Terss
  • Home
  • Header (FR)
  • Test-recherche
  • Accueil
  • Atlas
  • دورات عرض الفيلم
  • بودكاست
  • Optica
  • Echo
  • Index
  • أطلس
  • Marges
  • قُزحيّة
  • Dossiers
  • صدى
  • En jaque
  • فهرست
  • Qui sommes-nous?
  • هوامش
  • Politique éditoriale
  • كِشْ مَلِكْ
  • Contributeurs
  • الملفات
  • Makhzen
  • Transparence
  • Cartographie
  • Plan du site
  • عن طرس
  • ميثاق التّحرير
  • Boutique
  • كُتّابنا
  • Contact
  • مخزن
  • خرائطية
  • خريطة الموقع
  • حانوت
  • للاتصال
  • Header (AR) Bis
  • Footer (FR)
  • Cycles de projections filmiques
  • Header (AR)
  • Podcast
  • Header (FR) Bis
  • الشفافية المالية
  • Search
  • Menu Menu
Menu
  • أطلس
  • قُزحيّة
  • صدى
  • فهرست
  • هوامش
  • كِشْ مَلِكْ
  • الملفات

كُرديٌّ ثائر

مذكّراتُ سوريٍّ في المنفى

فوّاز حسين

لا أذكر جيّدا، لكنني أعتقد أن ذلك قد حدث عام 1958، العام الذي انتقل فيه ألبير كامو إلى لورماران بعد أنْ اشترى بيتاً هناك بفضل أموال جائزة نوبل. كنا قد وصلنا للتو، أنا وأمي وأختي الكبرى، إلى منزل جدتي من جهة الأم في عامودا. كانت ضيعة صغيرة في بلاد الرافدين السورية، بين دجلة والفرات، وعلى سفح سلسلة جبليّة طويلة كانت ُتحسّد الحدود بين سوريا وتركيا. كان عمري خمس أو ستّ سنوات حين أشار إليّ والدي ذات يوم لأتبعه إلى وسط المدينة دون أن يوضح السبب. في دكان تفوح منه رائحة الجلد والصّمغ، طلب منّي الإسكافي الأرمني، وقد كان اسمه انيس وانيسيان، أنْ أضع قدميّ على قطعتين من الكرتون، وأن أقف مستقيماً دون حركة، بل طلب مني ألاّ أتنفس حتّى. وبقلم كان يضعه بين أذنه وجمجمة رأسه الصلعاء، رسم حدود قدميّ. بعد بضعة أيّام، عاد والدي إلى البيت وهو يحمل أوّل حذاء مصنوع خصّيصاً لي. ناولني محفظة مدرسيّة وطلب منّي، للمرة الثانيّة، أنْ أتبعه. بعد الجسر الذي يربط جُزأيِّ مدينة عامودا، كان هناك “الباب العالي”، أيْ جميع المباني الإداريّة التي كان مصيرنا متوقّفاً عليها. عبرنا أمام مركزَي الدّرك والسِّجن. كان كلّ ذلك يًمثل سلطة الدّولة، وكأيّ طفل كردي، كنت أخاف من رجال الشّرطة والدرك، لكن وجود والدي كان يطمئنني.

كان والدي يعرف إلى أين يتجه، فتوقف أمام باب وطرقه. استقبلنا رجل ذو شعر أسود، ولحية سوداء، وملابس سوداء، وحذاء أسود، فتح ذراعيه لنا. كان يرتدي صليبًا كبيرًا من الذهب على صدره. أخرج من جيبه قطعة حلوى وأعطاني إياها. تحدث هو ووالدي بلغة غير تلك التي كنا نتحدثها في بيتنا وفي حيّنا. كانت العربية، لغة القرآن بالطبع، ولغة رجال الدرك الذين كانوا يأتون من أماكن بعيدة ليعلّمونا الخوف. وكانت أيضًا لغة بعض المسيحيين حين لا يتكلمون الأرمنية أو السريانية. قال لي والدي، بالكردية بالطبع وإلا لما فهمت، إن الرجل الذي كان يتحدث معه سيعلّمني عددًا لا نهائيًا من الأمور المفيدة للحياة، وأن عليّ أن أناديه “أبونا”، أي “أبونا السماوي”. وحين اتجه والدي نحو الخروج، تبعته، لكن أبونا دسّ قطعة حلوى أخرى في يدي. طلب مني أن أتبعه إلى أسفل المبنى المركزي وأشار إليّ أن أشدّ حبلاً. بدأت الأجراس تدق، وكان ذلك مهيبًا! وعندما انتهيت، لم يكن والدي هناك، وكانت تلك أول يوم لي في المدرسة.

كان والداي يضعان آمالهما فيّ عندما أرسلاني إلى مدرسة مسيحيّة خاصّة. كان للمسيحيّين في عامودا سمعة طيبة جداً. كانوا يسيطرون على المدينة، إذ كان المال، منذ الأزل، محرّك الحياة السياسية والاجتماعية. كانت الدراسة ثنائيّة اللغة، مع الوفير من العربيّة والشّحيح من الفرنسية. في المدرسة، لم يكن بإمكاني أنْ أسمّي الأشياء بمُسمّياتها. لم تكن اللغة الكردية تُدرّس في أيّ مدرسة من مدارس المنطقة. كانوا يقولون إنها ليست لغة حقيقيّة مثل غيرها من اللغات. لم تكن هناك كتب مدرسية بالكردية، ولا أدب مكتوب بهذه اللغة. وكان يُفهمنا أنه إذا أردنا أن نتقدم في الحياة، فعلينا أن نترك وراءنا هذه “اللهجة” التي تبدو قروية ومتخلفة للغاية، وأنْ نقطع معها كما يقطع المرء مع القمل أو مع الملابس القديمة المهترئة.

كان علينا أن نقتدي بالعرب القادمين من “الدّاخل” ومن “السّاحل”، وأنْ ننسخ سلوك المسيحيين الذين كانوا نموذجاً حياً أمام أعيننا. الكرة كانت في ملعبنا، ومستقبلنا لم يكن يتوقف إلاّ على رغبتنا في التخلص من هذا الإرث. أمّا الطِّفل الثائر، فكان يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى رجل ثائر ليُدين هذا الظلم وهذه المعاناة وهذا العبث، لأنني لم أؤمن يوماً بصحة ذلك الخطاب المليء بالكراهية. عندما كان الحكواتي في العائلة يزورنا ليحكي لنا الأساطير، كنت أدرك جيداً أن الكرديّة لا تقل شأناً عن أيّ لغة أخرى. في كلّ ما كتبته لاحقاً، كنت أخصّص مكانة خاصّة للقصص العجيبة التي كنت أستمع إليها وأنا صغير خلال سهرات الشتاء. وحين تعلّمت العربيّة أخيراً، وتمكّنت من العدّ حتى الرقم عشرة بالفرنسية، كان “أبونا” مسروراً جداً.  فقد كانت إنجازاتي أقرب إلى المعجزة بالنّسبة له. كان يعتقد اعتقاداً راسخاً أنّ رَحِمَ عامودا قد أنجب عبقريّا! كان واثقاً من أنني سأذهب بعيداً في مشواري الدراستي، وكان يراني منذ الآن طالباً في السوربون، في قلب باريس، مدينة الأنوار.

تعود معرفتي باسم ألبير كامو، بصيغتيّ نطق اسمه في العربية أو الكردية، إلى سبعينيّات القرن الماضي. كنت حينها تلميذاً في الثانوية الوحيدة بمدينة عامودا، وما زلت أعيش على الأراضي العائلية الكردية في ميزوبوتاميا، شمال شرق سوريا. لم أكن أعلم شيئًا آنذاك عمّا كان ينتظرني في أوروبا، ولا عن التأثير العميق الذي سيتركه هذا الكاتب المولود في الجزائر على حياتي. كان الفرنسيون، الذين رسموا مع البريطانيين خريطة الشرق الأوسط الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، قد انسحبوا منذ عام 1946، تاركين المجال لجمهورية سورية فتية، لم يمنعها تنوعها الإثني والديني المذهل من إطلاق أولى صرخاتها القومية – البعثية.

تلك المنطقة من العالم، التي تصفها كتب التاريخ المدرسية بأنّها مهد البشرية، المكان الذي زُرع فيه أول قمح، والذي اخترعت فيه الكتابة المسمارية، كانت في النصف الثاني من القرن العشرين تدين بالكثير لبيروت. فقد كانت العاصمة اللبنانية بمثابة نافذة حقيقية على أوروبا الغربية، وعلى الاتحاد السوفييتي آنذاك، وحتى على الأمريكتين البعيدتين. كل الأدب الأجنبي كان يمرّ عبر دور النشر والمترجمين في بيروت قبل أن يصل إلينا، نحن الأكراد القاطنين في حفرة منسية بين دجلة والفرات. لم تكن التلفزة قد وصلت بعد إلى منطقتنا، وفي غياب أي نوع من الترفيه، كنت ألتهم الروايات بنهم، إذ كانت هي الوسيلة الوحيدة التي وجدتها للهروب بعيداً عن أرضٍ كانت الإحباطات تخنقها من كل جانب. كان السينما الوحيدة في المدينة قد احترقت عام 1962، ما أدى إلى مقتل ما بين مئتين وثلاثمئة طفل من أبناء المدينة، ولم يفكر أحد بعد ذلك في افتتاح صالة جديدة. وبالتالي، لم يكن ممكناً أن أفوّت روايتي الغريب والطّاعون الألبير كامو في ترجمة عربيّة، قبل أن أكتشف العملين بلغتهما الأصلية في جامعة حلب، بين عامَي 1973 و1977.

بعد حصولي على إجازة في الأدب الفرنسي، وبجواز سفر عربيّ صادر عن سوريا يحمل تأشيرة إقامة طويلة، وصلت إلى باريس يوم 28 غشت/آب 1978 لمتابعة دراساتي العليا. كان ألبير كامو قد تُوفي يوم 4 يناير/كانون الثاني 1960 في حادث سيارة، لكنّ فكره، شأنه شأن فكر جان بول سارتر، كان لا يزال يخيّم على أجواء حيّ سان جيرمان دي بري الذي كنت أرتاده كثيراً، لا من أجل مقاهيه الفاخرة مثل “دو ماجو” أو “لو فلور”، بل بسبب مطاعمه الجامعية الرخيصة. بعد مناقشة أطروحتي عام 1988، أراد الكاتب الذي كان نائمًا في داخلي أن يُعبّر عن نفسه بحرية، لكن بأي لغة؟ استبعدتُ اللغة العربية فورًا، لأنها كانت الأداة التي قمعت لغتي الأم، فاخترتُ الفرنسية. أما الكردية، فقد كانت في حالة يُرثى لها بسبب التهميش الطويل، وكانت تحتاج إلى عمل عميق. ولكن كيف؟ لم تكن هناك كتب كردية كافية، والمعاجم التي كنّا نستخدمها كقواميس كانت مليئة بالثغرات، وهو ما كان يُشعرني بإحباط كبير.

كان عليّ أن أتحلّى بالصبر إن كنت أرغب في أن نصل، نحن الكرد، إلى اليوم الذي نقرأ فيه روائع الأدب العالمي بلغتنا الأم، وليس بالتركية أو العربية أو الفارسية. في أواخر عام 1992، استقرّيت في ستوكهولم، وهناك، وسط البرد والثلج، تعرّفت إلى جالية كردية جاءت من مختلف أنحاء كردستان، خصوصًا من كرد تركيا الذين فرّوا من الانقلاب العسكري عام 1980. وبفضلهم، عملت كثيراً على إثراء مفرداتي، ليس من أجل الكتابة بالكردية، بل من أجل الترجمة إليها. وبعد عامين من وصولي، حصلت على وظيفة أستاذ محاضر في منطقة لابلاند، أقصى شمال السويد. ويا للمفاجأة! كان من بين كتب السنة الأولى في البرنامج الدراسي روايتا “الغريب” لألبير كامو و”الأمير الصغير” لأنطوان دو سانت-إكزوبيري. بدأت في ترجمتهما.

واجهت صعوبات كبيرة في ترجمة رواية الغريب، خصوصاً في الجزء الثاني حين يقضي مورسو أيامه بين الزنزانة وقاعة المحكمة بعد جريمة الشاطئ. فبالرغم من غنى اللغة الكردية بمئات المفردات المتعلقة بالأغنام ودورة الفصول، فإنها فقيرة جدًا في المصطلحات القانونية، مثل: محامٍ، نقابة المحامين، نقيب، محكمة جنايات، قلم المحكمة، مأمور تنفيذ، مرافعة، تأجيل، أو طرق الطعن… كنت أقضي ساعات في الاتصال بأصدقائي في ستوكهولم، وكان كل منهم يزوّدني بالمصطلحات المتداولة في تركيا أو العراق أو إيران. كانت تجربة غنية جداً، وكما هو الحال مع الأمير الصغير، فقد صدرت رواية كامو أيضًا، بعنوان بياني، عن دار نشر “نودم” في ستوكهولم سنة 1995.

وبعد عودتي إلى باريس سنة 2000، عدت إلى الاشتغال على ترجمة “بياني”، وصدرت نسخته المحسّنة عام 2012 في إسطنبول عن دار نشر “أڤيستا”. أنا سعيد بكوني أوّل كردي يترجم إلى لغته الأم هذين العملين من التراث الثقافي الإنساني. وقد صدر أول قاموس كردي–فرنسي في 2017، وينبغي أن أعود إلى ترجمة رواية الطاعون، التّي شرعت فيها منذ سنوات.

وها هو المطلع من ترجمتي لرواية الغريب إلى الكرديّة:

“ئه‌مڕۆ دایه‌ك مرد. به‌لكی جى دووه‌ بوه‌ — ئه‌ز نازانم. جه‌ مالا پیران ته‌له‌گرافێك بۆ من هات: “دایك مرد، سبێ ده‌خنه‌ خاك. سه‌لامه‌ته‌كانی هه‌لبژێری.” ئه‌م وتار نابه‌ژێت، وه‌تایه‌كی روشنی نییه‌. گویا دووه‌ بوه‌؟”

لقد ترجمتُ إلى الكردية رواية الغريب لألبير كامو، والأمير الصغير لأنطوان دو سانت إكزوبيري، ومقاطع مختارة من كتابات أدباء فرنسيّين من القرنين السابع عشر والثامن عشر، والآن، وقد تقاعدتُ، أرغب في أن أقدّم المزيد.
عندما دعتني «اللقاءات المتوسطية لألبير كامو» إلى هذا الحدث الحالي، أعدتُ قراءة كتاب الإنسان المتمرّد، هذا الكتاب الذي نُشر عام 1951، وكان عزيزاً جدّا على قلب كامو، لكنه سبّب له الكثير من المتاعب مع مثقفي حيّ سان جرمان.

بعد ذلك ألقيتُ نظرة على مجمل إنتاجي الأدبي، فلاحظتُ أنني، منذ البداية، كنتُ أسير في خطّ متواصل مع فكر كامو. كالسيد جوردان في مسرحية البورجوازي النبيل الذي كان يتحدث نثرًا من دون أن يدري، كنتُ أطبق بدقة الخطّ السلوكي الذي يطرحه كامو في الإنسان المتمرّد، والذي أعاد تأكيده في خطابه في ستوكهولم عام 1957:

«مهما كانت عاهاتنا الشخصية، فإنّ شرف مهنتنا سيظل متجذّرًا دائمًا في التزامين يصعب الحفاظ عليهما: رفض الكذب بشأن ما نعرفه، والمقاومة ضد القمع».

لقد مرّ ربع قرن وأنا أكتب وأترجم، وكنتُ دائمًا أرفض الكذب بشأن ما أعرف، وأقاوم القمع، دون أن أكون متهورًا أو متهوّر الفكر.
حين كنت في سوريا، كنت أعلم أن حياة الإنسان تكون في خطر كبير إذا تمرّد على النظام القائم وعلى أيديولوجيا الحزب الواحد. وأظن أن كامو، المثقف الملتزم، كان أيضًا حذرًا خلال سنوات الاحتلال النازي، عندما وصل إلى باريس وكان يستعد لنشر رواية الغريب.

يقول ألبير كامو: «الحرية ليست سوى فرصة لنكون أفضل»، وهذا صحيح، فالحرية التي وجدتها في أوروبا ساعدتني على أن أقدّم أفضل ما فيّ. وجودي في فرنسا وفي السويد مكنني من طرح الأسئلة الصحيحة، وخاصة من عدم الخوف من الإجابات التي كانت تتناقض مع المعارف التي زرعها فيّ الآخرون. إليكم بعض الأمثلة: عندما كنت أعيش في سوريا، كانوا يكذبون عليّ من الصباح حتى المساء. إليكم ثلاثة أمثلة في ثلاثة مجالات مختلفة.

أولًا، فيما يخص الدين الإسلامي، كانوا يعطونا صورة مثالية لا يمكن أن تتماشى مع الواقع. كان يُقال إن النبي محمد قد توفي لينضم إلى حبيبه، وأن الخلفاء الأربعة، أي الأربعة خلفاء، كانوا أمثلة على التسامح والطيبة. وكان يُقال إن الدين انتشر برفق، وأن الناس اعتنقوا الإسلام برغبتهم ودون أي إكراه. لكنني اكتشفت أن رسول الله توفي في ظروف مشكوك فيها، وأن حرب الخلافة كانت دموية. فإذا كان الخليفة الأول قد توفي وفاة طبيعية، فإن الثلاثة الآخرين قُتلوا بطريقة بشعة. وقد تخلصت السلالة الأموية في 661 من جميع أفراد الأسرة الذكور للنبي، وهاجرت إلى دمشق. ثم، في 751، عندما استولت السلالة العباسية على السلطة، انتقمت بقتل جميع الذكور من الأمويين. ونجا رجل واحد فقط، فهرب إلى الغرب وأسس في 751 خلافة قرطبة في الأندلس. فهمت أن الإسلام كان دينًا يسعى للسلطة مثل سائر الأديان الأخرى، وأنه كان يفرض الخضوع والانسياق.

بالنسبة للكذبة الكبيرة الثانية، لم أكن بحاجة إلى التواجد في أوروبا والتمتع بحرية التعبير والتفكير لكشفها. عندما كنا نفتح الصحيفة أو نشغل التلفاز لمتابعة القناة الوطنية الوحيدة، كنا نعتقد أننا في الجنة على الأرض. كانوا يكررون باستمرار إنجازات حزب البعث، إصلاحاته في مجالات التعليم والاقتصاد والصحة. كنا نتعجب كيف أن السويديين والفرنسيين والألمان لا يأتون إلينا لطلب اللجوء السياسي أو الاقتصادي. ومع ذلك، بمجرد أن نغلق الصحيفة أو نطفئ التلفاز، كانت الحقيقة تقفز إلى وجوهنا مع سيطرة أجهزة المخابرات على الأرواح. كان المواطنون السوريون لا يحلمون إلا بالهروب بعيدًا بحثًا عن قطعة من السلام، قطعة من الوطن الآمن، والأهم من ذلك، مستقبل لأبنائهم.

الكذبة الكبرى الثالثة كانت تتعلق بالهوية العربية لمنطقتنا. في عام 1962، قرر حكومة دمشق إجراء تعداد خاص للسكان. كان يدعي أن غالبية الأكراد في المنطقة كانوا قادمين من إيران والعراق وتركيا بهدف خبيث لمحو الخصوصيات الوطنية. ومع ذلك، فإن سوريا مثل العراق ولبنان كانت قد وُلدت حديثًا مثل الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. كانت حدودها مرسومة من قبل الإنجليز والفرنسيين، الفائزين في الحرب العالمية الأولى. كان جدي الأكبر قد مات ودفن على بعد بضع عشرات من الكيلومترات، بينما كان الأشخاص الذين جاءوا لتعداد السكان يأتون من أماكن بعيدة جدًا وكان لديهم لهجة بدو اليمن والسعودية. ​​

في عالمٍ يُحكم فيه البلد بقبضةٍ من حديد ويكون فيه القتلة هم القضاة، يصبح الكردي رجلاً متمرداً بمجرد أن يُعلن عن كرديته ويطالب بخصوصيته اللغوية. كثيراً ما سمعت على ألسنة الجلادين أن “الكردي الجيد هو الكردي الميت والمدفون”. لكن إدراكي لكل هذه المظالم لم يكن كافياً، كان لا بدّ لي من الكلام، من الصراخ بسخطٍ وغضب. في كل ما كتبته، لم أفعل سوى عمل الذاكرة، أشرت إلى الجناة.

في كتابه “الإنسان المتمرّد”، يتناول ألبير كامو مسألة التمرّد الميتافيزيقي للإنسان ضدّ وضعه الوجودي. ويحلّل مطولاً التمرّدات التاريخية مثل الثورة الفرنسية وثورة أكتوبر. غير أن فرادته تكمن في كونه لا يُشرّح أسباب التمرّد بقدر ما يفضح تحوّل حركة التحرر إلى قوة قمعية. يبرهن كامو أن التمرّد لا يمكن أن يبرّر الموت. يقول: «حين يحمل المظلوم السلاح باسم العدالة، يخطو خطوة على أرض الظلم». هذه الفكرة هي المحور الذي يدور حوله كتاب “الإنسان المتمرّد”.

أما أنا، فعلى مدى الأربعين سنة الأخيرة، تأملت في الانتفاضات الكردية. ووجدت أن الكرد المظلومين، حين حملوا السلاح باسم العدالة، خطوا خطوات كثيرة على أرض الظلم. في سوريا، منذ عام 2013، وبعد عامين من انطلاق الثورة السورية، بدأت ميليشيات حزب العمال الكردستاني تدير المناطق الكردية بتوافق مع نظام دمشق. ومنذ أن تمركزت هذه الميليشيات هناك، أخذت عن الجلاد أساليبه في الإخضاع والتسلّط. نعم، لقد قاتلت هذه الميليشيات رجال داعش، لكنها باتت تشبه اليوم، إلى حد بعيد، رجال الشرطة والمخابرات السورية الذين بثوا الرعب في طفولتي.

المنطقة الكردية في سوريا كانت دائماً خزّاناً هائلاً للقمح، وتطفو على حقول نفط لا تنضب. ورغم كل هذه الثروات، فإن الرجال والنساء الذين يعيشون تحت سيطرتها لا يفكرون إلا في الرحيل. الخبز مفقود، والكهرباء نادرة أكثر من المعجزات، فيما أمراء الحرب يأكلون على كل الموائد.

فوّاز حسين ضيف تيكران يغافيَن في بودكاست “الشرق المتعدد” التابع لمعهد المسيحيين الشرقيين، وذلك بعد صدور كتابه المؤثر تكريماً لسايات نوفا (باريس، 2025).

حين سافرت إلى كردستان تركيا في عام 2013، قضيت شهراً أتنقّل من مدينة إلى أخرى. رأيتُ بعضاً من تلك القرى الأربعة آلاف التي تحوّلت إلى أشباح. كانت حرباً زائفة في نظري، حصدت ما لا يقل عن 60 ألف قتيل من الجانب الكردي، لكنها، قبل كل شيء، أجبرت ملايين الأكراد على ترك سفوح جبالهم واللجوء إلى مدن الداخل بحثاً عن ذرة من السلام، مدن مثل إسطنبول. أعتقد أن هذا التمرّد المزيّف صبّ في مصلحة قادة أنقرة والجيش التركي، وساهم في زلزلة أسس المجتمع الكردي بصورة قاتلة.

وأعتقد أيضاً أن على الأكراد أن يتعلموا الكثير من ألبير كامو، خصوصاً من كتابه الإنسان المتمرّد، باختيارهم “طريقاً ثالثاً”، طريقاً مستنيراً، طريق الاعتدال، ذلك الذي لا يجعل منهم ضحايا ولا جلادين. يقول كامو: «ما الإنسان المتمرّد؟ إنه إنسان يقول لا. لكنه، إذا ما رفض، لا يعني ذلك أنه يستسلم: إنه أيضاً إنسان يقول نعم، في أول حركة له».

أكرّر أنّني، في كلّ ما أكتبه، أندّد أوّلاً وأخيراً بزمن القتلة. أتناول حياة البسطاء في بلدي الأصلي، كما أتناول أيضاً أولئك الذين يعيشون في حيّي المهمّش في أطراف باريس. أجدّد عهدي معهم. أترصّد كلّ أشكال اللقاءات، والذكريات، سواء كانت واقعية أو متخيّلة، وأدوّنها على أوراقٍ مبعثرة أبعثرها بدوري في كلّ اتجاه. أعتبر الإنسان الكيان المركزي الأهم في الكون، وأدرك الواقع كلّه من زاوية واحدة فقط: الزاوية الإنسانية، التي تشمل بطبيعة الحال التعدّدية والاختلاف.

كما هو الحال عند كامو، فإن التمرّد بالنسبة لي هو الاعتراف بإنسانية كلّ إنسان، لأنّ ما يتجاوز هذه الأخلاق ليس سوى العدم والموت. أن تعيش التمرّد هو أن تقبل بأن العالم لن يكون مثالياً أبداً، وأنه سيظل رغم ذلك عالماً مشوّقاً. إن الحياة تستحق أن تُعاش. يقول كامو: «هذه المحن الضرورية، يتوقّف علينا أن نجعل منها وعوداً». سأواصل الأمل في أيام أفضل للبشرية. وسأنهي بكلمة من كتابي الأخير إلى أبي، أبي. سأتصرّف كما تصرّف موريس زيلبرشتاين، ذلك اليهودي المسنّ الذي، منذ أكثر من ستين عاماً، يذهب للصلاة مرّتين في اليوم عند حائط المبكى.

منبهرة بهذه المواظبة، تقترب منه صحافية شابّة جاءت من قناة أمريكية. تسأله بدهشة: “كل هذه السنوات من الصلاة! ولكن ماذا تطلب في دعائك؟” يُجيب الشيخ: “أدعو للسلام بين المسيحيين واليهود والمسلمين. أدعو لنهاية كلّ الحروب والكراهية. أدعو لكي يكبر أطفالنا في أمان، ويصبحوا راشدين مسؤولين يحبون غيرهم.” فتسأله الصحافية عمّا يشعر به بعد ستين سنة من الدعاء. فيردّ زيلبرشتاين بجوابٍ يجمع بين حكمة الشرق وسخرية اليهود، وكأنّه معتاد على مثل هذه الأسئلة، قائلاً: “أشعر كأنني أتحدّث إلى حائط !”

فوّاز حسين (سوريا، 1953)

حاصل على دكتوراه في الآداب، وُلد فواز في شمال شرق سوريا في عائلة كردية. وهو مؤلّف لما يزيد عن اثني عشر رواية ومجموعة قصصية، ويقيم حالياً في الدائرة العشرين بباريس حيث يكرّس وقته للكتابة والترجمة. صدر له مؤخراً عن دار المنار كتاب بعنوان «صيف مبعثر»

  • عن طرس
  • ميثاق التّحرير
  • الشفافية المالية
  • مخزن
  • كُتّابنا
  • حانوت
  • خريطة الموقع
  • للاتصال

© جميع حقوق النشر محفوظة 2025 طرس

تقويض البُندقيّة 3/1Poètes errants & vagabonds mystiques: Des Haddaoua du Maroc aux Derviches ...
Scroll to top