– III –
بدأت الصعوباتُ بعد ذلك:
فَقْدُ المياه المعتاد، شفّافٌ،
تَوسُّعُ عُنقِ الرَّحِم بلا خطرٍ حقيقي.
أصابعُ طبيبِ التوليد تتحسّسُ بطنَ الأم.
رحمٌ سليم.
عرضٌ طوليّ للجنين.
القطبُ الرأسيُّ إلى الأمام، كما هو مُقَرَّر،
تحتَ المقعد، في عُنقِ الرَّحِم.
ثمّ يلمسُ الإصبعُ، خلف المقعد،
رأسَ الجنين… فيرتجُّ غريبًا،
كأنْ…
كأنّ نائمًا في سباتٍ عميقٍ
لا يريد أن يُولَد.
والجنينُ يُقاوم،
يقوسُ ظهرَه،
يتمنّع…
يريد البقاءَ في عمقِ النوم،
ألا يجيءَ إلى
وهنا يظهر «البورِيُون»،
مراقبُ المناجم الإلهيّ
وقبطانُ السَّفينةِ التي أُبحر عليها.
مصباحُه الزيتيّ أمام عينيّ،
يصرخُ بكلّ ما أوتي،
تحتَ قبوٍ أسودَ فاحمٍ
تدعمهُ دعاماتٌ خشبية:
«ما الذي تفعلُه هنا، يا يونان، نائمًا في قاع السفينة،
بينما الجميعُ على السطح والبحرُ هائج؟
أما تسمعُ صَخَبَ الريح،
والعواصفَ تقتلعُ الأشرعة؟
كان يجب أن تكون فوق، مع الآخرين!»
أفتحُ عينيّ، مذهولًا، مبهوتًا،
أرى وجهَ القبطان الأسودَ بالسُّخام،
مصباحُه مثبتٌ في خوذته:
“ألَا كرامةَ عندك، يا يونان؟!
انهضْ! اخرُجْ إلى العراء!”
فأجيبهُ: “تفو!”
عندها أمسكَ بي البحّارة،
عمّالُ البحر ذوو الأجساد المتعبة،
رفعوني من قفاي كما تُرفع قِطّة،
في اهتزازات السفينة المبتلعة بالموج.
أدخلوني في مصعدِ البئرِ الصّاخب،
وفي زئيرِ الأمواج
الأعلى من عشرةِ مراكب،
رفَعني إلى سطحِ السفينة،
إلى وسطكم أنتم،
نساءً ورجالًا وأطفالًا ودجاجًا،
الذين دفعتم أثمانًا وبحثتم عن مهرّبين
لتجدوا أنفسكم في عينِ التيه،
بينَ الكواكبِ والكوارث،
عند شواطئ قبرص،
وإدارة «شِنغِن»،
وقراصنة ليبيا،
وسادة البحر.
«لن نحتاجَ إلى المِلقط، سيّدتي،
إذا أمسكتُ برأسِ طفلكِ قبل أن ينقلب.
ادفعي، سيّدتي،
ادفعي…
تابعي التقلّصات،
أشعر أنه قادم!»
المراوحُ في الأنفاق تدفعُ إعصارًا آليًا
كعاصفةٍ بحريّة.
هكذا وُضعتُ على السور ثانيةً،
بينكم، غارقًا في جموعكم،
وأنتم تُواصلون الابتهالَ لآلهتكم،
وتحلمون الآن بالرسمِ الأحمر الذهبي
الذي أراد أن يغرسهُ فيكم كما فيّ.
ضرباتُ المجاديف في العربات
أضافت إلى المشهدِ وَهْمَ ارتطام الموج.
ظللتُ برهةً مُسمَّرًا،
أستمعُ إلى نوحِكم،
وأنتم مبتَلّون حتى العظم،
أذرعُكم مُدلّاة أو مرفوعة إلى السماء،
لا أعرف لأيّ صلاة.
وكان الفيلمُ رديئًا حقًا،
وراء ظهري كنتُ أشعر
بنظرةِ البورِيُون السوداءِ
في سماءٍ سوداء،
قائدُ مناجم الفحم
فوق البحر أو تحته،
بينما الكهوفُ والسماءُ ينهاران على رؤوسنا،
منذ سفرِ التكوين.
وحين لم يُجب أيُّ إلهٍ على صلواتكم،
صرخَ البورِيُون، خوذته تتلألأ بالمصباح،
في وسط النفق، على سفينته:
«بما أنّ الآلهة لم تُجبْ،
فلنقترعْ،
مَن مِنّا أغضبَ سيّدَه.
من يختارهُ الحظّ
نقذفهُ في الجُبِّ المفتوح،
علّ البحرَ يهدأ،
ويصيرُ سفرُنا آمنًا.»
إنها «المحنة»…
قضاءُ البشرِ الأبسط.
ثلاثَ مرّاتٍ سُحبت القرعة،
وثلاثَ مرّاتٍ خرج اسمي.
اقتربَ منّي القبطانُ المرتجف:
«مَن أنتَ، يا يونان؟»
قلتُ: «أنا عبريّ. جئتُ من إسرائيل.
إلهي، يهوه، قويٌّ جدًّا،
حتى أنه يُرغِمُكم على الانحناء للأرض.
ادعوه أنتم أيضًا،
إنه الإلهُ الأقوى، الأشدُّ حُبًّا وغضبًا،
العليمُ الداهية.
يمسكني من قفاي كما يفعل بكم.
ولماذا يُعاقبني؟ لا شيء.
جريمتي الوحيدة: لم أُرِدْ أن أكون نبيَّه.
هذه كلّ خطاياي.
يمكنكم أن ترفضوا حرثَ حقلِ إنسان،
لكن لا يمكنكم أن ترفضوا حقله هو.
هربتُ من مهمّته،
ركبتُ هذه السفينة،
علّني أفلتُ.
لو كنتُ مكانكم،
لطرحتُ جسدي في البحر حالًا.
بعدها سيعودُ كلّ شيءٍ هادئًا،
الماءُ أملسُ كزيت،
وتصلون إلى تَرْسِيش سالمين.»
وقبل أن يُكملَ،
ألقَوني في الجُرحِ الأزرقِ المفتوح
على قاع الأزمنة.
وظننتُ أن القصة انتهت هنا،
حتى اندفعَ حوتٌ من أعماق البحر،
فتحَ فمَه ليبتلعني.
«جيّد! قلتُ في نفسي.
مَن سيبحث عني في بطنِ حوت؟
أستطيع النوم الآن،
من جديد.»
«ادفعي، سيّدتي،
ادفعي أقوى!
بعد قليل!
بعد قليل!»