“هذه صورة حيّة لقصّة واقعيّة، قصّة نساء المهديّة اللاّئي رهنّ حليّهنّ غداة استقلال تونس ليُمكّنّ مصانع البلاد من العمل بعد تعطيلها ويشاركن بقسطهنّ إلى جانب الرّجل في رفع مستوى الاقتصاد التونسيّ بتأسيس تعاضديّة لتصبير الأسماك. إلى نساء المهديّة نهدي هذه السّطور وفيهنّ نحيّي المرأة التّونسيّة العاملة المُتحرّرة”.
ليست هذه قصّة تناقلتها الأفواه من أمد بعيد… وليست خرافة وصلت إلينا من خلال الدّهور… قصّتنا هذه حديثة حيّة، ولكن قد تتداولها الألسن، وتتناقلها الأفواه في ربوع بلادي…
يرويها لك الصيّادون، وهم على شاطئ البحر، يرتقون شباكهم، أو يتغنّون بها، وهم يرفعون الشِّراع، ويستمرّ عناؤهم، وهم يبتعدون عن الشّاطئ حتّى يطويهم الأفق.
ولربّما نقلها أوّل نقلها راع شابّ كان يرعى أغنامه هذا الشّاطئ الأمين.
ثمّ ما لبثت القصّة أن عمّت القطعان تستهوي الرّعاة فتذاكروها وتناقلوها وملأوا بصداها أرجاء السّاحل الفسيح، ومنه أخذها رعاة الجنوب فكانت أغنية أسمارهم في اللّيل عند رجوع الأغنام إلى الحضائر.
وما هذه القصّة إلاّ درّة من القصص تشيد بنساء قريتي.
تقع قريتي على شاطئ البحر في ناحية وسط بين سوسة وصفاقس تغذّيها خيرات البحر، وقريتي بيضاء تفضح نورها زرقة السّماء وزرقة الماء، وسُكّانها قِبلتهم البحر، أصل حياتهم ومنبع رزقهم…
الأطفال في قريتي يصنعون لُعبهم بأيديهم، فإذا هي مراكب وزوارق وفُلك تسبح، وإذا هذه المراكب منبع مسرّاتهم ومشاجراتهم على حدّ سواء…
فهذه منذ حداثة سنّهم، وقبل أن تخضّر أذقانهم يمارسون على مراكب آبائهم بعيداً عن البرّ مهنتهم التي تخلق منهم رجالاً أشدّاء عاملين، وما غير الصّيد أمامهم من مهنة.
وهكذا تمرّ السّنون تتبعها السّنون، منذ أقصى العصور، والمراكب تُغادر هذا الشاطئ ترتاد رزقها، مراكب خفيفة تخشى العطب، ذات مجاديف. مراكب مُحملّة حبالاً وشباكاً وقصباً، تؤمّ شطر البحر لا تلاقي في طريقها غير الصّخور وكثبان الرّمال. ولماذا يتوغّل البحّارة في جوف الأفق والسّمك هنا في انتظارهم؟ فتلقى القصاب والشّباك وزمرة ووحدانا، وإذا ما جنّ اللّيل رجع الصّيادون أدراجهم إلى عقر مينائهم العتيق، فإذا الميناء كالصّدفة تنطبق عند كلّ غروب على هذه المراكب كاللّآلئ… فسيّان عند هؤلاء البحّارة يوم الخصب ويوم الجدب إذ الصّيد كاف لتقويت الأسرة وربّما استطاع البحّار أن يبيع بعض السّمك في المدينة وهو في طريقه إلى بيته الوادع يفعمه هناء العيش وابتسام الأطفال… وما للبذخ من مظهر في قريتي إلاّ في هذه الخلاخل من الذّهب تُطوّق كعاب الحسان تزيّن مشيتهنّ. خلاخل أهداها الرّجال زوجاتهم وقد رصدوا في اقتنائها كلّ ما ادّخروه واقتصدوه من ثمرة أتعابهم وهو يلتقطون الرّزق سمكة سمكة… والعجائز يعرفن، بدورهنّ، متى يتحتّم تسليم هذه الخلاخل إلى بناتهنّ والكنائن…
ثمّ طلع على الشاطئ المركب الكبير ودوّى محرّكه في الأرجاء وهو ينساب في فحيحة نحو البرّ جارفاً كثبان الرّمال ومعها البحّارة من أنباء قريتي…
ولم يطل الزّمن حتّى أصبح البحّارة يرجعون إلى البرّ لا يلوون على شيء: لقد هجر السّمك مخابئه وولّى.
وهكذا بدأ الجوع يتسرّب إلى أحشاء أطفال قريتي. واستشاط البحّارة غضباً لمرأى الشّباك فارغة لا سمك فيها، فاجتمعوا ذات يوم في ساحة القرية وتشاوروا في أمرهم، وذهب بعض الشبّان إلى الرّأي بمهاجمة المركب الذّي أنزل الدّمار على السّاحل… ومن ذا الذّي ينكر عليهم هذا الموقف؟ أليسوا مُحقّين في غضبهم؟ فسورة الغضب كثيراً ما ترجع بالنّفع… ألا تحطّم العواصف شداد الصّخور؟
لكنّ الشّيوخ، وهم أهدأ أعصاباً وأحصف عقلاً، طالبوا الجموع بالتّمعنّ في المشكلة وبحثها من جميع مظاهرها بحثاً دقيقاً مُفصّلاً… هؤلاء أيضاً مُحقّون في تعقّلهم: فخرير الماء يفني الحجارة مع الأيّام، فإذا هي ساحل رمليّ ممهّد.
وبين غضب أولئك ورصانة هؤلاء تمّ الاتّفاق.
كان صاحب المركب الكبير “الطّليان” يقطن في المدينة المجاورة، وكان يعيش من أرباحه الطّائلة إذْ كان يشتري من البحّارة كامل سمكهم، وهكذا كان مركبه في كلّ صباح يمرّ بالميناء العتيق ويلقي حبلاً وراءه لا تلبث الفلك أن تتشبّث به فينساب بها إلى الأعماق للصّيد على بعد خمسة وعشرين ميلاً من المرسى، فإذا جنّ اللّيل رجع المركب إلى القرية يجرّ وراءه ذلك العقد من الفلك إلى الميناء، وغضب النّاس وقالوا: إنّ شغل البحّارة أصبح أعسر وأرباحهم أضأل ممّا كانت عليه ولكنّ صاحب المركب كان يدّعي أنّ التقدم يقتضي ذلك، فما العمل إذن…؟ الصّبر. أليس للأطفال ما يسدّ رمقهم؟ إذن؟
واستمرّت الحال إلى السّنين الأخيرة، بل قل انقلبت الحال بفضل حركة صابرة مستميتة.
أتى استقلال البلاد ثمرة العواصف الشعبيّة والجهاد المستمرّ، ثمرة طيّبة زكيّة طالما اشرأبّت لها أعناق التونسيّين وهفت قلوبهم.
لكن لم تنته المشاكل.
ففي صبيحة استقلالنا، لم يطلع المركب على الميناء، فبقي البحر خالياً ينتظر كالبحّارة طول يومه، وبقيت الفلك مشدودة إلى المرسى، مُحمّلة، بشباكها وحِبالها.
وأتى المساء، فإذا خبر يقول بأنّ “الطّليان” قد عزم على بيع مراكبه في جزيرة صقلية، والفوز بأمواله إلى وطنه. واجتمع الرّجال لتَوِّهم… كيف يمكن الوصول إلى مواقع السّمك دون مركب ذي محرّك؟… وكيف يتصوّر أن يقطع البحّارة تجديفاً خمسة وعشرين ميلاً في الصّباح، ومثلها عند الغروب. ذلك أمر مستحيل! طول النّهار لا يسمح بقطع هاتين المسافتين وقال الشبّان: “لقد طلع على قريتنا وهو يملك مركباً، وها هو يعتزم مغادرتها وله من المراكب ستّة! يجب أن نرغمه على أن يترك لنا منها واحداً”.
ولكن الشيوخ آثروا على ذلك أن يذهبوا إلى صاحب المركب ليستطلعوا الخبر، ووقع اختيار الجميع على الشّيخ عليّ، أحد قدماء البحّارة، والشّيخ أحمد، وهو تاجر مُحنّك، والشّيخ ساسي الذّي شهر بحصافة الرّأي رغم سكوته وقّلة حديثه.
فركب الثّلاثة ظهر أحمرتهم وأمّوا شطر المدينة ليلقوا صاحب المركب.
وطالت المفاوضة وقال المالك: “تريدون أن أترك لكم أحد مراكبي؟ طيّب… ادفعوا فوراً أربعة ملايين فرنك فهو لكم، وإلاّ فأنا تارك هذه القرية وأنتم هالكون… فما تصنعون دون مركب تُحرّكه آلة كمراكبي؟ إنّكم ولاشكّ ستهجرون هذه القرية على أثري، ادفعوا إذن…”.
ندفع… ومن أين لنا ذلك؟ ورجع ثلاثتنا من حيث أتوا كاسفين مخذولين. واجتمع الرّجال مرّة أخرى وفكّروا في الالتجاء إلى مصرف يقرضهم ذلك المبلغ. فعاد ثلاثتنا إلى المدينة، وطال الحديث هنا أيضاً وكثر الجدال… المصرف مستعدّ لقرضهم الملايين المطلوبة لكن أين الرّهن؟ من يضمن له استرجاع ماله؟ وقفل الثلاثة راجعين إلى القرية، وأخبروا الجماعة بعزم المصرف على إرسال أحد خبرائه قريباً إلى القرية ليقدّر قيمة الرّهن.
وأتى الخبير إلى القرية، وطاف بدُورِها، ونظر إليها شزراً واحتقاراً: بيوت من التّراب لا حجارة في جدرانها، مبيّضة بالجير… أيّ رهن هذه البيوت؟… خمسمائة ألف فرنك لكلّ الدّيار بالقرية. خمسمائة لا أكثر.
وقرّر الرّجال آنذا أن تعرض على الخبير أفلاك القرية، ولكنّه نظر إليها شزراً واحتقاراً. فما قيمة أفلاك من الخشب لا مُحرّك لها غير المجداف. خمسمائة ألف فرنك في مقابل كلّ هذه الأفلاك، لا أكثر. خمسمائة ألف وخمسمائة ألف، فرهن القرية فُلكها وبيوتها لا يتجاوز المليون.
ونظر البحّارة إلى بعضهم بعضاً، وقالوا يجب أن نغادر هذه القرية ونرتاد لنا شغلاً في بلاد أخرى. وهجر القرية لا يعني فقط هجر الميناء العتيق والديار القديمة، بل هو هجر كلّ من أسّسوا هذه القرية وشيّدوا دورها بعرق جبينهم ودم أجسادهم، كلّ هؤلاء الذين تضمّهم تربة القرية في جوفها تحت القبور، البيضاء الحديثة والدّكناء العتيقة، وكان النّساء خاصّة يشعرن بالوحشة كلّما فكّرن في مغادرة القرية، وذلك تجمّعن حلقات في المقبرة يودّعن أهليهنّ في صمت وخشوع. وشعر النّساء بثقل المصاب الذي يهدّدهنّ ويُخيّم على أربابهنّ ويجعل مُستقبلهنّ لعبة تذريها الرّياح على حافات الطّريق في التّرحال الذي ينتظرهنّ.
من كان يعيش من البحر يعرف أنّ نباتة “الضّريع” نباتة حيّة إذا ما تشبّثت جذورها بالصّخر فإذا غادرته تهدّد كيانها فهي ميّتة لا محالة.
ووُجد من بين نساء قريتي شابّات رفضن التّفكير في مغادرة القرية، وقُلن: لن يكون مصيرنا مصير الضّريع الميّت. وهرعن إلى الدّيار يطرقنها واحدة واحدة، وانهالت خلاخل الذّهب انهيالاً، وطافت الشّابّات في شوارع القرية يحملن سلسلة من الذّهب اللّماع.
وقال الخبير، وقد فاجأنه بسلسلتهنّ: إذا كان الأمر هكذا، فإنّ المصرف يقرضكنّ أكثر من أربعة ملايين.
وتيقّن شيوخ القرية وحكماؤهم أنّه كثيراً ما تنطوي قلوب النّساء على حكمة أبلغ ممّا يعمّر رؤوس الشيوخ. وهكذا استطاعت قريتي، بفضل الذّهب الذي يطوّق كعاب نسائها بفضل ذهب التقاليد الموروثة، أن تشتري المركب الكبير، مركب العمل، مركب الحاضرة نواة أسطول المستقبل.
وهكذا أمكن رجال القرية، في صبيحة يوم الاستقلال، أن ينشروا الشِّراع على المركب الكبير، يرفرف فوقه العلم الخفّاق، مركبنا وعلمنا، ثمّ يحيّوا في ابتهاج نساء قريتي.
إنّهنّ، وإن خفّت من الخلاخل أرجلهنّ، سيرفعن الرّأس عالياً، ويمشين في طريق النّور قُدماً، همُّهنّ تشييد المستقبل، وهُنّ إليه سائرات وعليه ساهرات.
سبتمبر 1957
مصطفى الفارسي (1931-2008)
أديب تونسي من جيل الثلاثينات. بعد إحرازه على شهادة الباكالوريا، انتقل إلى فرنسا لمزاولة تعليمه العالي في جامعة السربون بباريس حتى أحرز على الإجازة في اللغة والآداب العربية سنة 1955 وعلى شهادة الدراسات الإسلامية العليا من نفس الجامعة سنة 1956 ببحث عن ثورة القرامطة. عاد إثر ذلك إلى تونس ليسجل حضورا بارزا على الساحة الثقافية من خلال مساهمته في الصحافة والإذاعة التونسية والكتابة. وقد اشتغل في الحقل الثقافي، ومن الوظائف التي تولاها إدارة الآداب بوزارة الثقافة التونسية منذ سنة 1971 وإلى إحالته على التقاعد المبكر. كما عُيّن رئيساً مديراً عامّاً للشّركة التونسيّة للإنتاج السينمائي (الساتباك) من سنة 1962-1969، وأشرف كذلك لمدة غير قصيرة على مجلة الأحداث التونسية المصورة. كان عضوا مؤسسا لاتّحاد الكُتّاب التونسيين والجمعية التونسية لحقوق المؤلفين.