يُخيَّل إليَّ دائماً أنّ شخصيّة أبي هريرة التي اخترعها الأديب التونسي محمود المسعدي، في رواية حملت اسمه عنواناً، قبل أكثر من سبعين عاماً، هي ذاتها، شخصية الكاتب والرحالة والفنان الفرنسي هنري غوستاف جوسو (1866 – 1951). يصف المسعدي شخصيته العجيبة، في فصل بعنوان “حديث الشيطان”، قائلاً: “كان أبو هريرة كالماء يجري، لم نقف له في حياته على وقفة قَط. كالمستعد إلى الرحيل لا ينقضي عنه الرحيل”. في بضع كلمات شديدة الإيجاز والبلاغة، يلخص الكاتب حياة جوسو. ولا أستبعد – من باب الرجم بالغيب – أن يكون المسعدي قد تعرّف على جوسو خلال مقامه بتونس وترحاله في شمال إفريقيا بحثاً عن نفسه التي ضيعها، وأقله، أن يكون قد تعرف على سيرته، بوصفه أحد نجوم عصره من العصاة الذين رسموا بدائل للثقافة السائدة حينذاك.
كانت شهوة جوسو إلى الرحيل، ليست شهوة سائح يريد الخلاص من المكان، بقدر ما كانت شهوة ذات تسعى للتحررّ. وهي في ذلك امتداد لنزوع ثوري عبّر عنه منذ طفولته في مدينة دِيجون الفرنسية، التي ولد فيها ربيع العام 1866، في بيت برجوازي تعلم فيه أصول الرسم، الذي فُتن به باكراً، لكن نزوعه المتمرد جعله يتجه نحو الكاريكاتور، بوصفه فناً جديداً أكثر قدرة على نقد السائد. وقد بدأ مسيرته الفنية والسياسية رسمياً بدايةً من عام 1886 في الصحافة المحلية ثم الباريسية، لكن العلامة الأكثر بروزاً في هذه الفترة كانت إطلاق المجلة الفرنسية الساخرة “طبق الزبدة” (L’Assiette au beurre)، التي لم توفر أحداً من نقدها اللاذع. ركب جوسو سفينة طبق الزبدة منذ انطلاقها، وشرع في نهج جديد من النقد الكاريكاتوري مستهدفاً، من خلال 300 رسم نشرت بين 1901 و1907، كبار البرجوازيين وضباط الجيش ورجال الدين ومصفوفة الأخلاق المُهيمنة. خلال هذه الفترة بلغت شهرة جوسو ،فرنسياً وأوروبياً، أوجها، لكنّه كان تائهاً. تجربة أبوةٍ قصيرة انتهت بوفاة طفلته الرضيعة على نحو مفاجئ، دفعته للانسحاب من الضجيج. في هذا الحيزّ المأزوم من حياته، اكتشف جوسو العزلة، وحين وجدها وجد نفسه والإيمان. ولد إيمان جوسو بمعنىً ما للحياة، من بعد مسيرة فوضوية أقرب إلى العبث، في صورة شرق/ جنوب بسيط ساكن ودافئ، بوصفه نقيضاً للمدينة الأوروبية البرجوازية الباردة، لظلال الأزمة الضائعة في الأمكنة الخطأ.
***
مثقلاً بإيمان يُكلّله الكثير من الغبش، تدحرج هنري جوسو إلى الجنوب، قاصداً مستعمرات بلاده في الشمال الإفريقي، عند مطلع القرن العشرين، طالباً المستقر، وذلك بعد رحلات خاطفة تردد فيها على تونس والجزائر، عندما كان صحفياً في جريدة “طبق الزُبدة”. بعد رحلة ثانية قادته إلى تونس بين نوفمبر 1904 وأبريل 1905، زار خلالها مدن قفصة وقابس في الجنوب ومدينة الحمامات على الساحل الشرقي، عاد جوسو إلى باريس برواية تحمل عنوان “لحم برجوازي”، كشف فيها ولعه بالشرق الروحاني وسلخ فيها الاستعمار ونخبه بإبرة نقده العابث. لكنه بدايةً من عام 1912 سيستقر نهائياً على هضبة سيدي بوسعيد، بضواحي مدينة تونس، ممارساً الرسم ومختلطاً بأهالي المستعمرات من المسلمين. يقضي سحابة نهاره في التنقل بين الزوايا الصوفية والمساجد المتناثرة على أبواب المدينة القديمة وداخلها. كان سعيه، بحثاً عن معنىً ما، لم يكن هو نفسه مدركاً إياه بقدر ما كان مدركاً للنقص الذي خلفه ذلك المعنى في نفسه، وقد جاوز الأربعين ببضع سنوات، متجهاً نحو كهولةٍ بلا يقين.
ما لبث هنري غوستاف جوسو في تونس أن حوّل ولعه بالشرق إلى اعتقاد، وذلك باعتناقه الإسلام وتسمية نفسه “عبد الكريم”. يقول جوسو عن تلك البدايات المتوهجة لتونس والإسلام:”إن المنازل تستهوي قاطنيها بما يُتيح لهم تحت أديمها من أفانين السعادة. والسعادة لها نوعان قرينان. سعادة أرواح وسعادة أشباح. بينهما من التفاوت كما بين النار والنور والظل والحرور. وقد صادفت أثناء إقامتي في القطر التونسي سعادةً لنفسي وراحةً لفكري من نصب وكفاح مارسته عقدين من السنين، أعني حين قرّ قراري وسكنت نفسي وإنقاد ضميري لاتباع دين الهدى وشريعة الإسلام فصار هذا القطر حينئذ وطناً للنفس تحن إليه وترفرف بأجنحتها عليه (…) أدعوه قطر السعادة”. لم تكن تلك الخطوة بعيدةً عن معاول نقد الصحافة الباريسية والصحافة الفرنسية في تونس، التي رأت في ذلك ردةً لا تغتفر تصدر عن رجل وهب ثلاثة عقود من عمره للدفاع عن العلمانية والحرية والفوضوية، مواجهاً الدولة والكنسية والطبقة المهيمنة بلا هوادة. كانت الحملة عنيفةً، ما دفع جوسو إلى نشر كتاب “تحوّلي”، صدر في تونس بالعربية تحت عنوان “اعتناقي للإسلام” في عام 1913. في مقدمة كتابه يشرح جوسو دواعي التأليف قائلاً:”تقولت عنيّ بعض الصحف الفرنسوية عندما اعتنقت دين الإسلام، أنني أريد تمهيد السبيل للتزوج بأربع نساء وامتلاك ما أشاء من الجواري، سبحانك هذا رجم بالغيب وقذف بالبهتان (…) وجدت في الإسلام ديناً سمحاً، سهل المأخذ، بيّن العقيدة، واضح البرهان، مجرداً من الغموض، لا يفتقر أتباعه في عبادة خالقهم إلى واسطة ما ارتضيته لنفسي والحمد لله أن صرت من المسلمين. لقد كنت بادئ بدء مريداً لتقليد أسلافي الكاثوليكيين (…) بعد ذلك مكثت عشرين عاماً أبحث عن الدين الحق …فاتفق لي في أواخر هذه المدة أن جبت بعض الأقطار الإسلامية، فأثّر جمال حياة أهلها تأثيراً عظيماً على قريحتي النفسية، استهوتني محاسنها إلى أن اندفعت للبحث في شؤونهم، إجمالاً وتفصيلاً، وإذّ ذاك أخذ دين الإسلام يستميلني شئياً فشئياً إلى أن تجلى اليقين أمام عيني.”
الكتاب رحلة ممتعة يروي خلالها جوسو حكايته مع البحث عن المعنى. حكاية ولدت في لحظة الفقد. عندما توفيت طفلته الوحيدة، ساقته الأقدار يوماً إلى حي مونمارتر، في أعالي باريس، عندما وجد خلف زجاج مكتبة صغيرة عدداً من “المجلة الروحية”. بضع ورقات تصدرها طائفة مسيحية باطنية تدور طقوسها حول التواصل مع الموتى. كان جوسو يمنّي النفس بلقاء طفلته في حيز برزخي يفصل بين دنيا الناس وآخرتهم، لكن سعيه مع الطائفة خاب، وعمّقت الخيبة تعلقه بالصغيرة على نحو أشد شوقاً. دفعه ذلك إلى إتباع طائفة أخرى وهكذا حتى وصل به المُقام لتونس. يحكي جوسو عن بدايات استقراره بسيدي بوسعيد قائلاً:”إن سيدي بوسعيد هو المكان الذي يلجأ إليه الأثرياء التونسيون زمن الصيف وقلما يوجد بينهم أوروبي، وهو مكان معتلٍ على كدية متدرجة، والمنزل الذين سكنت فيه كائن قرب الناظور لا يواجهه إلا ما لا نهاية من السماء والبحر. كنت أقضي في هذه الخلوة أزمنة هنية، لأن العرب أناس كرماء النفس، فأثرت عليّ جيرتهم وأخذت أتفكر في عيش الشرقيين، مسلماً للقضاء والقدر، وبعيداً عن الترقي العصري”. ثم يسترسل في فصل مستقل في سوق النصائح إلى التونسيين – مسلمين ويهود – بالمحافظة على عاداتهم الثقافية والدينية، بوصفه قادماً من “المستقبل”، يحذرهم مما قد تجره عليهم “الحضارة الحديثة الزاحفة التي تلتهم الأرواح والنفوس وتقدس الأجساد والموجودات”. لكن الكتاب لا يخلو من “شدة البدايات وحماسها”، حيث يدخل جوسو في سجالات مع رؤوس الكنيسة الكاثوليكية في تونس ينزع فيها أحياناً إلى تطرف لغوي.
مجبولاً على الرحيل، يدخل هنري غوستاف جوسو تجربةً جديدةً بدايةً من منتصف عشرينات القرن العشرين. في سيدي بوسعيد ربطت بينه وبين محمد الهادي (1872-1922)، أحد أبناء خير الدين باشا، الوزير السابق لباي تونس والصدر الأعظم للسلطان العثماني صداقة متينة، كان مدارها الحديث عن التصوف وتزكية النفسّ. غنِم محمد الهادي من ترحاله الطويل بعد أن نُفي والده خارج البلاد، مخالطة طائفة من شيوخ التصوف في المشرق والمغرب. فبعد أن درس العلوم العقلية في باريس، توجه لدراسة العلوم الشرعية على الشيخ محمد بن جعفر الكتاني في المغرب الأقصى. عاد إلى اسطنبول بعد ثورة تركيا الفتاة عام 1908، وأصبح مقرباً من الشيخ شرف الدين داغستاني (1875-1936)، شيخ الطريقة النقشبندية، ثم قادته الأقدار إلى معرفة زوجين فرنسيين من أتباع الطريقة العلاوية، نسبة للشيخ أحمد العلاوي المستنغانمي، عام 1924، فشرع في التواصل معه مكاتبةً ثم قصده إلى مستغانم وأخذ عنه عهد الطريق. يقول الشيخ العلاوي في إحدى رسائله لمريده الجديد:” وبعد ما تفرست في مخبآته وتتبعت ملحوظاته أسفرت النتيجة على ما ينبئ بمكانتكم وسلامة ذوقكم ولا شك أنه سائق السعادة كانت ركبته في فطرتكم يد العناية الإلهية في الأزل و إلا لما تسنى لكم التزحزح ولو قدر شبر عن المعتقدات القلبية والمعتادات النفسية ولكن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ولهذا فإني أحمد الله لكم بكل لسان ونعتبر مكانتكم عند الله بكل جنان ونتمنى الاجتماع بكم في أقرب زمان”. وقد خرج جوسو من هذه التجربة الصوفية، شأنها شأن التجربة الإسلامية، بكتاب وضع فيه حماسة البدايات وتوهجها تحت عنوان “طريق الله”، لن ينشر في فرنسا إلا بعد حوالي عشر سنوات من كتابته.
***
إلى جانب هواجسه الروحية، كانت يوميات جوسو في تونس يسودها هاجس اجتماعي مداره الاندماج في جماعة الأهالي، لكأنه واحدُ منهم. فهذه الحالة الاجتماعية الحميمة، هي التي قادته إلى الإسلام ديناً ومعتقداً. يذهب المؤرخ الفرنسي، ألان مسعودي، في دراسة نشرت عام 2021، ضمن كتاب جماعي “المتحولون إلى الإسلام (1100 – 2018)” إلى أن “جوسو وزوجته وابنة أختها، التي تبناها الزوجان، قد حافظوا على علاقات وثيقة مع جيرانهم المسلمين، في سيدي بو سعيد أو الحمامات، حيث عاش جوسو لبضع سنوات. لذلك سنرى الأهمية التي يمكن أن تمثلها علاقته مع محمد الهادي نجل الوزير خير الدين لمساره الروحي. كما يؤكد زواج ابنة أخت جوسو، ماري المعروفة باسم مريم، من مسلم تونسي، هو حمودة الاسكندراني (1892-1970)، المقرب من حركة الشباب التونسي، والذي تقدمه مصادر الشرطة على أنه مرتبط بمصطفى صفر وحسن قلاتي (1880-1966) الأعضاء في الحزب الحر للدستور، الفصيل السياسي الذي تأسس عام 1920 للمطالبة بإعادة تفعيل الدستور التونسي بهدف استعادة الاستقلال. كما أن جوسو نفسه قد نشر مقالات في جريدة La Voix du Tunisien، وهي صحيفة دستورية يديرها الشاذلي خير الله”.
ويقول مسعودي في دراسته عنونها بـ: “من رسام كاريكاتير إلى ناسك سيدي بو سعيد: جوسو أو اهتداء فنان” إن جوسو يرى أن الإسلام كدين يدعو إلى المساواة، لذلك فإن اعتناقه الإسلام كان بمثابة الانتقال من معسكر المستعمرين، إلى معسكر المضطهدين الذين دافع عنهم منذ 1890 من خلال رسومه الكاريكاتورية. في الواقع، كان اختياره لإعلان تحوله بصوت عال وواضح، بعد عامين من أعمال الشغب في مقبرة الجلاز، موضع إدانة شديدة في أعمدة صحيفة La Tunisie française، وهي صحيفة كاثوليكية محافظة ترفع شعار الدفاع عن مصالح المستوطنين. ورأى الصحفي أرماند رافيليه، الذي درس في مدرسة الفنون الجميلة في باريس قبل أن يمارس مهنة في الصحافة، أن ما قام به جوسو “إنكار غير لائق للوطن”.
لكن هذا الإنكار للوطن، ما لبث أن تحول عام 1927 إلى إنكار لكل شيء. يستدير الزمان دورةً كاملةً معلناً نهاية رحلة الفنان الفرنسي في عوالم الإسلام. في ذلك العام يرسل جوسو إلى صديقه الفيلسوف الأناركي هان راينر طالباً العون في نشر كتابه “الجنين المتمرد”، كاشفاً أنه لم يعد ينتمي إلى أي دين: “لقد درستها جميعاً، لكن بغض النظر عن مدى ثقل مشاعر الذنب على نفسي، لم أتمكن من الإيمان بها”. لكن ألان مسعود يؤكد أن خروج جوسو من الإسلام، لم يكن حائلاً بينه وبين الوفاء لاعتقاده الصوفي، لكنه عاد إلى ملابسه الأوروبية وخلع عنه الجبة والشاشية التونسية وشرع في العودة إلى الكاريكاتير بقوة، تاركاً قبل وفاته عام 1951 تأملات في شكل مخطوطة مطبوعة، بقيت غير منشورة بعنوان “قطرة، قطرة” يقول فيها: “بينما تمتلئ الساعة الرملية للزمن شيئًا فشيئًا ، تتدفق حياتي قطرة تلو الأخرى وكل واحدة من هذه القطرات تهون خيبة الأمل، واليأس، والحزن، والخراب، وكل ما يضفي سحرًا على الوجود. ها أنا عجوز ، كبير في السن، رغم أنني ما زلت متيقظًا وبصحة جيدة؛ أمسح عن وجهي قطرات العرق التي سببتها موجة الحر في الصيف الخامس والثمانين. هل سأتعرق لفترة أطول؟ متى سأكون “بارداً”؟ أنظر ورائي: أرى أولئك الذين عرفتهم من قبل. كل شيء قد توقف. يا لها من مقبرة! … أحاول إعادتهم للحياة واستعادة وقت لن يعود. إنه عمري. على حافة نهاية الحفرة، هذه الحفرة الشهيرة التي سنسقط فيها جميعًا، يبدو لي أن إنفاق الطاقة، والعمل، والعجلة، وكل الزحام والضجيج الذي ينغمس فيه الرجال لكسب المال، أو ببساطة لقتل الوقت، لا طائل من ورائه الآن. لماذا نتسبب في الكثير من المتاعب لأن كل تعبنا يجب أن يدفن معنا في نهاية الحفرة؟ “عند حفرة النهاية”، علمني شيخ مستغانم أن بعد وفاتي، يسري بريق خافت، فيما يتحرك وعيي نحو النور العظيم للعالم اللانهائي. من ناحيتي، إذا كانت لدي الحرية في الاختيار ، فستكون هذه الفرضية الأخيرة هي التي أفضلها: أن أتوقف عن الوجود، وأتوقف عن رؤية أي شيء، وألا أسمع! “.
ربما تبدو النهاية عبثيةً فارغةً من المعنى. لكن ذلك الفراغ هو ما كان ينشده هنري غوستاف جوسو منذ سلوكه طريق البحث عن المعنى. أي أن الطريق نفسه هو المعنى وليس الوجهة، وهذا هو عين التماثل الذي قصدته أعلاه، بالتطابق العجيب بين شخصية أبي هريرة، التي اخترعها محمود المسعدي، وبين جوسو، وخلاصتها قول المسعدي على لسان ريحانة رفيقة أبي هريرة وهي تصفه للراوي:” كان دائم التوق إلى الشمس، دائم الخوف من طلوعها. ويقول: إن استطعت فاجعل كامل حياتك فجراً”.
أحمد نظيف