إنّ استوديو “غيبلي”، المعروف بشكل خاصٍّ من خلال أعمال هاياو ميازاكي، ليس بمثابة “ديزني” اليابان، بل إنّه نقيضها تماماً. فقد تمّ إنشاؤه من قبل رسّامين من الحركة الشيوعية اليابانية، وتحتفي كلّ إنتاجاته الفيلميّة بالعمل الإبداعيّ والتضامن الإنسانيّ ضدّ الرأسماليّة والحرب.
تعود جذور أحد أنجح استوديوهات الرّسوم المتحركة في العقود الأخيرة إلى “توي دوغا” (Toei Doga)، وهو قسم الرسوم المتحركة في واحدة من أكبر شركات السينما باليانان. في منتصف الستينيات، كانت ظروف العمل في هذا القطاع قاسية للغاية، حيث كان يتعيّن على فِرَقِ الرسامين إنتاج مئات الرسومات يوميّاً لأفلام الرسوم المتحركة التلفزيونية الشهيرة مثل “أسترو بوي” (أسترو الروبوت الصّغير).
كانت المواعيد النهائية للإنتاج ضيقة ولم تكن الجودة ذات أهميّة؛ بل إنّ رسّاماً واحداً من كلّ مجموعة على الأقل كان يموت أثناء العمل. كان الشابان هاياو ميازاكي (1941-) وإيساو تاكاهاتا (1935-2018) من أبرز المندوبين النقابيين في استوديو “توي”. وهناك صورة لميازاكي الشاب وهو يحمل مكبّر صوت في يده، وذلك خلال تزعّمه لإضراب عُماليّ. بعد مُضيّ عشرين عاماً، أسّس كلّ كم ميازاكي وتاكاهاتا مؤسستهما الخاصة: استوديو غيبلي.
كان على استوديو “غيبلي” أن يصير كلّ ما لم تكن عليه الاستوديوهات الأخرى، وذلك رغم بقاءه داخل مجال إنشاء الترفيه الشعبي. تُظهر رسومه المتحركة السلسة والغنية بشكل علني مخاطر تدمير البيئة والحرب والرأسمالية، لكنّها، بطريقة ما، مثل بطله المعروف بـ”الخنزير الأحمر”، تحلق تحت الرّادار السياسيّ.
لم يتوان ميازاكي على الإعلان: “يجب أن أقول إنني أكره أعمال ديزني”، وقد كان إعلانه متزامناً مع توقيع “غيبلي” في عام 1996 اتفاقية توزيع دولية مع تكتل الشركات المتعددة الجنسيات. إنّ أفلام “غيبلي” ليست دعائيّة البتّة، ولكن بطريقة مريحة، أسست لنوع خاص جدا من الإيكولوجيّة الاشتراكيّة. إنّ ميازاكي وتاكاهاتا من بين عدد قليل من المخرجين الماركسيين الذين كان الناشط الاشتراكي ويليام موريس (1834-1896) سيعترف ويزهو برفقتهم.
في الوقت نفسه، لم تكن التوجهات السياسية لغيبلي سراً على أحد. ففي عام 1995، وصف المخرج مامورو أوشي (1951)، المعروف بإخراج “باتلابور” و”الشبح في القشرة”؛ وصف إيساو تاكاهاتا بـ”الستالينيّ”، ونعتَ هاياو ميازاكي بـ”التروتسكيّ إلى حد ما”، وشبّه استوديو غيبلي بالكرملين. كان استوديو “توي”، مثل العديد من الاستوديوهات في الستينيات، يخضع إلى حدّ كبير لسيطرة الحزب الشيوعيّ اليابانيّ، وعلى الرغم من أنّ ميازاكي أكّد أنه لم يكن عضواً منتظماً فيه، إلاّ أنه لا يوجد شك في أن تاكاهاتا وميازاكي كانا من المتعاطفين مع الحزب.
تَظهر بعض الإشارات الماكرة إلى هذا الأمر في أفلامهم. فعلى سبيل المثال، يرفض البطل في فيلم “بوركو روسو” (1992)، الانضمام إلى سلاح الجو في ظل حكم بينيتو موسوليني قائلاً: “من الأفضل أن تكون خنزيراً على أن تكون فاشيّاً”. وفي أحد المشاهد، تُغنّي حبيبته جينا نشيد “زمن الكرز“، وهو نشيد الكومونة الباريسيّة. لكن الرؤية السياسية لغيبلي تتجلى بشكل خاص في أعمالهم التي تتناول الريف، سواء في اليابان أو في مواضع أخرى من العالم، حيث يظهر الريف كحلم وكابوس في الآن نفسه.
يوجد استوديو “غيبلي” في طوكيو، أكبر مدينة في العالم، وربما يكون غياب منطقة ريفيّة قريبة من العاصمة هو ما أعطى أهميّة إضافية لعمل الاستوديو… في فيلم “جاري توتورو” (1988)، تساعد مخلوقات من غابة خياليّة ومتحولة على تهدئة طفلين من المدينة حيث تتعافى والدتهما من مرض مزمن. لكن أحد أكثر العوالم الحالمة التي تكشف عن القول السياسيّ لدى استوديو “غيبلي” يظهر في فيلم “قلعة في السماء” (1986)، حيث ينطلق فتى من قرية تعدين لاكتشاف القلعة العائمة المدمرة التابعة لمجتمع تكنولوجيّ متقدم أصبح مهجوراً، ويتنافس عليه الآن أرستقراطيّون أشرار. استُوحيَت مناظر الفيلم بشكل مباشر من زيارة قام بها ميازاكي وتاكاهاتا إلى جنوب ويلز عام 1985.
كانا الصديقان يعتزمان إنتاج فيلم عن الثورة الصناعية، وانطلقا في رحلة بحث إلى منطقة الوديان (South Wales Valleys)، وهي منطقة ذات مناظر طبيعيّة غريبة تجمع بين الريف والصناعة، وتتداخل فيها المنازل المدرجة مع الجبال والمناجم ومصانع الفولاذ. بالنسبة لأيّ شخص يعرف الوديان، فإن الفيلم يثير شعوراً غير مريح إلى حد ما، ولكن جنوب ويلز لم يكن مجرّد مصدر للإلهام البصري بالنسبة لهما. فقد حدث أنهما زارا المنطقة بعد إضراب عمال المناجم في عام 1984-1985. وفي العام التالي، أعرب ميازاكي عن إعجابه بـ”المعنى الحقيقي للتضامن” الذي وجده في قرى التعدين. كذلك يتّضح أنّ الفيلم قد تأثر بجلاء بما حدث.
مثل فيلمهم السابق، الخرافة البيئيّة مابعد-الكارثة، “ناوسيكا أميرة وادي الرياح” (1984)، فإنّ فيلم “قلعة في السماء” (1986) يؤكد على رؤية خاصة للطبيعة والعمل. رغم المشاهد المروعة في بعض أفلام “غيبلي”، لم يسعَ الاستوديو أبداً إلى الغوص في الموضة والكراهة. في عام 1982، تحدّث ميازاكي عن رفضه لموجة الكوميك الياباني “جيكيغا” (gekiga) التي ظهرت بعد موجة ماي 1968، والتي كانت تتسم بالنظرة العدميّة، وقال إنه قرّر أنه “من الأفضل التعبير بصدق أن ما هو جيد فهو جيد، وما هو جميل فهو جميل، وما هو رائع فهو رائع”. هكذا نفهم أنّ العمل اليدويّ هو واحدٌ من الأشياء التي قدمها ميازاكي وتاكاهاتا بشكل متكرر كأشياء جميلة.
من المسابك في فيلم “قلعة في السماء” إلى العاملات اللّواتي يقمن بتجميع الطائرات في “بوركو روسو”، بقيت أفلام غيبلي مليئة بالصور التي تحتفي بالناس وهم يشتغلون الأشياء بأيديهم. يمكن بسهولة تصوير أفلام غيبلي على أنها معادية للتكنولوجيا، نظرًا لكمية الدمار البيئي التي تظهر في أفلامهم، وخاصة في الأفلام الأحدث مثل “بونيو على الجرف” (2008) التي تتناول بوضوح التغير المناخي.
لكن استوديو غيبلي يميل أكثر إلى التمييز الذي استلهمه من ويليام موريس بين “العمل المفيد” و”العمل غير المفيد”، وهو ما يظهر بشكل خاص في مشهد العمل الدؤوب الذي لا ينتهي والمُنظم بشكل استبدادي في فيلم “الرحلة إلى تشيهيرو” (2001). في عام 1979، انتقد ميازاكي المسلسلات التلفزيونية التي تعتمد على روبوتات “ميكا” (mecha)، والتي بدأ اليابان يُعرف بها في الخارج، بسبب النهج الطفولي والبعيد عن الواقع تجاه التكنولوجيا في هذا النوع. كان يفضل أن “يقاتل البطل من أجل بناء آلته الخاصة، ويصلحها عندما تتعطل، ويجب عليه أن يديرها بنفسه”.

“قبر اليراعات” (1988)
“إدارتها بنفسه” هو بالضبط ما يفعله الناس في أفلام غيبلي، حيث يعبرون عن أنفسهم من خلال العمل الذي يقومون به بأيديهم. يمكن لأفلام ميازاكي أن تعبر في آن واحد عن الإعجاب بإنجازات العمل البشري والرعب من عواقبه، كما في فيلم “الريح تعلو” (2013)، وهو فيلم تاريخي تدور أحداثه في الثلاثينيات يصور بمحبة تطوير وبناء طائرة “ميتسوبيشي A6M” ويظهر كيف تم استخدامها من قبل الإمبريالية اليابانية.
ظل تاكاهاتا ماركسيًا حتى وفاته في عام 2018، بينما فقد ميازاكي إيمانه بالماركسية في التسعينيات أثناء إكمال النسخة المانغا من فيلم “نوسيكا في وادي الرياح”.
وفقًا لميازاكي، فقد مرَّ بما يمكن للبعض اعتباره “استسلامًا سياسيًا”، أي أنه قرر أن “الماركسية كانت خطأ”. وأوضح أن هذا التغيير لم يكن نتيجة لأحداث سياسية أو شخصية، بل كان رفضًا فلسفيًا للرومانسية العمالية – حيث قال: “الجماهير قادرة على القيام بعدد لا نهائي من الحماقات”، كما كان رفضًا لـ”المادية الماركسية” وفلسفة التقدم المادي.
لخص ميازاكي تطوره السياسي قائلاً إنه “عاد ليصبح شخصًا بسيطًا”. وربما لعبت حقيقة أنه شريك مالك لشركة ناجحة مدعومة من ديزني دورًا في هذا التحول. ورغم أن ظروف العمل في استوديو غيبلي معروفة بأنها أفضل بكثير من معظم استوديوهات الأنيمي اليابانية، فإنه لا يزال مؤسسة رأسمالية، تحقق ملايين الدولارات من بيع المنتجات المشتقة.
ومع ذلك، ظل ميازاكي واستوديو غيبلي يحافظان على نفورهما من الحرب – حيث قد لا يوجد فيلم أقوى ضد الحرب أكثر من فيلم “قبر اليراعات” (1988) لتاكاهاتا – وأيضًا ضد الإمبريالية. أثار تصوير الفاشية اليابانية والألمانية في فيلم “الريح تعلو” (2013) غضب القوميين اليابانيين، بينما كان فيلم “قلعة هاول المتحركة” (2004)، آخر أعمال ميازاكي العظيمة، بمثابة تعبير عن “غضب” المخرج تجاه حرب العراق، حيث رفض السفر إلى الولايات المتحدة أثناء تلك الفترة. تُعد القلعة المتحركة في الفيلم، وهي آلة عضوية ومتغيرة ومتجاوبة، واحدة من أقوى صور ميازاكي لتكنولوجيا غير مغتربة. وبالمثل، لم يتصالح ميازاكي أبدًا على المستوى الفلسفي مع الرأسمالية: فيلم “الرحلة إلى تشيهيرو” مليء بالصور المرعبة للاستغلال الصناعي وسيطرة الطبقات تحت ستار الخيال الطفولي.
يمكن فهم رؤى استوديو “غيبلي” الدقيقة حول التنمية بجلاء في بعض أفلامه الأكثر هدوءاً. يتناول فيلمان من التسعينيات مدينة “تاما” الجديدة، وهو مشروع تطوير حكوميّ ضخم قضى على مساحات شاسعة من الريف خارج طوكيو خلال السبعينيات، والفيلمان هما “بوم بوكو” و”لو كنت هنا”. تم إنتاج “بوم بوكو” في عام 1994، وهو انتقاد بيئي على نحو مُتوقّع من غيبلي، حيث تتآمر “التّانوكي” – وهي كلاب الرّاكون التي تعتبر في الفولكلور الياباني كائنات ذات حياة مزدوجة، فهي في الوقت نفسه حيوانات عادية ومخلوقات تمتلك قوى سحرية مثل التحول – تتآمر “التّانوكي لمنع بناء المدينة الجديدة.
إنّه فيلم كوميدي رائع ووصف متفائل بشكل غير عادي للثوار غير البشريين مقارنة بأي شيء كتبه جورج أورويل. ولكن، بمجرد أن تصبح مدينة “تاما” الجديدة واقعاً، فإنّها تتحوّل إلى المكان الذي تجري فيه قصة الحب المراهقة العادية ظاهرياً في فيلم “لو كنت هنا” الذي أنتج العام 1995: تعيش فتاة مراهقة في مشروع إسكان اجتماعي يُدعى “دانشي” – وهو سكن اجتماعيّ تم تشييد وحدات كثيرة في “تاما” – وتقع في حبّ فتى يعيش داخل حيّ قديم وأغنى قليلاً من المدينة.
يتم تصوير التناقض الطبقي والجاذبية بين الاثنين، بمساعدة قطة شبحيّة، إنسانيّة الشكل، دون مرارة، ويتم تصوير المشهد الحضري بحب ودقة: صورة للحداثة اليابانية بكونها شيئًا لطيفًا وإنسانيّاً. ربما يعكس هذا رفض ميازاكي للصراع الطبقي، لكنه يمثل أيضاً جزءاً من استجابته للعدميّة بجميع أشكالها. هنا أيضاً، في المناظر الطبيعية الحديثة، ما هو جميل يبقى جميلًا.

“مطر الذكريات” (1991)
أكثر أفلام استوديو غيبلي جدلية، وربما أكثرها ارتباطًا بالماركسية، هو فيلم “مطر الذكريات” (1991) لتاكاهاتا. في هذا الفيلم، تسافر “تايكو”، امرأة في الثلاثينيات من عمرها غير راضية عن حياتها في طوكيو، إلى قرية للمساعدة في حصاد المحاصيل. يأخذها عامل زراعي شاب في جولة عبر المشهد الطبيعي، حيث الأنهار والحقول والمستنقعات والغابات، جميعها متحركة بحب وتفاصيل دقيقة. تحدق فيها بإعجاب، معبرة عن تقديرها لـ”الطبيعة”. فيلم ديزني كان سيتوقف عند هذا الحد، ولكن ليس غيبلي. المزارع، بابتسامة خفيفة ولكن نبرة ازدراء طفيفة، يؤكد أن كل ما تراه هو نتيجة للعمل البشري. يبدو أنه يعيد صياغة ما كتبه ريموند ويليامز (1912-1988) الماركسي من جنوب ويلز في كتابه “المدينة والريف”، إذ يقول لها: “المدنيون يرون الأشجار والأنهار وهم ممتنون لـ’الطبيعة'”. لكن “لكل بقعة هنا تاريخها الخاص، ليس فقط الحقول والأراضي الزراعية. لقد زرعها أو حرثها جد شخص ما منذ زمن بعيد”. في نهاية الفيلم، تقرر “تايكو” البقاء في القرية، تحديدًا لأنها مرت بتجربة العمل داخل مجتمع، وليس فقط كمشاهِدة أو متأملة.
العوالم الخيالية التي يصنعها استوديو غيبلي هي مناظر طبيعية للإنتاج ومساحات للتضامن. وفي هذا الفيلم الأكثر واقعية، نجد صورة صغيرة لما يمكن أن يكون يوتوبيا حقيقية.
نشر هذا المقال بالانجليزيّة في مجلة جاكوبين.
ترجم إلى العربيّة من طرف فريق “طِرْسْ”
أوين هاثرلي (ساوثهامبتون، 1981)
محرر قسم الثقافة في مجلة جاكوبين ومؤلف العديد من الكتب، بما في ذلك “المتروبول الحمراء: الاشتراكيّة وحكومة لندن”.