Terss
  • Home
  • Header (FR)
  • Test-recherche
  • Accueil
  • Atlas
  • دورات عرض الفيلم
  • بودكاست
  • Optica
  • Echo
  • Index
  • أطلس
  • Marges
  • قُزحيّة
  • Dossiers
  • صدى
  • En jaque
  • فهرست
  • Qui sommes-nous?
  • هوامش
  • Politique éditoriale
  • كِشْ مَلِكْ
  • Contributeurs
  • الملفات
  • Makhzen
  • Transparence
  • Cartographie
  • Plan du site
  • عن طرس
  • ميثاق التّحرير
  • Boutique
  • كُتّابنا
  • Contact
  • مخزن
  • خرائطية
  • خريطة الموقع
  • حانوت
  • للاتصال
  • Header (AR) Bis
  • Footer (FR)
  • Cycles de projections filmiques
  • Header (AR)
  • Podcast
  • Header (FR) Bis
  • الشفافية المالية
  • Search
  • Menu Menu
Menu
  • أطلس
  • قُزحيّة
  • صدى
  • فهرست
  • هوامش
  • كِشْ مَلِكْ
  • الملفات

تقويض البُندقيّة 3/1

برونو لوموان

تنشر طِرْسْ الترجمة العربيّة للجزء الأول من ثلاثيّة تقويض البُندقيّة للكاتب الفرنسيّ برونو لوموان، والتي سبق وأن نشرتها المنصّة في نصّها الأصليّ.

***

نحن بصدد نهاية فيلم ندور في الليل وتلهمنا النار (In girum imus nocte et consumimur igni) لغي ديبور، آخر أفلامه (1978). يتابع المشاهد، منذ ما يقرب من ساعة، صوراً التقطتها كاميرا تنجرف فوق المياه التي تحيط بالبُندقيّة. «لماذا البندقية؟» يتساءل الآن. «ما العلاقة بين مدينة الدوجة ونقد مجتمع الفرجة؟» حركة تصوير بطيئة وجميلة فوق البحيرة – مقبرة سان ميكيلي، جزيرة الموتى قد أصبحت خلفنا الآن – وصوت غي ديبور الحزين يستحضر مسيرته في إذكاء الجمر للوصول إلى ثورة لن تحدث. صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود، تقشفية ومتقنة، فيلم الـ35 مم يقترب من نهايته. يتساءل ديبور عندها:

« وأنا، ما الذي أصبحت عليه وسط هذا الغرق الكارثيّ الذي أجده ضرورياً؟ غرق يمكن حتّى القول إنني ساهمت فيه، إذْ من المؤكد أنّني امتنعت عن العمل على أيّ شيء آخر؟ هل يمكنني أن أطبّق على هذه اللّحظة من حياتي ما كتبه شاعر من حقبة تانغ عند وداعه لمسافر:
“ترجلتُ عن حصاني؛ قدّمتُ له نبيذ الوداع، وسألته عن غاية رحلته.”
فأجابني: “لم أنجح في شؤون الدنيا؛
أعود إلى جبال نان شان لأبحث هناك عن الراحة.” »

ظننتُ، لوهلة، وأنا أشاهد آخر أفلام ديبور، أنّ المسافر الذي يروي قصّته كان الشّاعر والنّاسك الصينيّ هانشان من القرن السّابع. هانشان تعني في الصينية “الجبل البارد” أو “الجبل المتجمد”. لقد كان الطاوي هانشان متوحّداً بجبل إقامته إلى درجة أنه اتّخذ اسمه. كأنّي بفرناندو بيسوا قد اختار أن يجعل أحد أسماءه المستعارة مشهداً طبيعياً، وكأنّ بيسوا صار جبلاً قاحلاً، ولو لزمن كتاب، وكأنّ جبلاً بارداً يقوى على تأليف كتاب. لكن لا، لقد كنت مخطئاً: هان-شان ليس نان-شان الذي يشير إلى سلسلة جبليّة تقع في الشمال الغربي للنّهر الأصفر.

كان منغ هاوران، المسافر الذي يتحدث عنه ديبور، معاصراً للشاعر هانشان؛ وكان أيضاً عالماً في عهد سلالة تانغ الحاكمة، سعى إلى بناء مسيرة أدبية، لكن طموحاته خابت بعد تجاوزه سن الأربعين، فعاد، على ما يبدو، إلى جبال طفولته ليتذوق الشعر ويكتبه. هنا تنتهي أوجه التشابه بين هانشان ومنغ هاوران: كلاهما كان نساكاً في عصر واحد، لكنّ الأوّل قطع كلّ صلة بماضيه إلى حدّ نسيان الطريق الذي أوصله إلى هانشان، بينما لم يفعل الثاني ذلك. لم يكن منغ هاوران هانشان، ولم يختفِ في نان-شان، الجبل الذي اختاره ليكون آخر مقام له: ظلّ منغ هاوران هو منغ هاوران، وحده هانشان اختفى.

يمكن العثور على ترجمة قصائد هانشان إلى الفرنسية، انطلاقاً من الترجمة التي قام بها شاعر جيل البيت، غاري سنايدر:

“«الجبل البارد» بيتٌ
بلا عوارض ولا جدران،
أبوابه الستة، يميناً ويساراً، مفتوحة،
وقاعته هي السّماء الزّرقاء.

الغُرف كلّها فارغة وغامضة،
والجِدار ينخفض على الجدار الغربيّ.
وفي الوسط، لا شيء.ّ

كما فعل غاري سنايدر من قبل مع هانشان، يبدو لي أنّ ديبور يتماهى الآن مع منغ هاوران وهو يشقّ طريقه نحو جبال نان-شان. بما أنّ الثورة لم تحدث، فإنّه يسعى بنفسه لأنْ يصبح هذا الجبل. على أيّ حال، يبدو لي أنّ كلمة هانشان قريبة جداً من نان-شان بحيث لا يمكنني إلاّ أن أخلط بينهما في ذهني.

الحجارة المكسوة وشعر الجبل البارد هو أوّل كتاب لغاري سنايدر نُشر في الولايات المتحدة عام 1959. وفي عام 1969، بينما كان مدّ الهيبي يتراجع في سان فرانسيسكو، دعا سنايدر قرّاءه إلى مغادرة المدن والعيش داخل “قبائل” في الريف. بما أنه لا يمكن لأيّ حركة مستقلة أن تنشأ من المدن الحديثة، وبما أنّ الثورة لم تحدث، فلنذهب إلى الطبيعة لنبحث عن حريتنا بأنفسنا. في مقاله المُعنون لماذا القبيلة، صرّح سنايدر بهذا الصدد: «لم تعد الثورة مسألة إيديولوجيّة. بدلاً من ذلك، يحاول الناس تنفيذها مباشرة: وذلك من خلال الشيوعية داخل مجتمعات صغيرة، وعبر أشكال جديدة من التنظيم العائلي.»

«بما أنّ مايو 68 لم يحدث، سأعود إلى جبلي»، هكذا يواصل، هنا والآن، بالنّسبة لي، غي ديبور

غي ديبور – المدينة العارية

تُشكِّلُ أطروحات حول مفهوم التّاريخ آخر نصّ كتبه الفيلسوف فالتر بنيامين في باريس عام 1940، وقت قصير قبل إقدامه على وضع حدّ لحياته. كان بنيامين يفر من وصول الجيش الألماني إلى فرنسا، لكنه، بعد عبور الحدود الإسبانية، شعر بأن جسده يخونه بسبب المرض. في بورتبو، وهي بلدة إسبانية في شمال كاتالونيا، أقدم على الانتحار.

في الأطروحات حول مفهوم التاريخ، وهي سلسلة من الأقوال الموجزة، كتب بنيامين أنّ:
1- رمز الثورة يعادل، في العصر الحديث، مجيء المسيح في التوراة.
2- تحقيق الثورة صعب بقدر دخول الجمل في ثقب إبرة.

كما هو معلوم، يكتب بنيامين، في أطروحات حول مفهوم التّاريخ، كان محرّماً على اليهود التنبؤ بالمستقبل. لكنّ التوراة والصلاة تعلّمانهم التذكّر. فبالنسبة لهم، كان استحضار الماضي ينزع السِّحر عن المستقبل، ذلك المستقبل الذي وقع فيه أولئك الذين يلتمسون المعرفة لدى العرّافين. ومع ذلك، لا يصبح المستقبل بالنسبة لليهود زمناً متجانساً وفارغاً، لأنّ كل ثانية فيه كانت بمثابة الباب الضيق الذي يمكن أنْ يعبر منه المسيح.

كان ثقب الإبرة بوابة صغيرة في أسوار القدس، بحيث كان على الداخلين إليها أن ينحنوا لعبورها. إذن، هناك مستقبل، وفقاً لبنيامين، كما هو الحال بالنسبة للشعب اليهودي، لكن عبوره يعادل الطريق الضيق في البوذية: عليك أن تنتظر طويلاً بلا أمل أمام مدخل المدينة السماويّة، وربّما تموت قبل أن تتمكّن من عبور العتبة. لكنّ الملاك الحارس لكلمة «ثورة» و/أو «مسيح» يحمل اسم الصدفة: ففيه، كلّ ثانية هي الباب الضيق الذي قد يمرّ عبره المسيح.

في موضع لاحق من أطروحات حول مفهوم التاريخ، يتحدّث فالتر بنيامين عن الملاك الجديد، وهي لوحة مائيّة للرسام الألمانيّ بول كلي كان بنيامين قد امتلكها: نظرة الملاك متوقفة في منتصف تحليقه، في اللّحظة التّي عبر فيها روح الثورة الباب الضيق ليصبح واقعاً سياسيّاً.

إنّ الملاك الجديد متوقف، لا تزال الدهشة مرتسمة على وجهه، وعيناه معلّقتان بالمكان الذي نبتت فيه بذرة الثورة، لكن الزمن أو الظروف، والرّياح المعاكسة، تدفعه، فتجعله يتراجع في الأجواء. ومع ذلك، عبر التاريخ، لم يكن هناك ملاك جديد واحد، بل عدّة ملائكة، ومساراتهم في السّماء تشكّل همسات، وترسم خرائط الحروب القادمة، حيث سيواجه البشر، مرّة أخرى، آلهتهم.

العثة

ندور في اللّيل وتلهمنا النّار. في فيلمه الأخير، ينجرف ديبور على المياه السوداء المحيطة بالبُندقيّة. العنوان مأخوذ من اللاّتينية. وهو عبارة عن جِناسٍ عكسيّ نقرؤه من الجهتين، في إشارة إلى الفراشات الليليّة التي تنجذب إلى اللهب وتحترق فيه. يحرق ديبور جسده على لهيب المدينة الفينيسيّة، إذْ لم تُكتب لأيّ ثورة أن تخرج من تحت جسورها: المدينة-المشهد انتصرت، وهالتها ستجذب، لألف سنة أخرى، السياح من كل أنحاء العالم، مفتونين بإشعاعها. حول البُندقيّة، سيكون هناك دوجات جدد، كازانوفا آخرون، لكن أيضا سان-جوست ولاسنير جدد، يحاولون اقتحام بوابة القدس، قبل أن توقفهم المقصلة في اندفاعهم.

تحوم فراشة اللّيل ديبور الآن حول شُعلة البندقية، ومياه لهيبها تضفي على بريقها لمعاناً مقلقاً: بوابة القدس، عقِب أخيل المدينة السماوية قد انسدّ مجدداً، ومؤلِّف مجتمع الفرجة يجد نفسه، رغماً عنه، وفي ذات الآن، في موقع الثوري الفاشل وفي موقع الملاك الجديد معاً. لقد تصدّعت الأرض، وحدث انقطاع، كنا لنبلغ السماء السابعة… لكن مصاريع العليّ أُغلقت دفعة واحدة…  حجاب الملاك الجديد هنا: الثانية قد سُجّلت… إذن، لقد تم الأمر.

ذلك لأنّ البُندقيّة كانت أوّل مجتمع فرجة، ينتهي بها الأمر إلى أن تصبح المحطّة الأخيرة لغي ديبور. منذ القرن السّادس عشر، جعل جمال قصورها وذهبها واحتفالاتها من هذه المدينة وجهة يقصدها كلّ الأوروبيين. ولكن، خلف بهاء كنائسها وكرنفالها، كانت جمهوريّة الدّوجات دولة بوليسيّة تسعى، بأيّ ثمن، إلى الحفاظ على السّلطة، رغم متاهة أزقّتها، تلك المتاهة التي كان يمكن أن تولد فيها مؤامرة بسهولة، فتوجه ضربة قاتلة لنظامها.

كان هناك ثلاثة محقّقين يشرفون على شرطتها وسجونها وغرف تعذيبها. من عبر جسر التنهدات انتهى به المطاف في إي بليومبي (الزنازين الرصاصية)، وكان من المؤكد أنه لن يستعيد حريته أبدًا. لذلك، من يهتم بالتاريخ البوليسي للديمقراطيات الحديثة يجب أن يتوقف لحظة لدراسة هذه الكوميديا التي كانت يومًا ما واقعًا يوميًا للفينيسيين، المجبَرين على ارتداء قناع السعادة المطلقة، بينما يظلّ الرعب يطاردهم في الخفاء، من ظلّ لمَحوه ذات ليلة في أحد الأزقة.

بما أن البندقية كانت متاهة، وبما أن من يدخلها قد يضيع فيها، وقد يفقد فيها السلطة أو حتى حياته، وبما أن تخطيط المدينة كان سيفًا مسلطًا فوق رؤوس الدوجات، فقد وجب أن يشعر رعاياهم بهذا السيف ذاته.

البندقية إذن هي ديمقراطية الخوف، ذلك الخوف الذي يتقاسمه الشّعب حين يعود إلى منازله بعد مغامرات النّهار. إنها ليفياثان صمّم آلةً مسرحيّة للدّفاع عن نفسه ضدّ البشر، ولكنها آلة تعمل إلى حدّ كبير مثل «ضباب الحرب» الذي يتحدث عنه كارل فون كلاوزفيتز: لا أحد يعلم، في أعماق اللّيالي تحت البحيرة الشاطئيّة، وسط هذه المدينة المنبثقة من البحر، وسط ديكوراتها وروعتها، إن كان ديموقليس نفسه لن يُذبح هو الآخر؛ لا أحد يعلم من سيمر تحت حدّ السيف أولاً، الطاغية أم المتآمر.

هناك إذن، في قلب الفينيسي، ذلك العار الذي وصفه غونتر أندرس في كتابه تآكل الإنسان: بما أنّ المدينة المينائيّة كانت تؤدي لنفسها كوميديا الفردوس السّابع وسط مشهد تتكلم فيه الجدران، وبما أن مجلس العشرة قد نصب فيها صناديق بريديّة على شكل رؤوس أسود أفواهها مفتوحة، حيث يمكن لكلّ فرد التبليغ عن جاره، فقد وُجد بالفعل، في أعماق الفينيسي، انقسامٌ بين الأنا والهو (غونتر أندرس)، بين الـ«أنا» والـ«ذاتي» (جورج هربرت ميد)، بين المانا ووجهه الخاص (إرفنغ غوفمان)…لقد كان مواطن سيرينيسيما يشعر، منذ ذلك الوقت، بالخجل من كونه مجرّد ترس في الآلة المسرحيّة الفينيسية. وكما الإنسان الحديث، كان الفينيسي مطالباً بـ«إثبات الورع الذي تلهمه له الأشياء، بمحاولة تقليد “الآلات” وبالسعي إلى إصلاح نفسه، أو على الأقل إلى “تحسينها”، عبر تقليص هذا “التخريب” الذي يقوم به، سواء شاء ذلك أم أبى، بسبب “الخطيئة الأصلية” التي تمثلها ولادته.»

وإذا أصبح كازانوفا مشهوراً، فليس بسبب كتبه أو أسلوبه (فكتابة كازانوفا هي من بين الأجمل التي قرأتها)، ولكن لأنّه قد نجح أوّلاً في الهروب من إي بليومبي وممارسة الرحلة إلى جسر التنهدات في الاتجاه المعاكس. لحظة واحدة، كان كازانوفا هو الحذاء الذي دمّر الآلة الفينيسية ونظامها… ها هو ملاك جديد يحلّ بنا، هنا مرّة أخرى.

لوحة لرالف رومني

في الخمسينيات، لم تنشأ فكرة تحويل الانجراف السريالي إلى ممارسة ثورية فقط في أذهان الليتريست، الذين كان ديبورد الشاب واحداً منهم، بل اخترعها أيضاً فنان إنجليزي، رالف رومني، في الوقت نفسه، بينما كان طالب فنون بمدينة هاليفاكس البريطانيّة. وصلت السيكوجغرافيا، بوصفها ممارسة للانجراف، عبر مسارات مختلفة عن تلك التي سلكها والتر بنيامين، إلى أطروحات حول مفهوم التاريخ: أي ثقب الإبرة، ذلك البحث عن باب القدس الذي قد تندفع من خلاله الثورة. كما كتب الفيلسوف مارك فيشر في سنوات 2010 في مقاله الشيوعية الحمضية: «يمكن استشراف الأثر الذي يتركه عالم يمكن أن يكون حرًا داخل البنى ذاتها للعالم الواقعي الرأسمالي، الذي يجعل الحرية مستحيلة.»

وُلدت السيكوجغرافيا، باعتبارها بحثاً عن أنماط حضريّة جديدة انطلاقاً من الخرائط العقارية للعالم القديم، مع التحرير، في اللحظة التي تعرضت فيها باريس ولندن، بسبب القصف، إلى الأمركة. في كتاب القنصل، وهو سلسلة من الحوارات مع رالف رومني أجراها الكاتب جيرار بيريبي عام 1999، يروي هذا الأممي الموثقيّ السّابق بدايات حياته في الانجراف بهذه الكلمات:

“لقد تعرّضت لندن [بعد التحرير] لأضرار جسيمة بسبب قصف الحرب الأخيرة. كانت هناك أنقاض في كل مكان. عُيّن شخص يدعى بوشانان، كمندوب عن الحكومة، لإعادة بناء المدينة. كانت خطته الحضرية دقيقة، وتم تنفيذها: أراد بناء طرق في كلّ مكان تستعملها السيارات التي كان من المفترض أن تزداد مع الازدهار الجديد للصناعة. كنت أقول إنه تسبب في دمار للندن أكثر مما فعله لوفتفافه (سلاح الجوّ الألمانيّ).”

منذ بداية الخمسينيات، أدرك الطالب في الفنون رالف رومني في إنجلترا أنّ باريس لم تعد، كما كان الحال في القرن التاسع عشر، النموذج الحضري الذي تُبنى عليه المدن الكبرى مثل لندن، بل أصبحت لوس أنجلوس هي المرجع: مدينة ضخمة شُيّدت وفق قواعد صارمة، أحياؤها مقطعة بدقة كما هو الحال مع الحدود الاستعمارية في إفريقيا، حيث السيارة هي الملك والإنسان خادمها. قال رومني: «كنتُ متأكداً منذ عام 1952 أنّ كل هذا لم يكن صائباً. كانت عملية تحديث على الطريقة الأمريكية، أرادوا تحويل لندن إلى لوس أنجلوس. أما أنا، فكنت أريد أن تصبح لندن مدنًا مخصصة للمشاة. كنت أتمنى أن تعود إلى تكوينها الأصلي كمجموعة من الأحياء. كنت أعتقد أن المحاور الطرقية يجب أن تُبنى على أطراف القرى المحيطة بلندن.»

اضطرت العواصم بعد الحرب إلى التكيف لتشبه لوس أنجلوس، من أجل دفع صناعة السيارات إلى الأمام على مستوى العالم، وجُعل الإنسان عبدًا جديدًا، لا لخدمة الأرض كما في الماضي، بل لخدمة محرك آلة ذات أربع عجلات: أصبح العالم شبكة طرق كما نعرفها اليوم.

كان والد رالف رومني قسًّا اشتراكياً، وكان قد تتلمذ على يد المؤرخ الشيوعي الإنجليزي إدوارد تومبسون. في تلك الفترة، اختار رومني رفض أداء الخدمة العسكرية، وحصل على وضعية “رافض الضمير”، مما جعله عرضة للملاحقة القضائية في إنجلترا. دون أي مال، فرّ إلى باريس، حيث التقى في حي سان جيرمان دي بري بغاي ديبور واللتريين، الذين تبنوه بطريقة أو بأخرى. في جوهره، يتمثل الموقف السيتواسيوني في البحث عن “المواقف” داخل النسيج الحضري للمدن: استكشاف أماكن جديدة أثناء التجول العشوائي، أو حتى خلق أماكن خاصة بشكل عفوي ضمن مساحة حضرية معينة، حيث «يمكن للأفراد تعزيز شعورهم بالوجود وتحقيق رغباتهم الشخصية دون وساطة أو أوامر.»

في عام 1957، سافر رالف رمني إلى إيطاليا، إلى بلدة كوزيو دي أروشيا، حيث تأسست الأمميّة الموقفيّة على يد غي ديبور. وبهذه المناسبة، أنشأ رمني “اللجنة السيكوجغرافية للندن”، والتي كان على نحو مفارق العضو الوحيد فيها. قبل ذلك بعدة أشهر، كان قد كتب إعلانًا لمؤتمر مؤقت حول “تفكيك التخطيط السيكوجغرافي لتجمع لندن العمراني”، في معهد الفن المعاصر بلندن، حيث جاء فيه:

“ستتخذ هذه العملية أشكالاً متعددة، وأحيانًا عنيفة. وتكمن فائدتها الأساسية في دراسة تأثير سلسلة متتالية وسريعة من الصدمات على مركز حضري حديث، صدمات محسوبة لإدخال عنصر من عدم اليقين في التنظيم الاجتماعي والعاطفي للمدينة، وذلك لفترة محدودة لا تتجاوز الشهر.”

بطبيعة الحال، كان هذا الإعلان مجرد خطوة استعراضية لمنح الموقفية الطابع الدولي الذي كانت تفتقر إليه آنذاك.

في تلك الفترة، كان رمني يعيش مع بيجين، ابنة راعية الفنون الأمريكية الثرية بيغي غوغنهايم. كان قد التقاها في باريس خلال إحدى السهرات، حيث وقع كلاهما في الحب من النظرة الأولى، مما أثار غضب غوغنهايم، الأم المتملكة، التي لم تتوقف بعد ذلك عن محاولاتها للتخلص من رمني. فمن وجهة نظرها، لم يكن هذا الرسام الإنجليزي يستحق ابنتها، وكان له تأثير سيئ عليها.

كانت بيغي غوغنهايم تقيم جزئيّاً في البندقية، حيث تمكنت من عرض بعض أعمال مجموعتها في قصر فينير دي ليوني على القناة الكبرى. حينها، اقترح رمني على جي ديبور تنظيم تجربة “انجراف” في مدينة البندقية من أجل العدد الأول من مجلة “الأممية الموقفية“:

“كانت الفكرة تتمثل في رسم مسار يُظهر أحياءً لا يزورها أحد، وهي مختلفة تمامًا عن المشاهد المعتادة للقناة الكبرى. كانت الفكرة تهدف إلى نزع الطابع الاستعراضي عن البندقية من خلال اقتراح مسارات غير مسبوقة. فالسيكوجغرافيا تهتم بالعلاقة بين الأحياء والحالات النفسية التي تثيرها. فالبندقية، مثل أمستردام وباريس القديمة، توفر إمكانيات متعددة للانفصال عن الواقع.”

كان الهدف بالنسبة لرمني أن يستعيد الإنسان مدينة البندقية، وأن يسير فيها بحرية وسلطة عبر أزقتها وجسورها، بدلاً من أن يكون مجرد مستهلك سلبي لديكورها. باختصار، كان الهدف تحقيق اغتراب داخل البندقية يُحرّرها من ثقل تاريخها، وخلق تجربة شعريّة للمدينة تكون فرديّة وعامة في آنٍ واحد، تماماً كما فعل كازانوفا عندما عبر جسر التنهدات في الاتجاه المعاكس.

برونو لوموان

كاتب

سرديات: ماتاشين و ما بعد يوميات نيجينسكي عن دار النشر أل دانتي

أنطولوجيا الشعر المعاصر: «الرجل التقريبي» (كتاب + فيلم DVD مع الكاتب فرانسوا دومينيك) عن دار النشر أل دانتي

شعر معاصر: مجلات أكسيون بويتيك، نيُك، نهاية الحواف، مجلة ريس بويتيكا، دوكس… إنجاز مجلة الشعر والفن القائمة السوداء

مقالات ودراسات: مجلات الفن الحالي إنتر (Inter art actuel)، مجلة الموارد (La Revue des Ressources)، سياسة المؤلف (Politique de l’auteur).
«نحو هانتولوجيا للسينما»، منشورات لا نيرت، دجنبر 2023.

  • عن طرس
  • ميثاق التّحرير
  • الشفافية المالية
  • مخزن
  • كُتّابنا
  • حانوت
  • خريطة الموقع
  • للاتصال

© جميع حقوق النشر محفوظة 2025 طرس

«وردٌ ورمادْ» أو حرائقُ الأدب المغربيّكُرديٌّ ثائر
Scroll to top