لسؤال الجِدَّة سلفٌ بعيد ونفسٌ جاهليّ، يُقتفى بعضٌ من أثره في مطلع معلقة عنترة بن شداد العبسي أين استُهلت باستفهام يضمر الإنكار ويسائل الصدى:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ
أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
يقف عنترة هنا ليبكي أكثر من طلل: طلل الشِّعر الذي لم يترك فيه الشعراء من معانٍ تنظم ولا من ألفاظٍ تصاغ، وطللُ دار الحبيبة الذي متى عُرف بعد طول توهم، تمنّع عن القول وأعرض عن الكلام. وفي طلل الشعر ما يخالف طلل الدار، فهو طللٌ جديد في مناجاته، جزلٌ في ردِّه ولو كان الردّ لا يزيد عن كونه رجعا للصوت، فربَّ رجعٍ يروي السائل من سُعار الصمت.
هل غادر الشعراء من متردم؟ يتساءل عنترة، والمتردم في صدر بيته هو الموضع الذي يُسترقع ويستصلح من بعد وهنٍ، فيقول هل تركت الشعراء موضعًا مسترقعا إلا وقد أتت على رقعه وإصلاحه؟ هل تركت من طلل إلا وبكته؟ هل سبقته الشعراء في إتيان المعاني وقرض الشعر ورصفه؟ وإن صحَّ لسؤال عنترة جوابٌ فإنّ بعضه كامنٌ في كلمة التردم وهي في معناها مرادفة للترنم وهو ترجيع الصوت مع تحزين. ولكن، أيّ الأصوات هي التي ترنّم بها الصدى؟ أهو صوت السابقين من الشعراء؟ أم هو صوت قرنائهم من الجن والشياطين؟ أو لعله قول واحدٍ نطقت به الإنس والجنُّ، وبه اهتدى عنترة لينبش ما طال ردمه، وتقوم عليه معلقته، مسايرة لنهج السابقين في بكائهم لأطلالهم، متنزهة عن مصافهم في بكائها لما لم يسبقها إليه باكٍ. فلو غادر الشعراء فعلا من متردم لما نُظم السؤال في مطلعِ ما خُلِّد من الشعر.
لم يغب سؤال عنترة بغياب أهل الدار عن دارها، بل ظلّ في الصدور حاضرًا كرجع الصوت الذي لا يُلْجم. ولا عجب أن العرب يكنون الصدى بابنة الجبل، ولأبي القاسم الشابي في هذا الشأن اعتقاد في أن هذه الكنية أسبق وجودًا في العربية من كلمة الصدى، لقرب المعاني الخيالية من ذهن الإنسان الأول، الذي متى ناداه الصدى خاله صوت جنية من بنات الجبال، لاسيما أن صوت الجن ليس بغريب عن صوت الشعراء، ومنه تردد الرجع طويلاً، فنهل منه كل سامعٍ جوابه، ونُظِم من الصدى ما ردده الدهر، وترنمت به جُلُّ الأقطار، فشرَّق، بتعبير أبي الطيب، حتى ليس للشرق مشرق، وغَرَّب حتى ليس للغرب مغرب.
للمنايا وقعٌ يستردّ أصوات الشياطين، فمتى خَلَتِ الأرض من همس الأحياء، وجب أن يعلو صوتٌ ما ولو كان رجعًا، ومنه عرفت مصر مطلع القرن الماضي دويًا أهوجًا هو وباء الكوليرا، فجاءت قبضته على الأرواح غليظةً، وحصدت منها ما حصدت، تاركةً أثرًا أليمًا، خلَّدهُ مداد الأدب في ما خُطَّ من ذلك الزمن. وشاع وقع الرزية خارج مصر، وتوشح العرب رداء الحزن والرثاء لعظيم ما نزل بمصر وبأهلها، فالحزن، وحدهُ، هو الرباط الأوثق لشعوب لم تجد الوحدة في غيره. ومتى كان الدهر حينها قد توشح بالظلمة والسواد، فقد جاء فيه وحي الصدى متوشحًا بما للسواد من اسم، فهو في ذلك كوحي الأسود العنسيِّ.
في بغداد، وفي زمنٍ لازالت تخط فيه الكوليرا أثارها، دخلت فتاةٌ على أهلها ذات مساء دجيّ، زاعمة أن صوتًا فيها قد تكلم وصدح، ومنه انتظمت لها قصيدةٌ، ألقتها على مسامع أُمٍ شاعرة، وأب كاتب، وأنشدت منها:
الكوليرا
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْدًا يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
في كوخ الفلاّحة في البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
« أي هذيان هو هذا ! » تساءل الأب « من سيقرأ هذا من أهل العراق الذين نشؤوا على ما في شعر المتنبي والبحتري من رصانة وفحولة» ثم يقضي في الشأن برمته فيقول « إنك لن تستطيعي الخروج على الذوق العربي » تضيف الأم بدورها فتقول « إنها أشبه بالشعر المنثور مع أنها لا تخلو من وزن غريب » وأما الفتاة، التي ستعرف من بعد باسم نازك الملائكة، فقد أقرّت منذ البداية بأن هذه القصيدة، ولو لقيت من الضحك كثيره، فهي حتمًا ستمثل فجرًا جديدًا في الشعر العربي، ولعلّ ذلك الفجر قد حلّ فعلاً، فهل كان مشرقه على الشعر العربي؟
ومنذ منتصف القرن العشرين، جاء الفجر بزعم مريديه، وآن لقيد الشعر العربي أن ينكسر، ويلتحق بركب الجدَّة والحداثة، فهذا الفن من فنون العرب قد ظلّ، حسب دعاة التجديد، راكدًا، جامدًا، غريبًا عن العصر، بل إن أحكام فن الشعر وضوابطه من أوزانٍ وقوافٍ وبحور ، لا تزيد عن كونها أصفادًا تضيّق على المبدع الحر مساحة إبداعه اللامتناهية، وهم بذلك يرون أنهم ينقلون الرؤية الفنية والشعرية من محدود القديم وقواعده إلى مطلق الجديد المتحرر، ففي ظلِّ راهنٍ منكوب ، وأُفقٍ مسدود، وجيلٍ منتكسٍ مهزوم، لا تكون النهضة إلا بمناجاة الحرية، ومتى كان القمع مخيمًا على رقابٍ منحنية، آن للتعبير أن يكون حرًا من كل ما حال دون حريته. وهم في ذلك، أي روّاد التجديد، يدّعون أن حديث الجدَّة بابٌ لم يطرقه غيرهم، وأنه لا سبيل إلى التجديد غير ما انتهجوه هم من سبيل، فيبدو الصراع لمن ناظره من سطحه صراعًا بين القديم والجديد، بين التقليدي الجامد المتحجر وبين كل نقيضٍ للرجعية، هنا يُلحُّ سؤال لجوج : هل خلا الشعر العربي من التجديد فعلا؟

نازك الملائكة
قد يكون النفي هنا ردًا وجيزاً، لكن بيان معالم التجديد لا تستوي إلا متى حددنا معناه، فإذا أردنا في عمومه قلنا هو الإتيان بما خالف المألوف، من طرق موضوعات لم تذكر، وأغوار لم تسبر، وانتهاج أساليب جديدة، وتوليد معانٍ طريفة، والرمي إلى أغراض مختلفة، ولهذا نصيب من البنية كما له نصيب من المضمون. وإذا أردناه في ما اتصل بالشعر، فوجب أن ننزهه عن التجديد في سائر الفنون، فالتجديد في الشعر غير التجديد في النثر والرواية، وغير التجديد في المسرح. ومتى كان المقام ههنا خاصاً بالشعر يكون فيه المقال متصلاً بخصوصية هذا الفن. ونظم الشعر من حيث هو فنّ سابقٌ للتجديد بصفته إضافة وابتكارًا، ومن البديهي أن يشترط في المجدد كونه شاعرًا قبل النظر في ما أتاه من تجديد.
ومتى كان إدعاء أصحاب الجِدَّة، أن تجديدهم هو تجديد في الشعر العربي، فلا سبيل إلى النظر في الإدعاء دون تبيّن معنى الشعر عند العرب، ولنا في هذا رافدٍ متين نعود فيه إلى مقدمة ابن خلدون أين وصف الشعر بكونه فنا من فنون الكلام عند العرب، مع شيوعه في سائر اللغات، فيقول « فإذا أمكن أن يجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامنا، وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه » ثم يخص كلامه بالعرب وشعرهم فيقول « إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب » كأنه بهذا يفصل بين ما وجب فصله ثم يُتم « وهو (الشعر عند العرب) في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى، إذ هو كلام مفصل قطعًا قطعًا، متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتًا، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق بيه رويًا وقافية، ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة، وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبله وما بعده » ثم يخلص إلى تعريف للشعر العربي فيقول « هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصّل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده. الجاري على أساليب العرب المخصوصة به ».
ومن هذا نخلص إلى أن الشعر المرام تجديده، لا يستوي فيه تجديد حقيقيّ إلا متى حُصِّل الوعي بخصوصية لسان على آخر، من منظور الفهم لا التفضيل. وإن كان التجديد لا ينبع إلاّ من أثر الأسلاف، ولا يُنظم بغير لسان العرب، فإننا نتبين مرة أخرى في كلام ابن خلدون أحكام صناعة الشعر وشروط نظمه، التي لا تستوي دون الحفظ من جنسه، أي شعر العرب، فيرد كلامه في هذا الصدد « ويتخيّر المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين، مثل ابن أبي ربيعة وكُثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي، وأبي فراس» ومنه يجزم ابن خلدون أنه متى خلا ناظم من الحفظ فإن نظمه سيكون قاصرًا ورديئًا وساقطًا، وأن اجتناب النظم خيرٌ لمن خلا صدره من المحفوظ، فهو بذلك أجنبي عن صنعة الشعر، ومن أراد التجديد في غير فنّه أتى بالعجب العجاب.
ولا عجب أن يستشهد ابن خلدون في كلامه عن بليغ الشعر وعاليه بأسماء كعمر ابن أبي ربيعة، وأبي نواس، والبحتري وغيرهم من كبار الشعراء، لكن الاستشهاد بهم ههنا لا يُقرأ فقط من ناحية كونهم من كبار الشعراء، بل أحسب أنهم خير مثالٍ للتجديد في الشعر العربي، فلو تناولنا شعر عمر ابن أبي ربيعة كنموذج للتجديد وجدنا أنه قد انتهج درباً جديد في الشعر العربي، ألا وهو الشعر القصصي، وإن كان فيه منطلقًا من طلل القدماء كامريء القيس، فإنه قد طوره، ورمم طلله، ورسّخ بنيانه في صورة فنٍّ يستقل بنفسه، كمثل ما نظمه في رائيته التي يقول في مطلعها:
أَمِن آلِ نُعمٍ أَنتَ غادٍ فَمُبكِرُ
غَداةَ غَدٍ أَم رائِحٌ فَمُهَجِّرُ
والقصيدة هنا جُلها قصصي، لا تنزل على أذن السامع إلا وخالها في تتابعها نثرًا يُحكى، وفيها نصيب وفير مما يوحي بذلك، من حيث ترد فيها عبارات دالّة على السرد والحوار من قبيل قوله:
فَقالَت لِأُختَيها أَعينا عَلى فَتىً
أَتى زائِراً وَالأَمرُ لِلأَمرِ يُقدَرُ
فَأَقبَلَتا فَاِرتاعَتا ثُمَّ قالَتا
أَقِلّي عَلَيكِ اللَومَ فَالخَطبُ أَيسَرُ
فَقالَت لَها الصُغرى سَأُعطيهِ مِطرَفي
وَدَرعي وَهَذا البُردُ إِن كانَ يَحذَرِ
يَقومُ فَيَمشي بَينَنا مُتَنَكِّراً
فَلا سِرُّنا يَفشو وَلا هُوَ يَظهَرُ
وهذا نَظمٌ لو أقبلت على نثره لما نثرته إلا منظومًا، وهذا قرضٌ لسلاسته لم تقيّده قافية الراء، ولم يمنعه بحر طويل النفس عن قرض بليغ ما قيل في التجديد. ولعل ما يبصره البعض كقيدٍ ، ليس إلا انعكاساً لملكة محدودة.
ومنه نذكر مجددًا آخر، لم يستو له كذلك النظم إلا متى غنم من وفير المحفوظ، وهو لرفعة شعره مدرجٌ كذلك ضمن أمثلة ابن خلدون، هو الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس، وفي تجربته في نظم الشعر قصة لا بد من ذكرها، وقد جاءت لابن منظور في كتابه أخبار أبي نواس، فيقول « وكان ( متحدثا عن أبي نواس ) قد استأذن خَلَفاً في نظْم الشعر، فقال له: لا آذن لك في عمل الشعر إلاّ أن تحفظ ألفَ مقطوع للعرب، ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة. فغاب عنه مدّة وحضر إليه، فقال له: قد حفظتها. فقال: أنشدها، فأنشده أكثرها في عدّة أيام. ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر، فقال له: لا آذن لك إلاَّ أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها. فقال له: هذا أمرٌ يصعب عليَّ، فإنني قد أتقنت حفظها. فقال له: لا آذن لك إلاّ أن تنساها. فذهب إلى بعض الدِّيرة وخلا بنفسه، وأقام مدة حتى نسيَها. ثم حضر فقال: قد نسيتها حتى كأن لم أكن قد حفظتها قطّ. فقال له: الآن أنظم الشعر»
في هذه القصة، لا يؤخذ النسيان على ظاهر معناه، بما هو نسيانٌ رديفٌ لفقدان الذاكرة، بل على نقيض ذلك، هو اتحاد الحافظ بالمحفوظ، وامتلاء الصدر بما يشحذ القريحة وينقش أسلوباً يحاذي السلف بقدر ما يسهم في تجديد الفن، فهو لا يتجاوز السابقين إلا متى كانوا منه بمنزلة الجذور من النبات، فأبو نواس الحافظ لشعر الأقدمين لا بدُّ أنه حفظ معلقة النابغة الذبياني التي يقول في مطلعها:
يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ
أَقوَت وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَبَدِ
فيكون منطلق أبي نواس بيتًا يبكي فيه الشاعر طلل دار الحبيبة، فيولد من هذا تجديدٌ لمطلع القصائد، لا يغيب فيها الطلل بل يستدعيه أبو نواس ليهزل به، ويحول البكاء على الأطلال إلى ضحك من أطلال القدماء، زاعماً أن هناك أطلالاً هي أجدر بالبكاء عليها:
سَقياً لِغَيرِ العَلياءِ وَالسَنَدِ
وَاغَيرِ أَطلالِ مَيَّ بِالجَرَدِ
وكذلك هو القائل:
لِتِلكَ أَبكي وَلا أَبكي لِمَنزِلَةٍ
كانَت تَحُلُّ بِها هِندٌ وَأَسماءُحاشا لِدُرَّةَ أَن تُبنى الخِيامُ لَها
وَأَن تَروحَ عَلَيها الإِبلُ وَالشاءُ
ولا يخفى كذلك تجديد أبي نواس في الشعر العربي من خلال نظمه لما يعرف بالخمريّات، وهو كمثل عمر ابن أبي ربيعة لم يشيد نسقًا مستقلاً الا بتطوير ما جاء عليه القدماء، فلو كان امرؤ القيس سلفاً ملهمًا لعمر، فإن في شعر الأخطل ما أوحى لأبي نواس لكي يأتي بتجديده.
والأمثلة هنا لا تكاد تحصر، بل تتنوع في الزمن والموضع والغرض، ولو أتينا عليها جميعًا لما كان للحديث نهاية، وإنما نذكر منها ما يسند مبنى القول لنقيم به الحجة.
يبدو أن قليلاً من الإطلاع على تاريخ الشعر العربي يقضي بأن من ينفي ورود التجديد فيه، ليس إلا عاجزًا عن لحظ ما لا يخطئه سمعٌ ولا بصر، فمنذ العهد الأموي مرورًا بالعباسي وإلى ما تلا ذلك من عهود، يرصد التجديد في الشعر العربي دون التخلي عن كونه شعرًا عربيًا، ولنا في ذلك أكثر من مثال: كالتخلي عن المقدمة الطللية لحساب مطالع مختلفة، الاتجاه نحو وحدة القصيد خلافاً للنسق التي جرت عليه المعلقات، تنوع الأغراض والمعاني بما يتناسب مع العصر ومقتضياته. ولو كان الشعر العربي فعلاً خاليا من أي مظهرٍ من التجديد لما روى ابن خلدون عن شيوخه، أنهم لما التمسوا في شعر المتنبي وأبي العلاء ما كان مخالفًا لما جرى عليه السلف، لم يكن منهم إلا أن حكموا عليه بأنه ليس شعرًا، وهذا نص القول « كان الكثير ممن لقِيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب».
والغرض من هذا ليس تجريد المتنبي وأبي العلاء من عظيم منزلتهم الشعرية، بقدر التأكيد على أن تجديدًا حقيقيًا قد جرى في منظومهم، ومعنى هذا يرد حرفًا على لسان أبي العلاء:
وإني وإن كنت الأخير زمانُه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
وقد كان ما أقرّه رهين المحبسين، فقد جاء شعره غنيًا من الناحية الفلسفية، مطوعًا كل الصور والأوصاف والرموز ليعبر بها عن رؤيته التشاؤمية للحياة، والتي منها ولدت مدارس فلسفية في هذا الشأن، وأبو العلاء هو القائل :
تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْـ
ـجَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِإِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا
فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ
لا مهرب لمنكر الجِدَّة من وقعها الصارخ كلما ارتحل في الأطوار التاريخية للشعر العربي، فإن هو أنكرها بعد ذلك، فلن يكون إلا كمثل من أنكر القضاء وهو حتمًا لملاقيه، ومن المهم ذكر أننا هنا لا ندعي أن للتجديد هطولاً فياضًا في كل عصرٍ من العصور، بل نؤكد على حضوره ونحاول تقفي بعض آثاره، وكما للشعر أزمنة ازدهر فيها، له كذلك عصور بلغ فيها درجة الانحطاط، وكما يرصد التجديد بكثافة في عصرٍ ما، فإنه أحيانًا لا يعدو أن يرد كتجربة فردية، ولنا في بردة البوصيري مضرب للمثل.
فما إن اتصل المدح في الشعر العربي بمدح الخلفاء وأصحاب الجاه من الأحياء، فقد عمد البوصيري إلى مدحٍ غريب غربة النفيس في زمنه، ونظم قصيدة البردة مدحًا لرسول الله مناجيًا إياه فيها، لعل البلاء يزول عنه وعن الأمة جمعاء. وكان للبوصيري في بردته رافد، هي بردة كعب ابن زهير التي مدح فيها النبي ملتمسًا منه الصفح بعد سابق هجاء، إلا أن بردة البوصيري كانت أصدق في مدحها، وأعذب في لفظها، وأجزل في مكنونها. وكان البوصيري ببردته مجددًا، من حيث كونه قد أتى على إرثٍ سابق فبات اسم ذاك الإرث متصلاً به أكثر من صاحب الإرث نفسه.
ولأنّ التجديد الحقيقي يجرُّ ما كان بمنزلته من التجديد، جاء أحمد شوقي بمعارضة بديعة لبردة البوصيري سماها نهج البردة اعترافا منه بفضل من سبقه، مجلاً من قدره بسيره على النهج ذاته، وذلك من بديع ما يرصد بين القصيدتين، فهنا البوصيري يقول:
لَوْلاَ الهَوَى لَمْ تَرِقْ دَمْعًا عَلَى طَلَلٍ
وَلاَ أَرِقْتَ لِذِكْرِ البَانِ وَالْعَلَمِ
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ
أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
ومثل هذا يتجلى فاتنًا في قادم الأبيات من باهر الصياغة للمعاني، فحين ينظم البوصيري الآتي:
يا لائِمِي في الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَة ً
منِّي إليكَ ولو أنصفتَ لم تلُمِ
تنبغ جِدَّة القدم عند شوقي فينشد:
يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ
لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ
وعموماً فإن الحديث عن أحمد شوقي لا يجرُّ إلا سيرة تتصل بالتجديد، وتتعدد فيها المدارس، كمدرسة الإحياء والبعث بريادة البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وكذلك مدرسة الديوان التي تأسست على يد عباس محمود العقاد رفقة المازني وعبد الرحمن شكري، وإن كان من الطبيعي أن يتولد الخلاف بين المدرستين، فإنّهما يتفقان في مهمة التجديد انطلاقًا من الشعر العربي، وعيًا بأن لا منطلق غيره، ولا تجديد يصح من دونه، وهذا المعنى حاضرٌ في شعر مجدد كبيرٍ آخر هو محمّد مهدي الجواهري، حين قال :
وقائلةٍ أمَالك من جديدٍ
أقول لها: القديمُ هو الجديدُ
وليس القائل هنا، إلا هرمًا من أهرام الشعر العربي، وليس من المصادفة أن تكوينه هو خير ما يستدل به على إسهامه الهام في فن الشعر، وهو الذي حفظ في صباه المبكر ديوان المتنبي، ومامرّ يوم إلا وحفظ فيه قطعة من كتاب الأمالي لأبي علي القالي، وهو خير من يقول: القديم هو الجديد. فقد عاصر الجواهري تيار مدعي الجدة، وكان جديدًا مجددًا أكثر ممن نصبوا أنفسهم روادًا للتحديث، فهل أعاقته القافية عن تجديده؟

محمد مهدي الجواهري
حين سئِل العقاد عن رأيه في الشعر الحرّ، جاء الجواب مختصرًا « الشعر الحر ده مهزلة ! » وتساءل من أي قيدٍ يتحرر هذا الشعر، من الوزن؟ من القافية؟ فإن كان الجواب بنعم، فالشعر هنا يتحرر من الشعر! فلا يزيد عن كونه كلامًا منثورًا، والبون شاسع في اللغة العربية بين المنظوم وبين المنثور، ولو رصدنا اتّفاقا آخر بين رواد التجديد الحقيقين فسيكون ذلك في اجماعهم على أن ما يدعى بالشعر الحر ليس من الشعر العربي في شيء بل هو في الظاهر مدعاة للتجديد وفي باطنه عجزٌ عن الشعر، ومتى عجز المرء عن إتيان الشيء سارع إلى ذمه والانتقاص من شأنه، بأن العيب كامن فيه، لا في العاجز عنه، ومنه قول الرافعي « فمن قال “الشعر المنثور” فاعلم أن معناه عجز الكاتب عن الشعر من ناحية وادعاؤه من ناحية أخرى »
وإن كانوا يتعللون فوق هذا بخلو القصيد من نفس عصري، فهم هنا يصارعون رجل قش مختلق، لأن الإجابة كانت بالفعل حاضرةً في زمنهم، فهذه مدرسة الديوان مثلا ، قد بنيت على أغراض عدة منها الدعوة إلى التجديد الشعري في الموضوعات، والاطلاع على الأدب الغربي، ونظم شعرٍ يخاطب الوجدان والطبيعة، ومنه على سبيل الذكر، ديوان هدية الكروان لعباس محمود العقاد، وبروز أبي القاسم الشابي الذي يعتبر من أبرز المجددين في القرن الماضي، وقد كتب في هذا الشأن كتابًا على قدر كبير من الأهمية، وعنونه بالخيال الشعري عند العرب، فجاء نقده متزنا بناءًا، داعيًا إلى تجاوز الصور النمطية في الشعر العربي القديم ، في علاقته بالطبيعة والمرأة والأساطير ، ووُفق في ما أتيح له من سنين قليلة على أن يأتي ببليغ الشعر على سنن الشعر العربي . ولا يوصف الشابي إلا ببديع نظمه، فهو بحضوره وإسهامه، كمثل الحلم البديع، الذي تألق في مهجة، وآبى أن يندثر.
وما الخلاصة، غير أن من يخفي عجزه بتعلة التجديد هو أعجز الناس عما يزعم لنفسه من دور، فقد عجز أولاً عن مجاراة الشعراء في فن الشعر العربي، ثم رمى هذا الفن بالجمود، وأتى بكلام منثورٍ، هو كالمطية التي يسهل ركوبها، وبالرغم من أن القيود المزعومة فيه تنجلي، فإن ما فيه من التكلف لا ينم إلا عن قيد في قدرات من كتبه. ومتى أقدمت مدرسة الديوان على الاطلاع على الأدب الغربي، فأتت بمعانٍ ورؤى جديدة في حلة شعرية عربية، آثر أصحاب “الشعر الحر” الوقوع في تقليد جامد للشعر الغربي، لا يعدو كونه أشبه بترجمة جافة للشعر الأوروبي، والذي يختص كذلك بجملة من القواعد والأحكام، فجاءت نتيجة الاقتتات على الفتات، جافيةً لا روحَ فيها، وذاك الفرق بين عزيز النسب ومؤثر اليتم.
ولكي لا يكون الحكم على هذا الكلام متحاملاً، أقول أن ما كُتب على هاته الشاكلة لا يكون بالضرورة رديئًا، فهو كالنثر، فيه الجميل الرفيع وفيه المتاهفت الركيك، ولكن الاعتراض هنا اعتراض علمي وفنّي، من ناحية كونه ليس من الشعر العربي في شيء، وما ليس من الشعر العربي لا يصح أن يدعي التجديد فيه. ولو كانت هذه الحركة ميتة منذ ولادتها، إستنادا لقول العقاد، فإنّ ذات المعنى قد ورد على لسان أهم روادها، وهذا قول نازك الملائكة « إن حركة الشعر الحر ستتقدم في السنين القادمة حتى تبلغ نهايتها المبتذلة، فهي اليوم في اتساع سريع وصاعق، ولا أحد مسؤول عن أن شعراءً قليلي المواهب، ضعيفي الثقافة، سيكتبون شعرا غثا بهذه الأوزان الحرة »
يقف عنترة للمرة الأخيرة، لعلّ طللاً ثالثًا قد دعاه للوقوف، هذه دارُ عبلة لا تكاد تنبس، وهذا المُتَردَّمُ كأنه خلاءٌ بحَّ فيه صوت الصدى، يسأل عنترة مرة أخرى « هل غادر الشعراء من مُتردمِ ؟ » تجيب ابنة الجبل «هل غادر الشعراء ؟ »
أحمد محجوب
طالب فلسفة بجامعة بلد الوليد (إسبانيا)