بدأ “جو” (اسم وهميّ) مغامراته اللعقيّة عام 2015، وضع قناعاً يخفي هويته، وأطلق قناة يوتوب باسم Licking guy، وبقيت هويته إلى الآن مجهولة، نقترح اسم جو، لتسهيل تداول اسمه في هذا المقال.
جو صاحب القناع، مهووس باللعق، بصورة أدق، يراهن على رغبة طفوليّة بالتذوق، وما يقوم به بسيط، يضع قناعاً وكاميراً (برو-غو)، ويدور العالم (أمريكا غالباً) ليلعق معالمه لا تلك الشهيرة كتمثال الحريّة، أو مبنى الإمباير ستايت، بل تلك التي يعدّ الوصول إليها مخاطرةً، إذ لعق السور الذي يفصل المنطقة 52 عن العالم، المكان المعروف بوجود كائنات فضائية وتجارب سريّة تقوم بها الحكومة الأمريكيّة، كما لعق جدار الفصل بين أمريكا والمكسيك، ولعق مرةً طائرة أباتشي في أحد القواعد العسكريّة، وحسب قوله، تم إطلاق النار عليه.
لا تتجاوز فيديوهات جو الدقائق الثلاث، يقوده فضوله ولسانه فقط، يقطع المسافات والأميال مملوءاً بحسّ التحديّ، ذاك الذي لا علاقة له فقط بطول الطريق أو وعورته أو صعوبة الوصول إليه، بل أيضاً بفعل اللعق نفسه، وهذا ما يفسر وجود القناع، لا حواس لجو سوى لسانه، لا نسمع صوته ولا نعرف ملامحه، هو يقترب من الممنوع، دون أن يهدده فعلاً، أي تكمن الخطورة في تفادي الشرطة ووعورة الطريق وجفاف الصحراء وحرس الحدود لا فعل اللعق نفسه، ذاك الذي يبدو حين تنفيذه مبتذلاً نوعاً ما، لكنه يخلق لذّة من نوعٍ ما، فأن تلعق طائرة أباتشي هو فعلٌ مثيرٌ للاهتمام وفي ذات الوقت، للرعشة.
خصوصيّة اللسان لدى جو تحوله من عضو ذوقي إلى عضو مفاهيميّ، هو ليس فقط لحماً تدلى بللاً، بل جهاز معرفيّ لاختبار قدرة الذات على المغامرة. إن كان “الذوق” معرفةً لا يمكن نقلها (جورجيو أغيمبين- عُري)، فإنّ التذوق واللعق الذي يمارسه جو، تجربة لا يمكن تكرارها، إذ يأخذنا في رحلة من نوع ما، يمسّ فيها اللسان، الأسفلت أو الإسمنت أو حتى الحديد، ليدلل احتمالاً يقع بعيداً في أقصى الرأس. احتمالٌ يمكن تجريبه إن حاولنا لعق تمثالٍ لجيف كونز في باريس، أو لعق لوحة لكارافاجيو في فيلا بورغيزي في روما، إذ يمكن بلحظةٍ ما اختلاس “لحسة” وتصويرها، لكن المغامرة/ اللعقة لدى جو مختلفة، صعوبة الرحلة نفسها هي ما تثير الاهتمام وتشعل “الرغبة”.
لا جدوى من سؤال “الطعم” إن طرحناه على جو، أي ما الذي يعنيه طعم جدار الفصل بين المكسيك وأميركا، مرٌّ، حامضٌ، حديديٌّ؟ كلها أجوبة قد تغرق في الشعريّة، بعكس ما يسعى له جو نفسه، خصوصاً أنّ جو يكتفي بلعقةٍ واحدةٍ، وأحياناً يمرر لسانه أكثر من مرة. هو لا يقيس مسافة ما، ولا يلعق منادياً انتصاباً ما، يلعق “لأجلنا” للتأكيد أمام الكاميرا والمشاهدين حقيقة ما يقوم به، وخطورته، وهذا فعلاً ما نراه ونسمع، إذ تعرض لإطلاق النار عدة مرات، واختبأ من الشرطة والجيش، وهنا المفارقة، إذ أنّ ما يقوم به جو حقيقة ليس بخطير، أي لا يهدد الأمن القومي لأيّ بلد. ربما اقتحامه للأماكن الممنوعة هو الخطر، لا فعل اللعق نفسه، ما يحول جسد جو بأكمله إلى درع يحمي لسانه، ليصل إلى هدفه.
هذا الخطر يتضح في سرعة إيقاع جو، واقتحامه للأماكن، والموسيقا المرافقة للفيديوهات، هو أشبه بمن يتسلل لزرع قنبلة أو بثّ فيروسٍ ما، لكنّ كل ما يقوم به نهايةً هو اللعق، وهنا لا يمكن إنكار الجانب الفيتشي، المرتبط بزيّه بداية، وفعل اللعق نفسه، إذ هناك رغبة “منحرفة” ترتبط باتباع اللسان فقط، لا متعة باللمس أو الرهز أو حتى التحسس بأطراف الأصابع، اللسان وهشاشته نفسه، لا فقط كقطعة لحمٍ مكشوفةٍ من الجسد، بل بوصفه المساحة الأسهل لنقل الأمراض. بصورةٍ ما، يخاطر جو بلسانه، لنتأمل إصرار أحدهم على القيام بمغامرةٍ لا فائدة منها أبداً.
لن نقارب الباراديغم الفرويديّ في محاولة لتأويل فعل اللعق، وعلاقة جو المحتملة مع ولادته، وحنينه إلى حلمة الأم الضائعة. ربما لهذا السبب تلاشى فعل اللعق من الممارسات الإنسانيّة، بسبب السطوة الفرويديّة، إذ بقي، أي اللعق، ممارسة ترتبط بتذوق بعض الأطعمة، أو الصالات الفنيّة التي تقدم منحوتات يمكن لعقها، أو تنويعات العلاقة الجنسيّة. ناهيك أن اللسان تعرّض للهجوم بسبب الأوبئة والأمراض، التي منعت اللسان، كلحمٍ نيّءٍ مكشوفٍ من “الخارج” و حرّمت إمكانيةّ لعق الأسطح، ربما لما يحويه من شبقيّة تبنتها الشتائم واللغة، وتهديد بالخطر وحتى الموت، إذ نقرأ في لسان العرب أنّ فلاناً لعق إصبعه فمات، وربما الموت هنا هو انعدام اللغة Langue، فمن يلعق لا يستطيع الكلام، ويغرق اللسان في عالم آخر، ماديّ، أقلّ مفاهيميةً من اللغة، وأكثر “معرفةً”، أما من يخفي لسانه داخل فمه أو يحركه بإتقان (يتكلم)، فموته مؤجل.
هناك مفارقة من نوعٍ ما في مغامرات جو اللعقيّة. عادةً ما يكون اللعق خطيراً، بل درباً نحو الموت، إذ مات غلام في الجاهلية لأنه لعق بظر “حِبّى” وماتت خطيبة “جورج كوستنازا” التي لعقت دعوات العرس، مات الكثيرون حين لعقوا ظروفاً ملوثة بالجمرة الخبيثة (ربما هذه نظرية مؤامرة لا حسم حولها)، ومن النادر أن يموت أحدهم بعد رحلةٍ للعق شيءٍ ما، لكنّ هناك تحذير ديني حول ما يلعق، فلابن عثيمين مثلاً، فتوى قديمة تتهم من يلعق الكعبة بأنه مُبتدع، وهي أقرب للتحريم، لكنّها ليست بحرام كلياً، ما يعني أن هناك من لعق الكعبة تبرّكاً، وتذوّقاً.
اختفى جو لفترة، ربما بسبب وباء كوفيد، الذي علّق اللعق والمس والنفس، ثم عاد بمغامرة جديدة، هذه المرة في القاهرة، في فيديو غريب من نوعه، عنوانه “لعق أقدم قدّيس في العالم” ويقصد هنا تمثالاً حديدياً، يقع على بعد 120 متراً غربي القاهرة، وقد سألت أصدقاء عديدين عن هذا التمثال، لم يعرفه أحد.
هناك شعريّةٌ ما في الحديث عن اللعق. جهاز اللسان في حال انفصل عن فتحة الفم، هو عاجزٌ عن الاحتواء، والبلع، أي لا يعض ولا يمضغ، يلعق فقط، وهناك نقصانٌ بالمعرفة إن أردنا تحديد مساحة اللمس بدقة، فالمعرفة تأتي عادةً من الابتلاع وامتلاء الفم، إذ يقال امتلأ فمه بلسانه، أي دليلٌ على كثرة البلاغة، وامتلأ الفم تراباً أي دليلٌ على الصمت، أما اللسان وحده، فكسيحٌ من نوع ما، يترك علامة دون أن يعلم، خصوصاً أننا لا نتحدث عن لسان ناطق، أو لسان يلوك أو لسان يخاطب لساناً آخر، بل يلعق حجراً أو صخراً أو حديدياً، وهنا لا بد من متعة ما، لا لاشيءٍ فقط لنقصها، والعجز عن اكتمالها، وهنا تعود الفيتشية بواحدةٍ من أشكالها، إذ يمكن لعق الحبيب/ الحبيبة أو موضوع الرغبة دون احتواء في الفم، وكل الرحلة في سبيل غرض الرغبة هذا، ليست إلا تمهيداً لنشوة اللعق الآنيّة، تلك التي إن امتدت، بطلت الشهوة وتلاشت، لتصبح ممارسةً، لا مسّاً شبقياً، وربما هكذا كان باجماليون في علاقته مع التمثال الذي صنعه، يسرق منه لعقات، ولحسات، استمرت سنوات حتى أضحى التمثال بأكمله حيّاً، فكلما لعُق بثت فيه شيء من روح.
تفسير باجمليون يبدو مبتذلاً، خصوصاً أنّنا نقرأ في المعجم “ اللَّعْوق: المَسْلوسُ العقل” أي ربما ضائع العقل، أي ربما من يلعق ويكثر من اللعق واللحس يفقد عقله نهايةً، وربما هذا ما يبرر الخوف من يأجوج ومأجوج، الذين مازالوا منذ أن بنى عليهم ذو القرنين سداً، يلعقونه في سبيل الخروج، وهذا ما يفسر أنهم في حال خرجوا، سيخربون الأرض وسيشربون ماءها، وكأنهم من شدة اللعق، سالت عقولهم، فخرجوا للأرض وحوشاً يعثيون فيها الخراب.
حاشية: تزامنت عودة جو اللاعق إلى الفضاء الرقمي مع تقارير عن فقدان بعض أنواع الصقور أبصارَها، فهي تُحلّق عمياء في السماء. لم يعرف العلماء تفسيراً واضحاً لهذه الظاهرة، وهي تشابه حالات انتحار الحيتان. ربما هناك ما تغيّر في “مانا” العالم، ما أعاد ترتيب مخلوقاته، ما أفقد البعض حواسهم و”وعيهم”.
عمّار المأمون
صحفي وباحث في الشأن الثقافيّ، عضو تحرير “طِرْسْ”.