جذورُ الألفاظ العربيّة هي المِفتاحُ والزّادُ الوافرُ الذي استندتْ إليه المؤرّخة الفرنسية، أستاذةُ الدراسات العربية في جامعة باريس الثامنة، جاكلين شابي (1943-…) قارئةً مدونةَ الإسلام الأول، القرآن، في كتابها “ربّ القبائل، إسلام محمّد” (صدر أوّلا بالفرنسيّة عام 1997، ومن ثم أعيد طبعه عام 2010. نُقِلَ إلى العربية عن دار الجمل 2020).
يتمحور شغلُ شابي الأساسيّ حول محاولة ردّ ألفاظ الآيات المُشكِلةِ في المدونة الكبرى إلى فضائها الأولِ، فضاءِ الصحراء والقبائلِ، ثم استكشاف ما يمكن أن تنتجه هذه الألفاظ في مهودها من معانٍ جديدة أو تصورات، وربما من خلال تناصّات لغوية أو مفهومية وردت في نصوص مقدسة مؤسِّسة، وتحديدا نصوص العهدين؛ “البَيْبل”.
أوّل ما يلفتُ الانتباه في اشتغالات شابي (أغلب أعمالها لم تنقل إلى العربية حتى اليوم)، وربما في أشغال غربيين كَثير على المدونة الإسلامية، هو التحرُّرُ من ضغطِ السردية والقصص والاعتقاد الإسلامي القرآنيّ، الذي غرسهُ الفقهاء والمحدّثون والفلاسفة طوال قرون، بدءا من الحقبة العباسية.
تلك السرديةُ، وإن حاول نقادٌ ومفكّرون عرب وإسلاميّون معاصرون اجتنابها، فإنها، في الأعم الأغلب، ما تلبث أن تبرز مبطنةً في ثنايا خلاصاتِهم، كأنهم أسرى هذا الميراث الكتابي، وقاصرون، على نحو متفاوت، عن اتّباع الصرامة المنهجية من خلال فكّ أسر المدوّنة المؤسِّسة، مما تلاها من تصوّرات، هي في النهاية “قراءةٌ” من القراءات، ووجه من الوجوه التي يبرزها النصّ.
تطرحُ قراءةُ المدونة الإسلامية، المسموعة أوّلا في إحدى القريتين، مكة، في الصحراء، وبين العشائر والقبائل، المتلقين الأوائلِ، عبر ردّها إلى فضائها، بمعزل عن الفضاء الحضري، فضاءِ المدن المفتوحة في فارس والشام والعراق ومصر والمغرب والأندلس…
نقولُ تطرح قراءَتُها رهانات تعيد فتح مسارات تأويلية يحتملها منطوقُ النصّ ويؤيّدها اللسان العربي، ونعني المعاني فهمتْها القبيلة مباشرة بعد فعل القول. في مسارٍ قرائيٍّ من هذا النوع، تهمينُ موادُّ اللغويين من أمثال ابن دريد (223- 321هـ)، وابن منظور (630 – 711هـ)، وسواهم، موادّ المؤرخين والفقهاء والمحدِّثين، بوصفها تفصح عما تُفيده التراكيبُ في مهدها المحمّديّ، إذ تُبرز المعنى صقيلا بردّ اللفظ إلى إمكاناته المُحتَمَلة؛ فكأنّ هذه الموادَّ اللغوية التراثية هي الجسرُ الفعليّ، والصلة بين قارئي المدوّنة الرئيسة البديعةِ، وبين الأحداث التي بلورَها الوحي في مَطالعه.
غير أنَّ “الهستوريغرافيا” الكلاسيكية ليست، بحال من الأحوال، مُقْصاةً من شغل شابي، بل إنّ آثار الأحداث التي جرَت في مَهْد الوحي، هي بالضرورةِ مستبطنةٌ في جوفها، على نحو أقربُ إلى التَّشظية، أو كإشاراتٍ يمكنُ من خلالها الوصولُ إلى فَهم أعمقَ للسيرةِ، بالتجميع والإقصاء وحذف المبالغة وكشفِ ما حُمِّلتْهُ هذه الأحداث من تصوّراتٍ لدواعٍ لا تتصل بالوَاقعيّة الحدثيّة.
تعيد الجذور، طوال مدار صفحاتِ الكتاب بناءَ الممكن من الأحداثِ، بمعزل عن وطأة السردياتِ الكبرى، كسرديةِ الطبريّ (224 – 310هـ) مثلا. فالقراءة بعينِ المؤرخ – الفقيهِ لا تستقيم بغير جَهد ينبغي أن ينصبَّ في عملية نزع طبقاتِ التفسير عن المعنى المحايثِ في مهدهِ المسموع، أي في القبيلة بين الأقران والأعداء والخصوم الطبيعيّين، وبالإيقاع اللغويّ الذي يُفهم من مرادِ النصّ حين أوشك أن يغدوَ منطوقا.
يقومُ الرهانُ فقط على ما تؤديه الجذور من معانِي حاضِنتِها السّحيقة الأولية، وتُوضَع الرهاناتُ الهستوريغرافية، الـما بعد قرآنية، في سياقِ عملية “ترويجية” ينبغي الحذر الشديدُ في التعامل معها تفسيريًّا، كمعبر إلى النص الذي تدَّعي أنها تكشِفه، إذ هي عمليًّا تحجبُهُ.
مثالا لا حصرا، يَبرُز هذا المنهج جليًّا في شغلِ شابي أثناء البحث الحفريَّ على مادّة الطبري الخبرية في نقله خبر وهب بن منبه (34 – 114هـ)، وأبان بن عثمان (ت 105هـ)، في ما يتّصل بقصة هبوط آدمَ على الأرض وصلته بالحرم المقدس مكّة. سيفرضُ الخبر منطقه، وذلك قبلَ كلّ شيء، باللعب على النقاط المشتركة(…)، وموضوعُ حرمة مكة يبدو أنه أصبح بسرعة موضوعاً متواتراً في التصور القرآني من خلال التوسع فيه انطلاقا من مقاطع قديمة جدًّا كالتي نجدها في قصار السور(…) ص191.
لا تقتصِر هيمنة الهستوريغرافيا الإسلامية، الـما بعد قرآنية، على أرضية القراءات القرآنية التي يُجريها باحثون مسلمون معاصرون مرموقون، بل إنَّ تأثيراتها تلوح حتى في أعمال آخريين غربيّين. تُلحَظُ هذه التأثيراتُ في ترجمات القرآن التي أجراها ويجريها هؤلاء، وهذا ما تدأب شابي، سبّاقةً، على كشْفه في غير موضع من بحثها، كترجمات دي بيبرشتاين كازيمرسكي (1780 – 1865)، وريجيس بلاشير (1900 – 1973)، ورودي باريت (1901 – 1983)، ودونيز ماسون (1900 – 1974)، وسواهم (انظر في الكتاب تعليقاتِ شابي الثمينة على ترجماتِ الآية الثالثة من سورةِ الكوثر، إنَّ شَانئَكَ هوَ الأبْتَر، وهي أقصر السور، ومن أقدمها، وخصوصا المعاني والتصورات التي يطرحُها وصف “أبتر”).
انشغال صاحبة “لقد فقدنا آدم: الخلْق في القرآن؛ صدر بالفرنسية عام 2019) بالجذور، لا يقف عند المدوّنة الأمّ، لتُبرزَ خلاصات كانت محجوبة في ما يُنتج من أشغال جدّية موازية على النصّ، بل تمتد إلى حد مساءلة بعض مواطن ترتيبِ الآيات\الكرونولوجيا المتواضَع عليها؛ فأي احتمالِ معنىً جديد ربما يخلطُ الحدث، ويعني تشكيل الصورة الجديدة.
يظهر ما سبق مُتسقاً عند شابي ترافقه معارف غزيرة بما تحيل إليه الجذور في المدونات التوحيدية الموازية، بل حتى في الفضاء اللساني الموازي كله، الذي هو، بوجه من الوجوه، بمنزلةِ طفولة الألفاظ التي نزّلَ بها القرآن. فما يحيل إليه، مثالا لا حصرا جذرُ “السكينة العربي” من هدوء وسكَن، كما في “أنْ يأتيَكمُ التابوتُ فيهِ سكينةٌ مِنْ ربِّكم، البقرة248″ ، لا يمكن بحال من الأحوال، إلا أن يُرى متداخِلا مع لفظ “شكينه” العبريَ التوراتيَ من معنى حضور يهوه بين قومه، والذي يتعلق بالتابوت. فذلك “يندرجُ في منطق المعنى التوراتي الأصلي، وهذه لا ينطبق على كلّ الاستعمالات الأخرى التي ربما تمازجت مع المعنى العربي للفظ سكينة” ص355.
تؤسِّس جذور الكَلِم الملفوظِ، التي يمكن عدُّها ميراثا لغويًّا غير قابل للحصر، رهاناتٍ ثمينةً وجديّة للكشف عن المعنى الأوّل؛ ولكنها، بالنتيجة، رهانات اللغةِ العربية نفسِها، بوصفها تسبحُ في ماض سحيقٍ، وفي دوائرِ ما يوازيها من اللغات الأمّ، وذلك بالتحديد ما ليس بمقدور قارئ المدوّنة أن يُغفلهُ، لناحية توسيع مساحات الغموض التي يفرضها الجذرُ على السياق الأولِ المنطوق في رحمه الاجتماعي.
كشْفُ النصّ باللغة والجذورِ قد يكون متعذّرا من دون إقامته، مرارًا وتكرارًا في إطارٍ خلفية هي نصوص الكتابِ المقدس، ومن ثمّ مجمل المصادرِ الساميّة الأولى، إذ إنَّ بناءَ المعنى – الحدث المنبثق من الوحي هو تذكرة مسموعة يتردد صداها بالضرورةِ في تلك المصادر التي نجهل اليوم، الطرقَ والفِجاجَ والسياقاتِ التي أنبتتْها في الصحراء وحداتٍ لغويةً بيانيّةَ فائقةً في مطلع القرن السابع من الميلاد.
حسن نصّور (لبنان، 1985)
كاتب وشاعر لبنانيّ مهتمّ بالموروث الإسلامي. صدر له في الشِّعر “باب النون” (2016) و”الخزائن” (2017) و”مريم” (2022)، وفي النقد “هوامش على متون أبي زيد” (2018) وتحقيق كتاب “ترجمة المتنبي في أعيان الشيعة” (2022).