تعود معرفتي باسم ألبير كامو، بصيغتيّ نطق اسمه في العربية أو الكردية، إلى سبعينيّات القرن الماضي. كنت حينها تلميذاً في الثانوية الوحيدة بمدينة عامودا، وما زلت أعيش على الأراضي العائلية الكردية في ميزوبوتاميا، شمال شرق سوريا. لم أكن أعلم شيئًا آنذاك عمّا كان ينتظرني في أوروبا، ولا عن التأثير العميق الذي سيتركه هذا الكاتب المولود في الجزائر على حياتي. كان الفرنسيون، الذين رسموا مع البريطانيين خريطة الشرق الأوسط الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، قد انسحبوا منذ عام 1946، تاركين المجال لجمهورية سورية فتية، لم يمنعها تنوعها الإثني والديني المذهل من إطلاق أولى صرخاتها القومية – البعثية.
تلك المنطقة من العالم، التي تصفها كتب التاريخ المدرسية بأنّها مهد البشرية، المكان الذي زُرع فيه أول قمح، والذي اخترعت فيه الكتابة المسمارية، كانت في النصف الثاني من القرن العشرين تدين بالكثير لبيروت. فقد كانت العاصمة اللبنانية بمثابة نافذة حقيقية على أوروبا الغربية، وعلى الاتحاد السوفييتي آنذاك، وحتى على الأمريكتين البعيدتين. كل الأدب الأجنبي كان يمرّ عبر دور النشر والمترجمين في بيروت قبل أن يصل إلينا، نحن الأكراد القاطنين في حفرة منسية بين دجلة والفرات. لم تكن التلفزة قد وصلت بعد إلى منطقتنا، وفي غياب أي نوع من الترفيه، كنت ألتهم الروايات بنهم، إذ كانت هي الوسيلة الوحيدة التي وجدتها للهروب بعيداً عن أرضٍ كانت الإحباطات تخنقها من كل جانب. كان السينما الوحيدة في المدينة قد احترقت عام 1962، ما أدى إلى مقتل ما بين مئتين وثلاثمئة طفل من أبناء المدينة، ولم يفكر أحد بعد ذلك في افتتاح صالة جديدة. وبالتالي، لم يكن ممكناً أن أفوّت روايتي الغريب والطّاعون الألبير كامو في ترجمة عربيّة، قبل أن أكتشف العملين بلغتهما الأصلية في جامعة حلب، بين عامَي 1973 و1977.
بعد حصولي على إجازة في الأدب الفرنسي، وبجواز سفر عربيّ صادر عن سوريا يحمل تأشيرة إقامة طويلة، وصلت إلى باريس يوم 28 غشت/آب 1978 لمتابعة دراساتي العليا. كان ألبير كامو قد تُوفي يوم 4 يناير/كانون الثاني 1960 في حادث سيارة، لكنّ فكره، شأنه شأن فكر جان بول سارتر، كان لا يزال يخيّم على أجواء حيّ سان جيرمان دي بري الذي كنت أرتاده كثيراً، لا من أجل مقاهيه الفاخرة مثل “دو ماجو” أو “لو فلور”، بل بسبب مطاعمه الجامعية الرخيصة. بعد مناقشة أطروحتي عام 1988، أراد الكاتب الذي كان نائمًا في داخلي أن يُعبّر عن نفسه بحرية، لكن بأي لغة؟ استبعدتُ اللغة العربية فورًا، لأنها كانت الأداة التي قمعت لغتي الأم، فاخترتُ الفرنسية. أما الكردية، فقد كانت في حالة يُرثى لها بسبب التهميش الطويل، وكانت تحتاج إلى عمل عميق. ولكن كيف؟ لم تكن هناك كتب كردية كافية، والمعاجم التي كنّا نستخدمها كقواميس كانت مليئة بالثغرات، وهو ما كان يُشعرني بإحباط كبير.
كان عليّ أن أتحلّى بالصبر إن كنت أرغب في أن نصل، نحن الكرد، إلى اليوم الذي نقرأ فيه روائع الأدب العالمي بلغتنا الأم، وليس بالتركية أو العربية أو الفارسية. في أواخر عام 1992، استقرّيت في ستوكهولم، وهناك، وسط البرد والثلج، تعرّفت إلى جالية كردية جاءت من مختلف أنحاء كردستان، خصوصًا من كرد تركيا الذين فرّوا من الانقلاب العسكري عام 1980. وبفضلهم، عملت كثيراً على إثراء مفرداتي، ليس من أجل الكتابة بالكردية، بل من أجل الترجمة إليها. وبعد عامين من وصولي، حصلت على وظيفة أستاذ محاضر في منطقة لابلاند، أقصى شمال السويد. ويا للمفاجأة! كان من بين كتب السنة الأولى في البرنامج الدراسي روايتا “الغريب” لألبير كامو و”الأمير الصغير” لأنطوان دو سانت-إكزوبيري. بدأت في ترجمتهما.
واجهت صعوبات كبيرة في ترجمة رواية الغريب، خصوصاً في الجزء الثاني حين يقضي مورسو أيامه بين الزنزانة وقاعة المحكمة بعد جريمة الشاطئ. فبالرغم من غنى اللغة الكردية بمئات المفردات المتعلقة بالأغنام ودورة الفصول، فإنها فقيرة جدًا في المصطلحات القانونية، مثل: محامٍ، نقابة المحامين، نقيب، محكمة جنايات، قلم المحكمة، مأمور تنفيذ، مرافعة، تأجيل، أو طرق الطعن… كنت أقضي ساعات في الاتصال بأصدقائي في ستوكهولم، وكان كل منهم يزوّدني بالمصطلحات المتداولة في تركيا أو العراق أو إيران. كانت تجربة غنية جداً، وكما هو الحال مع الأمير الصغير، فقد صدرت رواية كامو أيضًا، بعنوان بياني، عن دار نشر “نودم” في ستوكهولم سنة 1995.
وبعد عودتي إلى باريس سنة 2000، عدت إلى الاشتغال على ترجمة “بياني”، وصدرت نسخته المحسّنة عام 2012 في إسطنبول عن دار نشر “أڤيستا”. أنا سعيد بكوني أوّل كردي يترجم إلى لغته الأم هذين العملين من التراث الثقافي الإنساني. وقد صدر أول قاموس كردي–فرنسي في 2017، وينبغي أن أعود إلى ترجمة رواية الطاعون، التّي شرعت فيها منذ سنوات.
وها هو المطلع من ترجمتي لرواية الغريب إلى الكرديّة:
“ئهمڕۆ دایهك مرد. بهلكی جى دووه بوه — ئهز نازانم. جه مالا پیران تهلهگرافێك بۆ من هات: “دایك مرد، سبێ دهخنه خاك. سهلامهتهكانی ههلبژێری.” ئهم وتار نابهژێت، وهتایهكی روشنی نییه. گویا دووه بوه؟”
لقد ترجمتُ إلى الكردية رواية الغريب لألبير كامو، والأمير الصغير لأنطوان دو سانت إكزوبيري، ومقاطع مختارة من كتابات أدباء فرنسيّين من القرنين السابع عشر والثامن عشر، والآن، وقد تقاعدتُ، أرغب في أن أقدّم المزيد.
عندما دعتني «اللقاءات المتوسطية لألبير كامو» إلى هذا الحدث الحالي، أعدتُ قراءة كتاب الإنسان المتمرّد، هذا الكتاب الذي نُشر عام 1951، وكان عزيزاً جدّا على قلب كامو، لكنه سبّب له الكثير من المتاعب مع مثقفي حيّ سان جرمان.