ثمّة علاقةٌ وثيقة بين المشي والكتابة. كلاهما تدفّقٌ وانسياب في مجرى متحوّل. انفتاح على الآتي، وانطلاقٌ.
يتجاوز المشي في ذاته التعريف التقليدي البسيط بكونه خطوة تسقط وراء أخرى في اتجاه نحو الأمام، أو وصفة طبية لجسم معافى وسليم من الأمراض، خاصّة المزمنة منها. المشي أبلغ من كلّ ذلك؛ إنه كتابة أخرى، موقف وفلسفة، رؤية وذوق، وشيء غريزيّ طبيعيّ يُبقينا في انسجامٍ مع أنفسنا والوجود، وفي توافق تامّ مع ملايين السنين من التطور.
البشرُ ولدوا لكي يمشوا. هذه هي الحقيقة. ولقد كان المشي المتخفف من أيّ هدف من أحب الأشياء إليّ. إلى درجة أن كلمة المشي هي دائماً بالنسبة إلي ذات ثقل جمالي، وإيحائيّ عظيم. وهي من ضمن قاموسي الشعري الخاص. أعيش المشي كحالة من حالات التمرد على اللحظات الرّاكدة، والأفكار الخمولة، واليومي المعتاد الرتيب.

آدم وحوّاء مطرودان من الجنة. ماساشيو، حوالي 1452، جدارية في كنسية ماريا ديل كارمين، البندقية.
أخرج من البيت، أو من الفندق، أو من أيّ مبنى آخر، بسقف وجدران مُلقياً بنفسي إلى عرض بحر الحياة الشّاسع؛ إلى تيارات تجرف الخطى والانتباه. تدبُّ في جسدي حيويةُ الحركة وتتفرّعُ أمامي من بعضها المسالك، الأزقة والشوارع. إني أتحرّكُ لأشيّد عوالم متواشجة ومتراكبة. كل شيء يدبّ أو يسير في الشارع، كل مشهد، كل صورة، كل بناية أو حيّ، كل وجه وهيأة، كل موقف، كل غيمة، كل علامة، كل رائحة، هي كتابة خارج اللّغة، داخل تجربة العيش الحميمة المباشرة.
في المشي اندفاعٌ بريء وفضوليّ إلى مجال أرحبَ مفتوح على اللاتوقع؛ لذلك فالمشي مليء بالصدف كما بالفخاخ ! فالخروج من المنزل ليس مسألة بتلك البداهة اليومية المفترضة، بل قد ينطوي على “مغامرة خطيرة” كما يعبّر كافكا. يمكن أن يزل بنا هذا الفعل الهيّن إلى مسارات تغيّر المصائر. إلى أحداث وحوادث مُهدِّدة أحيانا. فكما يعتبر الخروج من البيت وجهة نظر صحيحة، يمكنه أن يغذو منعطفا خطرا يغيّر وجهة نظرنا إلى الحياة على مقاس الصدمة الوجودية التي عاشتها فريدا كاهلو مثلا، بعد حادث الباص. وإن لم يُنه وجودنا بالشكل المؤسف الذي حدث لرولان بارت حين كان يهم بقطع الشارع لتصدمه شاحنة، صنع منا أشخاصا لا نعرفهم. أو دمغ على الأقل ذاكرتنا بحدث مزعج. مثلما كان الأمر مع الشاعر ريلكه حين تعرّض لهجمة وعضة كلب في إحدى تسكعاته بالقيروان.
مع ذلك، لا تقاس هذه الأخطار المحتملة بمتعة المشي. ففي المشي نكون في حالة تدفق للأشياء والمعاني والصدف من حولنا. في ضيافة فضاء أكبر من الحيز الصغير الذي يُثَبِّتُ الجسد إلى الكرسي، أو إلى الشرفة و السرير. ما عادَ هُنا الجسد مقيدا ببضعة أمتار مربعة وجدران تحاط بها النفس كما لو أنها حدود الحياة؛ بل أصبح آلة متنقلة في فضاء حُرٍّ فسيح. إننا مُشرعون بحرية على امتداد يتشكل فينا مع كل خطوة حتى حدود العالم. وما الحرية إلا شعور بغبطة هذا الامتداد. أليس هذا ما يحدث أثناء الكتابة أيضا: شعور بالتحرّر مفعم بغبطة من يذهب وحيدا أبعد من نفسه والعالم، إلى حد اختراق جدار الواقع، والطفو في ممكنات أخرى بديلة؟ !.
المشي تمدّد وانتعاش بالحرية. لكن، قليل من يملك ثقافة وحكمة التجوّل. ولو لم يملك البعض حس وشجاعة الخروج إلى الآفاق المفتوحة لما كان ثمة عوالم أخرى جديدة قيد التوسع في كل لحظة في الوعي، وعلى الأرض بالمقدار ذاته. لما كانت ثمة ثقافة ومعرفة؛ بل لكانت قد توقفت حركة التاريخ ذاته. يقول إيغون فريدل في كتابه التاريخ الثقافي للعصر الحديث: لولا التجوال لما كان هناك عصر النهضة !
حسب فريدل فالإنسان في العصور الوسطى كان خاملا مكرّسا لأسرار الله وخلود الروح في عبودية مملة ومخلصة. أما الدخول في عصر النهضة فقد اشترط أمرا آخر، أن تفتح عينيك وتنظر حولك. “دعه لا ينظر بعد الآن فوقه، تائهًا في أسرار السماء المقدسة، مرتجفًا من أهوال نار الجحيم، مُفكرا مليًا في الأسئلة المصيرية في أرضه المظلمة وحتى مصيره الأكثر قتامة، ولكن أمامه مباشرة، يحتضن الأرض ويدرك أنها ملكه. له الأرض، ترضيه الأرض. لأول مرة منذ أيام الإغريق المباركة “.
لقد تخلّت هذه “النظرة الجديدة” عن المنظور العمودي لصالح المنظور الأفقي بشجاعة كبيرة. نظر عصر النهضة إلى الوراء والأمام، عوض البقاء ساكنا في المكان ذاته، حيث التمزق الرهيب الذي ينشأ عن التجاذب بين التطلع إلى الأعلى وجاذبية الأسفل الطاغية. بين السقوط في آثام الراحة واللذة، وجهاد النفس للظفر بالخلاص والجنة. والذي وجد دعما كبيرا من قبل الكنيسة الفاسدة.
في الحالة الفردية، يصبح المشي طوق نجاة من منظور عمودي شبيه بما تحدث عنه إيغون فريدل. يشجع الحل السحري الذي يقترحه المنظور الأفقي المفتوح على الخروج من جوّ الخمول المعتم حتى يتم السماح بتدفق الطاقة والأفكار من الذات إلى العالم ومن العالم إلى الذات. وطرد الخوف والقلق ووساوس النفس. لذلك، لا يكون المشي حركة أقدام فقط، بل زخم مفعم بالفكر المشرق الذي يحرّر الطاقة السلبية ويسمح لها بالرحيل ويُلهم القوّة والانشراح.
إنه اغتسال ونظافة روحية. أشعر بذلك على نحو جليٍّ حين أكون مندفعا بحرية. بهذا المعنى فالمشي صابونتي، إنّه شكل من الكتابة التأملية الصّامتة التي تغسل الدّاخل.
أمشي.. وأمشي… أنزل الأحياء الرطبة بظلال المساكن الشعبية التي أكتشفها لأوّل مرة، أو أهيم في بحر الشوارع المكتظة دون أن أتخلّى عن وحدتي؛ عزلة هادئة وسط صخب النهار. إلى أن أجد نفسي فجأة – يحدث هذا غالبا- ودون فهم كافٍ في قلب هدوء عجيب يأخذ بخطواتي في تشعبات الحدائق والمسالك الخالية كما بين المساكن الراقية حيث يتفتّح المساء بروائح أزهار وأشجار تشبع ذهني برحيق أفكار مستترة. يتقلّبُ العالمُ ومعه أحوال الناس والوجود مع توالي الخطوات.
إلا أنّ إحساسا كتأثير الخمرة ينسكب على دماغي حالما أطأ عتبة بعض الأماكن التي يكفّ فيها الزمن عن أن يكون بُعدا من الأبعاد، بقوّة الحجر الروماني أو الزليج المريني أو الصومعة الموحدية. إنه يتراجع كما في الفنّ أو الصلاة، ويبهت لتنفتح على مصراعيها بوابة الأبدية.
وفي سوق المدينة القديمة تحديدا تهبط بي نعمة المشي وحيدا في ظلال الماضي الذي يثقل كالأبواب العتيقة والأقواس والقباب فيما يتعتّق الفضاء في رائحة قديمة. هي رائحة جلود الحيوانات والتوابل والبخور والحلويات الطازجة المغمسة في العسل.

أوغوست رودان، المشّاء، 1900-1907. متحف رودان، باريس-مودون.
هنا، في هذه اللحظات الذي يشعر فيها المرء بالأبدية في كل ركن وزقاق وزاوية وحيث يموج الخلق في ذاته بوجوه عابرة منسكبة كمياه السقاية ينسيك بعضها بعضا، آخذة جريان نهر بشري في عرض لا نهائي طوال النهار، تكون كل عشرين خطوة أخطوها في هذه الأنحاء مثل تقليب صفحة من كتاب مضاء بالشذرات الذهنية. شحنة من التدفق التأملي تجعلني في قلب التفكير وفي روح الكتابة وموطن الدهشة.
لدى جيف نيكلسون مؤلف كتاب “The Lost Art of Walking“”فنّ المشي المفقود” الذي نشر في 2008 انطباع عن هذا، حيث يقول: “يتطلب المشي قدرا معينا من الاهتمام لكنه يترك أجزاء كبيرة من الوقت مفتوحة للتفكير. أعتقد أنه بمجرّد أن يتدفق الدم عبر الدماغ، فإنّه يعمل بشكل أكثر إبداعا”. يفتح المشي قناة للأفكار ويجعلها في مجرى انسيابي حر بالغ العذوبة. بل إنه معين لا ينضب من الإلهامات. وقد عبّر عن ذلك سابقا ميشال مونتاني وهو كاتب فرنسي من القرن السادس عشر حين كتب يقول من صميم تجربته الحميمية: “لا يندفع فكري ما لم تهزه قدماي”. عبارة مكثفة وسديدة، لا ترى في المشي شيئا بمعزل عن اندفاع الأفكار، بل لعلّه كما يؤكد مونتاني السبب المباشر وشرط التفكير الإبداعي المندفع نحو حلول جديدة ممكنة. فبدون حركة القدمين يخبو الفكر، يدور في حركة مفرغة وقد يضمحل وربما يموت.
ثمة تأكيد آخر لا يقلّ شغفا وحماسا ومديحا للمشي نجده عند الفيلسوف فريديرك نيتشه حيث يقول: “إن الأفكار التي تنبع من المشي هي فقط تلك التي لها قيمة”. فبقدر ما المشي في طبيعته نشاط بسيط بقدر ما هو قوي في آن، يهزُّ الفكر ويفتح له مسالك جديدة. إنّه حركة خلق وإبداع، حيّز للتأمل وورشة كتابة في فضاء مفتوح. يسترخي التفكير ليعطي أجمل ما عنده في هذا النشاط البسيط للقدمين الذي يعبّر عن الخروج إلى العالم. والانتقال من الحالة الثابتة إلى مجال من الحيوية في الحركة والانطلاق نحو اللاهدف بدافع الإثارة والاستكشاف.
ربّما كان المشي في طبقات اللاّوعي إحساساً بالانعتاق من أَسْرِ الواجب، وكسر النظام، الرتابة والمعتاد. إلاّ أننا مع الشاعر الفرنسي شارل بودلير نراه يطفو على سطح الوعي ويصبح رمزا قويّا للتعبير عن التحرر من المجتمع والسلطة الرأسمالية. مُختزَلاً في كلمة “التسكع” flâneur. وقد غذا المتسكع “Le flâneur” نموذجاً لشخصيّة أدبيّة مركزيّة في تصوير باريس خلال القرن التّاسع عشر. كما ظلت الدراسات الأكاديمية تنظر إلى بودلير كشخصية مركزية في التسكع الحديث.
فالذي يبني حياته وفكره على المشي بلا هدف شخص خطر في نظر الرأسمالية التي تسعى دائماً إلى ضبط كل حركة في اتجاه ما يوسّع امبراطورياتها. على المرء أنْ يخرج إلى العمل كل صباح، ثم يعود منهكاً إلى بيته آخر المساء. يمشي بإنضباط في خطّ واضح ومحدّد لزيادة إنتاج وتضخم ثروة هذه السلطة. المجتمع بدوره، وفقاً للأخلاق الرأسمالية، لا يستلطف المُتسكِّعين في المدن الكبيرة. ويظلّ ينظر إليهم كغرباء، على الهامش، لا منتمين.
المشي في عمومه طاقة خلاّقة، سواء أكان تعبيراً رمزياً عن التحرّر والتمرد على المجتمع الحديث بمفهوم بودلير، أو عودة إلى “الطبيعة الأم” في فعل تمرد آخر بمفهوم جان جاك روسو، فإنّه ممارسة حرّة في خلفية الكتابة يساعد على تفريغ العقل وتوفير المساحة اللاّزمة للتأمل والإبداع. عكس الجلوس. حيث تصبح أدمغتنا رصاصيّة، والحياة ثقيلة. متوقّفة تقريباً.
منير الإدريسي (الرباط، 1976)
شاعر وكاتب مغربي، صدرت له “مرايا الريش الخفيف” 2007، “انتباه المارة” 2017، “بنظارة أشف من الهواء” 2021، ونشرت نصوص شعرية، نثرية ومقالات في جرائد ومجلات عربية وأجنبية. تُرجمت بعض قصائده في أنطولوجيات عالميّة، منها:” أصوات شعرية العالم” بالمكسيك 2020.