تنشر طِرْسْ الترجمة العربيّة للجزء الأول من ثلاثيّة تقويض البُندقيّة للكاتب الفرنسيّ برونو لوموان، والتي سبق وأن نشرتها المنصّة في نصّها الأصليّ.
***
نحن بصدد نهاية فيلم ندور في الليل وتلهمنا النار (In girum imus nocte et consumimur igni) لغي ديبور، آخر أفلامه (1978). يتابع المشاهد، منذ ما يقرب من ساعة، صوراً التقطتها كاميرا تنجرف فوق المياه التي تحيط بالبُندقيّة. «لماذا البندقية؟» يتساءل الآن. «ما العلاقة بين مدينة الدوجة ونقد مجتمع الفرجة؟» حركة تصوير بطيئة وجميلة فوق البحيرة – مقبرة سان ميكيلي، جزيرة الموتى قد أصبحت خلفنا الآن – وصوت غي ديبور الحزين يستحضر مسيرته في إذكاء الجمر للوصول إلى ثورة لن تحدث. صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود، تقشفية ومتقنة، فيلم الـ35 مم يقترب من نهايته. يتساءل ديبور عندها:
« وأنا، ما الذي أصبحت عليه وسط هذا الغرق الكارثيّ الذي أجده ضرورياً؟ غرق يمكن حتّى القول إنني ساهمت فيه، إذْ من المؤكد أنّني امتنعت عن العمل على أيّ شيء آخر؟ هل يمكنني أن أطبّق على هذه اللّحظة من حياتي ما كتبه شاعر من حقبة تانغ عند وداعه لمسافر:
“ترجلتُ عن حصاني؛ قدّمتُ له نبيذ الوداع، وسألته عن غاية رحلته.”
فأجابني: “لم أنجح في شؤون الدنيا؛
أعود إلى جبال نان شان لأبحث هناك عن الراحة.” »
كان منغ هاوران، المسافر الذي يتحدث عنه ديبور، معاصراً للشاعر هانشان؛ وكان أيضاً عالماً في عهد سلالة تانغ الحاكمة، سعى إلى بناء مسيرة أدبية، لكن طموحاته خابت بعد تجاوزه سن الأربعين، فعاد، على ما يبدو، إلى جبال طفولته ليتذوق الشعر ويكتبه. هنا تنتهي أوجه التشابه بين هانشان ومنغ هاوران: كلاهما كان نساكاً في عصر واحد، لكنّ الأوّل قطع كلّ صلة بماضيه إلى حدّ نسيان الطريق الذي أوصله إلى هانشان، بينما لم يفعل الثاني ذلك. لم يكن منغ هاوران هانشان، ولم يختفِ في نان-شان، الجبل الذي اختاره ليكون آخر مقام له: ظلّ منغ هاوران هو منغ هاوران، وحده هانشان اختفى.
يمكن العثور على ترجمة قصائد هانشان إلى الفرنسية، انطلاقاً من الترجمة التي قام بها شاعر جيل البيت، غاري سنايدر:
“«الجبل البارد» بيتٌ
بلا عوارض ولا جدران،
أبوابه الستة، يميناً ويساراً، مفتوحة،
وقاعته هي السّماء الزّرقاء.الغُرف كلّها فارغة وغامضة،
والجِدار ينخفض على الجدار الغربيّ.
وفي الوسط، لا شيء.ّ
كما فعل غاري سنايدر من قبل مع هانشان، يبدو لي أنّ ديبور يتماهى الآن مع منغ هاوران وهو يشقّ طريقه نحو جبال نان-شان. بما أنّ الثورة لم تحدث، فإنّه يسعى بنفسه لأنْ يصبح هذا الجبل. على أيّ حال، يبدو لي أنّ كلمة هانشان قريبة جداً من نان-شان بحيث لا يمكنني إلاّ أن أخلط بينهما في ذهني.
الحجارة المكسوة وشعر الجبل البارد هو أوّل كتاب لغاري سنايدر نُشر في الولايات المتحدة عام 1959. وفي عام 1969، بينما كان مدّ الهيبي يتراجع في سان فرانسيسكو، دعا سنايدر قرّاءه إلى مغادرة المدن والعيش داخل “قبائل” في الريف. بما أنه لا يمكن لأيّ حركة مستقلة أن تنشأ من المدن الحديثة، وبما أنّ الثورة لم تحدث، فلنذهب إلى الطبيعة لنبحث عن حريتنا بأنفسنا. في مقاله المُعنون لماذا القبيلة، صرّح سنايدر بهذا الصدد: «لم تعد الثورة مسألة إيديولوجيّة. بدلاً من ذلك، يحاول الناس تنفيذها مباشرة: وذلك من خلال الشيوعية داخل مجتمعات صغيرة، وعبر أشكال جديدة من التنظيم العائلي.»
«بما أنّ مايو 68 لم يحدث، سأعود إلى جبلي»، هكذا يواصل، هنا والآن، بالنّسبة لي، غي ديبور