هل لاحظت كيف تشعر، عند عبورك طريقًا مزدحمًا، برغبة مفاجئة في الإسراع والذوبان وسط الزحام؟ سواء كنت في ريو دي جانيرو أو بانكوك أو نيودلهي أو مدينة نيويورك، تُشعرك غريزك الحيوانيّة أنه من الآمن أن تغامر كجزء من قطيع بدلًا من أن تغامر بمفردك. الخوف يُقرِّبنا من بعضنا البعض. والأدلّة ليست قصصًا فحسب. فاحتشادنا، كما تُظهر تجارب التصوير العصبي، يُحدِث نشاطًا متزايدًا في منطقة اللوزة في الدماغ، حيث يُعالج الخوف والمشاعر السلبية الأخرى. وبينما قد تشعر بالضعف والانكشاف بمفردك، فإن كونك جزءًا من قطيع يمنحك إحساسًا مميزًا بالحماية. فأنت تعلم في قرارة نفسك أن خطر اصطدامك بسيارة، إذ تكون وسط الآخرين، أقل لأنه يُوزع “أي الخطر” بطريقة ما بين أعضاء المجموعة. وكلما زاد عددهم، قلت المخاطر. ثمة سلامة في الحشد. وأكثر بكثير من مجرد الأمان.
يرافق الحشد أيضًا إحساس مخمور بالقوة: إذ نشعر، كأعضاء في حشد، بأننا أقوى وأكثر شجاعة مما نحن عليه في الواقع. وأحيانًا نتصرف وفقًا لذلك. فالشخص نفسه الذي لن “يؤذي ذبابة بمفرده” لن يتردد في إشعال النار في مبنى حكومي أو سرقة متجر خمور عندما يكون جزءًا من جمعٍ غاضب. ويمكن لأكثرنا دماثة الإدلاء بأكثر التعليقات دناءة كجزء من غوغاء الإنترنت. يمكن للقطيع أن يفعل عجائب التحول النفسي في أفراده، وفي لمح البصر تتحول الحكمة إلى حماقة، والحذر إلى تهور، واللياقة إلى همجية.
وبمجرّد الوقوع في دوامة العاصفة، يصبح التراجع صعبًا للغاية: إذ ترى أنه من واجبك المشاركة. وأي فعل من أفعال القتل، قديمًا أو حديثًا، حرفيًا أو مجازًا “على وسائل التواصل الاجتماعي “، يسلط الضوء على هذه الميزة. كتب إلياس كانيتي في كتابه Crowds and Power عام 1960: “القتل الذي نتشاركه مع كثيرين آخرين، وهو ليس آمنًا ومُرخصًا فحسب، بل موصى به بالفعل، لا يقاومه الغالبية العظمى من الرجال”.
يمكن للقطيع أيضًا أن يمنح أعضائه إحساسًا متفاوتًا بالجدارة الشخصية. وبغض النظر عن مدى كون وجودهم الفردي فارغًا أو بائسًا بخلاف ذلك، فإن الانتماء إلى مجموعة معينة يجعلهم يشعرون بالقبول والاعتراف – وحتى الاحترام. وليس ثمة فجوة في الحياة الشخصية للفرد، بغض النظر عن حجمها، يعسر على ولاء المرء الشديد لقبيلة واحدة أن يملأها، ولا يبدو أن ثمة صدمة لا يبرأها “أي الولاء للقبيلة”. هذا هو السبب في أن الطوائف والعصابات أو المنظمات الهامشية أو الفِرق تتمتع بمثل هذا الجاذبية غير العادية: إذ يمكنها، بالنسبة للروح الضائعة، تقديم شعور بالرضا والاعتراف لا يمكن للعائلة أو الأصدقاء أو المهنة توفيره. يمكن للجمهور أن يكون علاجيًا بنفس الطريقة التي يمكن أن تتمتع بها مادة شديدة السمية بقدرات علاجيّة.
كوستيكا براداتان (1971-..)
فيلسوف أمريكي من أصل روماني. يعملُ أستاذاً للعلوم الإنسانية في جامعة تكساس التقنية، وهو أيضًا أستاذ أبحاث فخري في الفلسفة بجامعة كوينزلاند.