أحاديث الشيوخ والمُجّان: حضور نوادر القدماء في المخيال الهزليّ المعاصر
خلافًا لما فرضته علينا المُقررات سابقًا، فإنه لا يُراد بالهزل تتبّع الحِكم والمغازي، وإنّما قد يقتصر شأنها في الغالب على الاستعاضة عن حديث الجدّ بحديث الهزل. وهذا ما استقرّ عليه حال الوزير أبي عبد الله العارض في الليلة الثامنة عشر من مسامراته مع أبي حيّان التوحيدي، إذ قال له في أولّها «تعالَ حتى نجعل ليلتنا هذه مُجونية، ونأخذ من الهزل بنصيب وافر، فإن الجِدَّ قد كدَّنا، ونال من قوانا، وملأَنا قبضًا وكربًا.» وفي مثل هذا المعنى قال الشّعبي: «إنّ القلوب تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة.»
وما كان في هذه الليلة نصيبٌ من حرجٍ أو مداراة لفظٍ لغاية تصنّع النسك والسموّ. فجرت الأحاديث مجرى السجيّة الإنسانيّة. ونهلت من كل شأن من شؤون الدنيا. وكان أبطال نوادرها من الزّناة والفسّاق والجواري والغلمان. وكان مدارها العشق والمجون والوصال والجماع، كهذه النادرة التي يرويها أبو حيان في غير كُلفة «كان الرجل فيما مضى إذا عشق الجارية راسلها سنةً، ثم رضِي أن يَمضغ العِلْك الذي تَمْضَغه، ثم إذا تلاقيا تحدَّثا وتناشدا الأشعار، فصار الرجلُ اليوم إذا عشِق الجارية لم يكن له همٌّ إلا أن يرفع رجلَها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة».
ويمضي التوحيديّ في حديثه، فيروم الإضحاك بتمثّل قصيدة، تستدعي فيها الشاعرة صورةً طريفة لأحد الشيوخ الفسّاق، مِمّن يتظاهرون بالعجز ويظهرون عند العبث ما يخفونه جهرًا:
شيخٌ يصلِّي قاعدًا.. ويَنيكُ عشرًا من قيام
ويَعافُ نَيْكَ الغانياتِ.. ويشتهي نَيْكَ الغلامِ
وتراه يُرْعَدُ حين يُذ.. كر عنده شهر الصِّيام
خوفًا من الشهْر المعذِّ..بِ نفسَه في كل عامِ
سَلِس القِياد إلى التَّصا..بي والملاهي والحرام
إنّ استدعاء هذا النموذج الطريف من الشيوخ هو عادةٌ لازالت حاضرةً إلى اليوم في الطُّرفِ والنّكات، دائمة السّير على ألسن الشباب والكهول وحتّى الشيوخ. ولنا أن نقف على مواضع عديدة تُحكى فيها النوادر عن عبث الشيوخ ولهوهم، كهذه الطرفة التي يرويها الجاحظ:
«كان رجل من اللّاطة وله بنون لهم أقدارٌ ومروءات، فشانهم بمشيته مع الغلمان وطلبه لهم، فعاتبوه وقالوا: نحن نشتري لك من الوصائف على ما تشتهي، تشتغل بهنّ، فقد فضحتنا في الناس. فقال: هبكم تشترون لي ما ذكرتم فكيف لشيخكم بحرارة الجُلجُلتين! [أي الخصى] فتركوا عتابه وعلموا أنّه لا حيلة فيه.»
تتصل نوادر الشيوخ ههنا بما يُعرف عن هذا السنّ من اقترانه بالوقار والنزوع إلى التوبة في آخر العمر. فيكون الشذوذ عن هذا مدعاة للهزل وأشدّ إضحاكًا من اقتران الأمر بغيرهم من الناس. وهذا شأنُ النوادر في العموم، إذ هي مجبولة على غريب الأمور واجتماع الأضداد، وإلباس الهزل بمقام الجِدّ. ويذكر الجاحظ في هذا ما يُروى عن بعض الصالحين من التابعين أنّه كان يقول في دعائه «اللهم قوِّ ذكري على نكاح ما أحللت لي.» وحديثٌ آخر لابن الزنّاد إذ يقول لعمّه «أنخر عند الجماع؟ قال: يا بنيّ لو رأيت عمّك يجامع لظننت أنه لا يؤمن بالله العظيم!»
ونحن نقرأ في رسالة الجاحظ عن مفاخرة الجواري والغلمان، كيف تُساق النّوادر في الهزل بالنّساء من مؤثري الغلمان، حتّى ليُحسب هذا من قبيل الإيغال في الفُحش، كقول الشاعر:
قلتُ لمّا رأيتها.. أسفَرَتْ لي: تنقّبي
لستُ واللّه مُدخلاً.. إصبعي جحر عقرب
يطول ذكر النوادر المتصلة بما سُميَّ «أخبار الخصيّ والمخانيث» كهذه الطرفة التي يحكيها إسحاق الموصليّ: «نظرتُ إلى شاب مخنَّثٍ حسن الوجه جداً قد هلب لحيته فشان وجهه، فقلت له: لم تفعل هذا بلحيتك، وقد علمت أنّ جمال الرجال في اللحى؟ فقال: يا أبا محمد، أيسرك بالله أنّها في استك؟ قلت: لا والله فقال: ما أنصفتني، أتكره أن يكون في استك شيء وتأمرني أن أدعه في وجهي! ». وأخرى يذكرها الجاحظ: « تواصف قومٌ الجماع، وأفاضوا في ذكر النساء، وإلى جانبهم مخنّث فقال: بالله عليكم دعوا ذكر الحرّ لعنه الله! فقال له بعضهم: متى عهدك به؟ قال: مُذ خرجت منه.»
لعلَّ حديث الجماع هو أكثر ما ترد في شأنه الطرف والنّوادر، وتعجّ بذكره المجالس متى خلا كل امرء ببني جنسه. وتُروى في هذا قصصٌ تُعدُّ اليوم مكوّنا للتراث الشعبيّ؛ كقصّة الرجل الذي أتى ماعزًا أو كلبة، فأطبقت عليه حتى استحال الفصل بينهما واُقتاد ملتصقًا بها إلى المستشفى. ونجد في البيان والتبيين نادرةً شبيهة بهذه، ولعلّها قد تكون أصل الحكاية المتواترة منذ أزمان وأحقاب، إذ يُحكى «أَنّ رجلاً أشرفَ على رجل وقد ناك كلبةً فعقَدت عليه، فبقي أسيراً مستخْزِياً يدور معها حيث دارت، قال: فصاح به الرجل: اضربْ جَنبَيها، فأطلقته، فرفَعَ رأسه إليه، فقال: أَخزاه اللّه أيُّ نيَّاكِ كلْباتٍ هو.»
وجلُّ نوادر الجماع متصلة بتصابي العجائز والشيوخ، وما كان مُستهجنًا من أحجام الأعضاء، وما كان غريبًا من الأفعال عن هذه الممارسة. كقصّة امرأة توصف بالمجون، تُكنّى سلامة الخضراء، يقول الجاحظ عنها أنّها «أخذت مع مخنث وهي تنيكه بكيرنج» (والكيرنج شيء مصنوع من الجلود يشبه ذكر الرجل) فرُفع أمرها إلى الوالي فأوجعها ضرباً وجعلها تطوف على جمل حتّى قالت «ما في الدنيا أظلم من الرجال، أنتم تنيكونا الدهر كله فلما نكناكم مرة واحدة قتلتمونا.»
في اقتران الإضحاك بالأساطير الجنسيّة
عادةً ما تُساق أحاديث الجماع بشيء من المبالغة ونسج الأساطير، وفي هذا مادّة خصبة لنشوء النوادر واستدعاء الهزل. فيجتمع في ذلك النّاس، كاجتماعهم اليوم في المقاهي، وتدور الأحاديث عن التغنّي بالفحولة والرجولة مُفاخرين بما أنعم عليهم الله من سعة الحجم وطول الأنفاس، حتّى لَتُحاك القصص عن كرم منزلة الأعضاء في الوصل والجماع.
وشبيهٌ هذا بحكاية رجل لمح امرأة جميلة في دارها رجل دميم يأمر وينهي، فخاله بادئ الأمر عبدها. ولمّا سألها عنه قالت هذا زوجي. فقال: يا سبحان الله، مثلك في نعمة الله عليك تتزوجين مثل هذا؟ فقالت: لو استدبرك بما يستقبلني به لعظم في عينك. ثُمّ كشفت عن فخذها فإذا فيه بقع خُضر، فقالت: هذا خطاؤه فكيف إصابته.
كثيرةٌ أمثال هذه النوادر في عِظَم حجم الأير وصِغَره. ومنها ما يتصّل بما يُرغِّبُ في الزواج أو يصدُّ عنه؛ كقصّة العجوز التي رغّبت امرأة في الزواج من رجلٌ لأنها «رأته يبول يوماً فرأت بين رجليه رجلاً ثالثة» وإنّما قالت قولها هذا لُقاء ألف درهم أخذتها من ذاك الرجل. فلمّا كان الزواج، لقيت المرأة منه غير ما وصفته لها العجوز، فامتعضت منها وقالت «بكم بعتيني يا لخناء؟ قالت: بألف درهم. قالت لا أكلتيها إلا في المرض.»
وللعجائز نصيبٌ من هذه القصص إذ يُذكرن دائمًا بتلفّظهنّ بكل شنيعٍ، واحجامهمنّ عن كُلفة الحرج. وفي هذا الشأن نادرةٌ، قد يَصعب التسليم بصدقها، عن فتاةٍ تحاشت الزواج خوفًا مما وصفته من أنّ للرجل المتقدّم «أيراً عظيما وأخاف ألا أقوى عليه..فأخبرت الأم الفتى فقال: أنا أجعل الأمر، إليك تدخلين أنت منه ما تريد وتحبسين ما تريد. فأخبرت الابنة فقالت: نعم أرضى إن تكفلت لي بذلك[..] فلما كانت ليلة البناء قالت: يا أمه، كوني قريبة مني لا يقتلني بما معه [..] فقبضت الأم عليه وأدنته من ابنتها فدست رأسه في حرها وقالت: أزيد؟ قالت: زيدي. فأخرجت إصبعاً من أصابعها فقالت: فقالت: يا أُمه زيدي. قالت: نعم. فلم تزل كذلك حتَّى لم يبق في يدها شيء منه، وأوعبه الرجل كله فيها، قالت: زيدي. قالت: يا بنية لم يا أُمه يبق في يدي شيء. قالت بنتها رحم الله أبي فإنّه كان أعرف الناس بك، كان يقول: إذا وقع الشيء في يديك ذهب البركة منه. قومي عني!.»
لا يقتصر ذكر الأير في النوادر على ما اتصل فقط بفعل الجماع، بل قد ترد الطرفة في علاقة بقرب الكلمة مما شابهها من ألفاظ أخرى. وهذا أمرٌ دارجٌ اليوم إذ يُعرف في تونس مثلا بالـ«غشّة» أيْن يُلمَّح بكلمة دارجة القول إلى أخرى ماجنة المعنى، وقد تستبدل في ذلك الحروف. وتَعمُّ الغشّة في العروض الهزليّة. والأشدّ إضحاكًا أن يَرِد الزلل دون قصدٍ من صاحبه، لاسيّما إن كان المرئ من أصحاب الوقار. وفي البيان والتبيين نادرةٌ أُرادَ بها الهزل ممن كانت بهم لكنة في النطق، فمتى أرادوا كلمةً بدرت منهم أخرى؛ «فأمّا لكنة العامّة ومن لم يكن له حظّ في المنطق فمِثلُ فيل مولى زياد فإنّه مرّة قال لزياد « أهدوا لنا همَارَ وهَش» يريد حمار وحش. فقال زياد ما تقول ويلك! قال «أهدوا إلينا أيرًا» يريد عيرًا. فقال زياد الأوّل أهون! وفَهِم ما أراد.»
في العموم، ليس المُراد من هذا الحديث، أن ندعو إلى رفع التكاليف وقلب المُقرَّرات، لا سمح الله، وإنّما هي دعوة إلى قراءة ما خطّه الأسبقون، وما زخرت به كتب الأعلام التي نعدّها مصادر أنفسنا الحديثة. وأنّ نعلم أن المتقدمين كانوا أمثالنا بشرًا، لهم أحاديثهم ولهم نوادرهم، ولهم مجالسهم التي لا تشذُّ عن مجالسنا في شيء. وأنّ صبغة العفّة ووهم رقيّ الألفاظ الذي تسوّق به كتب القدماء، إنّما هو من تدبير المُحدثين وهيامهم بخيالٍ لم يكن له وجود.
أحمد محجوب
طالب فلسفة بجامعة بلد الوليد (إسبانيا)