(…) وَاجْعَلْ فِطْرَكَ الموتَ، فَكَأنْ قَدْ صِرْتَ إليْهِ.
(داوود الطّائي\ت165هـ)
1
الفقدُ عَيْنُ الفَاقدِ؛ أعنِي آلَةَ الإبصَار والذَّرْفِ والدَّهشة. الأوصالُ مَوصُولةٌ مقطّعة. يُنجِزُ الفقدُ دورتَه في الجسمِ الأليم. القلقُ، مطبوعًا في بؤبؤ العينِ، حاشيةٌ من حواشِيه التي تقفلُ القادمَ من دقائقَ وشهورٍ، ولربّما سنين.
حتّى يحدثَ الفقدُ، ينبغي أنْ تَخْفِقَ العينُ. يَعْلقُ الجسمُ في الجِدارِ البلّوريّ، في الأمكنة التي هي برازخُ لتعريفِ الألمِ مرّاتٍ ومرّات. الألمُ: أنْ تَعلمَ العينُ ما يلتذّ بهِ الفؤادُ، أنْ تعمَلَ العينُ يقَظةً وموتًا، أنْ تلْمعَ العينُ، أبدًا، في الفراغاتِ التي تنبَّأتْ بها الوَسَاوسُ… أضغاثُ أحلامِ الليلةِ المنصَرمة.
2
الفقدُ فِنْدٌ منَ الجبالِ. الفقدُ بلا لونٍ، وله رائحةٌ. لا تقولُ هذه الصفاتُ شيئًا عن الفقدِ. قولُ الفقدِ ليس ممكنًا. ربّما أمكنَ الدورانُ من حوله، أو لحْظُ آثارِه إذ يفتكُ بالأعيانِ. كيف ندركُ الفقدَ؟ هل نقيمُ في المعجمِ الذي تضيئُه تلك الألفاظُ السارحة في صَحارَى الظمأ؟ هل نطرشُ الأرجاءَ بالعويل علّهُ يفتِّحُ لنا بالصوتِ بابًا إلى تعاليمه، ويُجَلّي ظلال ذاتِه التي لا سبيلَ لنا إليها؟
دليلُ الفقدِ أن تُغَيّبَ الأعْيانُ، فلا نَشْهَدُ وهم يَشْهدون؛ أن تُدفنَ الوُجوهُ؛ أنْ ينبلجَ خيط أسودُ مديدٌ من ألفاظٍ ثمينةٍ علقَتْ على الأثوابِ، وتفشّتْ روائحُها في النحورِ؛ أن تُسمَعَ أصداءُ كؤوسٍ غريبةٍ، ولا خمرةَ… إلّا ما يُزبدهُ خيالُ الشخص المحتجبِ في الوراء… في العتَمةِ؛ أن تتكوّمَ المتونُ في الحافظةِ كأنها حرفٌ مفردٌ أثقلُ من قافٍ، وأشفُّ من ضياءٍ، ولا يُنطَقُ… لا يُنطَقُ البتّة.
3
حتى هذه الكلمةِ – ومع حتى[1]». المفردةِ – لم أقلْ شيئا عن الفقدِ، ولا أشعر أنَّني قد دنوتُ من كهفِه المسْحور. حدّثني الأندلسيُّ، الجَوادُ، العارفُ بالنظائر والأضداد، مرةً، إذ استفتيتهُ في الفقد، فقال: اعرِفِ الحبَّ تعرفِ الفقدَ، وإنه ممَّا لا يِخفى على الفَطِنِ اللبيبِ. قلتُ: وما ذاك؟ قال: لأنَّ الحبّ للفقدِ كالظلّ لابنِ آدمَ. قلتُ: وكيف ترى إلى الحبّ عَلوقًا؟ قال: ما لَصقَ بأحشائيَ حبٌّ قطّ إلّا مع الزمنِ الطويلِ، وبعد ملازمة الشخصِ لي دهرا، وأخْذي معه في كلّ جدٍّ وهزْلٍ، وكذلك أنا في السّلوّ والتوقّي، فما نسيتُ ودّا لي قطّ، وإنَّ حنيني إلى كل عهد تقدَّمَ لي ليغصّني بالطعام ويشرقُني بالماءِ، وقد استراحَ من لم تكن هذه صفته، وما مللت شيئا قط بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس بشيء قطّ أول لقائي به، ولا رغبت الاستبدالَ إلى سبب من أسبابي مذ كنت، لا أقولُ الألفةَ والألّافَ وحدهم، ولكن في كلّ ما يستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعتُ بعيشٍ مذ ذقتُ طعم فراق الأحبّة، وإنه لشجًى يعتادُني وولوعٌ ما ينفكّ يطرقني، ولقد نغّص تذكّري ما مضى كلّ عيش أستأنفه، وإني لقتيلُ الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا، والله المحمود على كل حال، لا إله إلا هو.[2]».
إذن – والله المعينُ – الحبُّ للفقد كالظلّ لابن آدمَ. يختفي الظِّلُّ في رابعةِ النهار، إذ تستوي شمسُ الفَقدِ على رأس ابنِ آدم، فيتوارى الحبُّ في ذلك الشعاعِ العظيم.
4
تَسْهَرينَ فيَّ كاللّهَبِ في السِّراجِ
كالعِنَايةِ فوقَ المُسافر.[3]».
حتّى هذه الكلمةِ، ومع حتّى التي تَذبحُ، لم أقلْ شيئًا عن الفقدِ، ولا أشعرُ أنني قد دنوتُ. أَلزَمُ الأندلسيّ في حلّه وتَرحاله، ويسعفني إذ يقول: ما لصقَ بأحشائي حبٌّ قطّ إلا مع الزّمن الطويل. إذن، يلصقُ الفقدُ بالحشا حتّى ما يُدرى كيف السبيلُ. أقولُ: يَا وَيْلَتَا أيُّ شَيْءٍ\بَيْنَ الحَشَا واللَّهَاةِ[4]»؛ بئرُ غائرة لا يُعرَفُ ما تنطوي عليه، ظلماتٌ بعضُها فوق بعض.
في برزخٍ بين لفظتيْن، أحسِنُ تأويلَ ما ينبُتُ على عتَبَةِ الفقد؛ وُجُومُكِ الدّامِعُ الساحرُ، الخفَقانُ الذي يُضِلُّ دائرةً من الغرباء… على العتَبَةِ، لا تَحسُنُ الألفاظُ، كأنَّ الجسدين منكوبانِ بالتنفّس، بانعدام القدرةِ على تقدير قَوْلةٍ حتّى، من شأنها شحنُ العتبَةِ بالمصباح الأخير قبل الدخول. حتى يحدثَ الفقدُ إذن، ينبغي أنْ يُردمَ البرزخُ، أنْ يخْسرَ البرزخُ إمْكانَه، أن تُسيَّر بساتينُ الخيالِ إلى المكانِ المحدَّد، الذاكرةِ. ثمّ يحدثُ الفقدُ، إذ نَجوزُ العتبةَ إلى الداخلِ، وأعني السُّورَ الرماديّ الذي يفصل ما بين الحياة، والتفرّجِ على الحياة؛ ما بين الموتِ الذي يخفقُ ويجري، والتفرّج على الموتِ؛ ما بين التوجُّع المنهوبِ، وتوهّم العينين في مَسير الجلجلةِ الأليم؛ ما بين رصفِ اللحظة بملايينِ الجذورِ القلبيّة، والتفرّج على اللحظةِ من بعيدٍ كأنها متروكةٌ من مُهمَلاتِ السابلة المُهاجرين.
5
الفقْدُ أحوالٌ، ولا يلائمُهُ نَعْتُ الثَبات. كان الوجهُ يوقد المفرداتِ، ثمّ لا يسوقُها إلى مكان، تبقى معلّقة في الفراغِ عناقيدَ سُودًا. من ينقذُ اللاهثينَ؟ هل تفعلُ ذلك المفرداتُ؟ المفرداتُ التي تهندِسُ الوجودَ في الحيز الوقتيّ، في الحفرةِ التي دوّرَتها معاولُ الغيابِ. لا تنقذ المفرداتُ اللاهثين، بل تفردُهم بالوحدةِ، بالشَّقاءِ الذي هو، في العمقِ، سحابُ الخَسارةِ فوقَ المهاجِر. حتّى يحدثَ الفقدُ إذن، تُرصفُ المفردةُ المعْتَلّةُ المُعْوِلةُ فوقَ المفردةِ، في الخيالِ المحاصَر بالجِنّة[5]»، يستمعون إلى حفيف الحروف والتراكيب التي هي من حواشي الفقد…
كلُّ صَرْحٍ من المفرداتِ حاشيةٌ إلى يوم الدينونةِ.
6
خرجَ زيدٌ، ولم يعد(…). حتّى يحدثَ الفقدُ، ينبغي أن نقعَ في شركِ حتّى، في البُطءِ الذي يُفرِجُ المعنى من شقوقِه المُضلّة الصعبة. ينبغي أيضًا أن تحدثَ العودةُ، على نَعشٍ، على الكفوفِ، منْ مكانٍ نَضِرٍ منَ الذاكرةِ، منْ تفاصيلَ قديمةٍ تُضرمُها تسابيحُ الوجْهِ، وهي تطحنُ الأفئدةَ من حولِ ذلكَ الفتى القمَريّ الإماميّ.
خرج زَيْدٌ إلى البادية، بادِيةِ المَعْنى، ثمَّ جاءَ نَعِيُّهُ. لا تقولُ هذه الجملةُ، الآنَ – وأعني توًّا – شيئًا عن الفقد. لم يحدثِ الفقدُ بعدُ. وحتّى يحدثَ، ثمّةَ ظلالٌ ينبغي أن تغطّي القراءةَ، من المفردة الأولى حتّى النَّعيّ. ينبغي أن تُسمِعَ الجملةُ صوتَ الحشرجة الأولى في الحُلوق، حيث مقالعُ الفقد. وينبغي أن تصوِّرَ الجملةُ الفراغَ الذي نحَتَهُ الوقتُ المتباطِئ من حولهِ دوائرَ. هل خرجَ زيدٌ إلى البادية؟ هل جاء حقّا نَعِيُّ زيدٍ؟! يحدثُ الفقد في انشقاقِ اللفظةِ الأولى، لفظةِ الشَّاهدِ الشهيدِ الذي غَدا تصاويرَ تنضحُ بها حتى الأشجارُ. يحدثُ الفقدُ لا من النحيبِ أو من عوارفِ الدمع، بل من أنّ مغيبًا آخرَ لن يُسحَرَ على ذلك الوجهِ الفضِيل، أو إنّ وجهًا مفقودًا، هو وجه زَيدٍ، قد غدا والمغيبَ جوهرةً واحدة.
7
الفقدُ بابٌ.
أجثو على عتَبَةِ السورة السابعة[5]»، نوَّاحًا، ولا أدخلُ.
أعُوذُ بالوجه الذي طوتْهُ الحَسَراتُ، حتّى يسكنَ الرَّوْعُ.
تُرسَلَ المُفرداتُ على سجيّتها، دوّارةً، من حولِ ضريحِيَ السماويّ.
حسن نصّور (لبنان، 1985)
كاتب وشاعر لبنانيّ مهتمّ بالموروث الإسلامي. صدر له في الشِّعر “باب النون” (2016) و”الخزائن” (2017) و”مريم” (2022)، وفي النقد “هوامش على متون أبي زيد” (2018) وتحقيق كتاب “ترجمة المتنبي في أعيان الشيعة” (2022).