فولفغانغ أماديوس موتسارت (1756- 1791) لا شكّ، أنه المؤلف الموسيقي الوحيد، الذي كان يُنظر إليه عبر العصور، وما زال إلى الآن، كمعجزة موسيقية، ليس لها مثيل. فيما يعدُّ بتهوفن، أو شوبان وغيرهما موسيقيين عظماء. يحملون في ألحانهم عبر تاريخ هذا الفن الطويل، سمة العبقرية. تلك التي سُطِّرت من ذهب، في ضوء المخيال الرومانسي البعيد. عندما سئل الموسيقار الإيطالي الكبير جواكينو روسيني عن أعظم مؤلّف موسيقي في نظره، صاح: “بتهوفن، بتهوفن.. – وماذا عن موتسارت؟. أجاب روسيني بما لا تخطئه النبرة، ولا العبارة: أووه.. إنّه الوحيد !“. هكذا، يصعب إذن، وضع موتسارت في وضعية المقارنة.
لمسة القوى التي تحكم الرّعود
إنّ كلمة (الوحيد) هي المناسبة حقاً لـ“مسيح الموسيقى” (الوصف لتشايكوفسكي). حتى أن ألحانه السّهلة، تنزلق كالزئبق. مُمانعة للتناول النقدي؛ الذي ما يزال ينوّع في مزاعم تنظيراته الثقافية، حول أعمال الموسيقيين الكبار. وربما ذهب أبعد في فك خيوط لا مرئية، افتراضية. كما جاء في الكتاب الصادر أخيراً (2019) تحت عنوان: “بيتهوفن موسيقى لزمن جديد” لمؤلفه هانز يواكيم هينريشسن (جامعة زيوريخ- ألمانيا). والذي اعتبر فيه، أن فلسفة كانط الأخلاقية النقدية، وجماليات الشاعر فريدريش شيلر المثالية، هما اللّتان حدّدتا، الحساسية والرؤية المُلهمة لبتهوفن. قد نعتبر، أن مثل هذه المحاولات شائعة. لم تكن بعيدة أيضا، عن أعمال موتسارت نفسه؛ ففي صميم عمل موتسارت -كما يُقال- يشرق عصر التنوير، وتكمن محاولة حساب مجيء العالم الحديث. لكن، هل يختصر ذلك أو يفسِّرُ ينبوع طاقة الاهتزاز الموسيقي في إشراقة المخيلة. المتلألئة بالتوليفات الهارمونية، المُتجاوزة لكل منجز؟. الإجابة لا بدّ وأن تكون لا، بالقطع.
المؤكد أن متسارت ابن الإرث الموسيقي الذي وجده بين يديه؛ إنه ابن عصره، أكثر مما كانه بيتهوفن مثلا. والذي أراد أن يندفع خطوة أبعد، من خلال إبداع أشكال جديدة، في تراكيب لحنية معقدة. فبدل أن يتحرّك موتسارت مثله وككل الموسيقيين الكبار في رقعة اللعب الموسيقي بنقلة تجديدية طليعية إلى الأمام، أقام بأريحية في الممكن المتاح منها؛ لكنه فجّر تراكيبها، ووسم أجوبتها بلمعان دهشة أسئلة جديدة. فقد تناول تلك القيود الأسلوبية في عصره، واتخذ بشأنها وجهة نظر معاكسة. بمضامين جمالية غير متوقعة، بل ومتناقضة أيضا. هكذا تجسّدت في موسيقاه أسطورة حجر الفلاسفة. مُحوّلاً كل هذا الإنغلاق الموسيقي، إلى انفتاح رهيب. ما الصِّفة التي تليق إذن، بموسيقى تفجيرية كهذه؟. غير صفة المعجز الخلاّق. وماذا نقول أكثر بعد أن يصيبنا اللّحن الفريد بالذهول، وكأنه قادم من عالم وراء الحُجب بكل خفّته السّاتانية، مُوَسِّعاً في المحدود أفقاً فسيحاً لم يكن مُدركاً من قبل؟.
ألحانٌ بسيطة البنية بشكل مقصود. لكن، كل نغمة، تهتز بما لا حصر له. أمر يحتاجُ إلى أعلى من الفكر ذاته؛ يحتاج إلى لمسة القِوى التي تحكم الرُّعود. فليس الفكر من يبني هنا، كما في بروتستانتية سباستيان باخ، أو تحديدات أهواء العصر الرومانسي، مثلما هي، في عواصف وبطولية بيتهوفن؛ بل روح الطبيعة فحسب. متّسمة بالمرح والقوّة، والسلاسة العجيبة.
يكشف موتسارت في إحدى رسائله، هذا السرّ الذي لا تتهتّك أسراره: “إن الطبيعة تتحدث فيّ”. ينبغي القول أيضا، أنه حديث طبيعة أصيلة. أصيلة بعمق، حيث لا أثر لخطيئة النزول. لذا قيل عن موتسارت: “الوحيد الذي يغنّي بنقاء الأيام الأولى”. عن هذا الصفاء النادر يعبّرُ الموسيقي آرون كوبلاند: “لقد نقر موتسارت مرّة واحدة على المصدر الذي تتدفق منه كل الموسيقى، مُعبّراً عن نفسه بعفوية ودقة وصراحة مذهلة لم يكرّرها أحد منذ ذلك الحين”. النقر على المصدر؛ لعلّه الخيال العظيم الذي يتجاوز الحدود والممكن.
لم يجد الموسيقيون، ولا المؤرخون، صفة يطلقونها، على هذا الخيال الخلاّق. الذي جعل صاحبه غزير الانتاج بشكل لا يصدّق، عاجزاً عن التوقف عن الإبداع المذهل، أنسب من صفة الإلهي. ربما ليس هذا فحسب، بل كذلك السموّ الذي تعبّر عنه تلك الموسيقى. لعلّ موسيقى باخ ارتفعت إلى هذا السموّ، وغنّته أيضا. لكن، ليس بنفس الكيفية؛ إنّما بشكل مفخّم، ومثقل بالفكر، وبالمرجعية الدينية. يقدّم فرناندو أورتيجا ملاحظة ذكية بهذا الشأن: “إذا كان باخ أكثر تديناً، فإن موتسارت أكثر لاهوتية”. فالسموّ الموتسارتي مختلف. مُتخفّف من كل عقيدة إلى أقصى حد. ثمة تسلية، كحذاء تزلج الراقصة على الجليد، تُطلقه بيسرٍ لمُلامسة آفاق بهيجة من المُتعة الحسيّة. من فرحنا الأرضي الزائل؛ مع بعض الهزل. فالموسيقى الجادة ليست مهنة موتسارت على أيّ حال !
الاستقلاليّة ورجال الحاشية
بـ“مزاجه السليم السليم” – كما عبّر تشايكوفسكي- سمح موتسارت لخياله بأن يتطور، بحرية واستقلالية. فابتداءً من عام 1782، بدأ في تأليف موسيقى أكثر ابتكاراً من حيث تنوع الآلات الموسيقية، فقد أدخل الآلات الوترية والأبواق والتيمباني والمزمار. أضاف أيضاً، إلى آلات النفخِ الكلارينيتْ والباسون؛ وحتّى حين وضعته الظروف كحِرفي مأجور، تحت مزاج البلاط أو معايير جماليات الطبقة المرفّهة، حاول ما أمكنه أنْ يصون موسيقاهُ إلى حدود معقولة. الأكيد أنه جنى من خلال ذلك ثروة هائلة بذّرها في وقت وجيز. فالسيّد موتسارت ليس سريعاً في التأليف فقط، بل في التبذير أيضاً. ميوله نحو مظاهر البذخ يصعب كبحها، مع هوسٍ طفوليّ بالترفيه: لعبُ النّرد والافتتان بشراء طاولات البلياردو الضخمة. ومن إقامة السّهرات في بيته، إلى اقتناء الملابس باهظة الثّمن، خصوصاً تلك المعاطف الحمراء المخمليّة، والجوارب الحريريّة الرقيقة، أو تلك القبعات، بحبلها الذهبيّ وأزرارها الفاخرة، التّي كانت تجعله يصيح من الفرح. لكنّ إلحاحه الشديد كفنان على الاستقلالية دفع رجال الحاشية إلى أن يديروا ظهورهم له؛ فسقط في الفقر والتعاسة، كما تشهد أيّامه الأخيرة.
ربّما كان موتسارت شخصيّة مبتذلة، مستهترة، عابثة، كما صورها فيلم أماديوس (1984)، لكنّه لم يستسلم أبداً لإغراءات السُّلطة؛ ولم يمدح بطلا منتصراً (باستثناء دون جيوفاني الذي تكلّلت ملذاته بالجحيم)، بل على العكس من ذلك، سلك مسلك السخرية إزاء كل قوّة سلطوية متعالية. ففي سيمفونيته الأخيرة “جوبيتير” تتبع الأجزاء الرّعدية على الفور رقصة خفيفة، صغيرة، مثل الإزدراء، وهي تهزأ من إدعاء البابليين حيازة السماء بالقوّة. إن تلك العفوية الطفولية، والصراحة التلقائية، هي ما وسم كل أعماله الموسيقية. لذلك، وبالنسبة لشوبنهاور، “لم يصبح موتسارت رجلا أبداً”.
مثل المسيح، لا قبر لموتسارت
في خريف العام 1791، بمدينة فيينا، وبعد حياة قصيرة، لم تتجاوز الخامسة والثلاثين سنة، أُلِّف خلالها 626 عمل موسيقي خالد، من بينها العمل الأخير الذي لم يتممه: (قداس الموتى) تمتم مسيح الموسيقى بهذه الكلمات: “طعم الموت على شفتيّ.. أشعر بشيء ليس من هذه الأرض”. لقد كانت تلك، كلماته الأخيرة.
ما إنْ حُمِلَ الجسدُ الخامدُ خفيفٌ الوزن كنغمة الفلوت الحزينة، شاقّاً طريقه في طقس رديء جدّاً، حتّى بدأ المشيّعون القلائل جدّاً يتسلّلون، الواحد بعد الآخر هرباً من زمجرة العاصفة القويّة. وحين وصل الجثمان إلى مثواه الأخير، لم يكن هناك سوى حفّاري القبر اللذين قاما بإلقائه في حفرة جماعية، حفرت لجثامين المعوزين الفقراء. لذلك، ما يزال موتسارت حتى الآن، الموسيقي الوحيد مجهول القبر. وأغلب الظنّ، أن رفاته تفرّق في عدة مواضع أخرى. لأن الحفرة حفرت مرات كثيرة لدفن آخرين. العثور على أثر لموتسارت مستحيل إلا في موسيقاهُ؛ إنجيله الذي لا يبشّرُ بشيء، بقدر ما يوسّع سماء على الأرض، ويشعرنا بأنّ السعادة ممكنة، والأبدية، كما لو أنها في الجوار.
منير الإدريسي (الرباط، 1976)
شاعر وكاتب مغربي، صدرت له “مرايا الريش الخفيف” 2007 (منشورات اتحاد كتاب المغرب)، “انتباه المارة” 2017 (منشورات بيت الشعر بالمغرب)، “بنظارة أشف من الهواء” 2021 (منشورات مقاربات). ونشرت له نصوص شعرية ونثرية ومقالات في جرائد ومجلات عربية وأجنبية. تُرجمت بعض قصائده في أنطولوجيات عالميّة، منها:” أصوات شِعريّة العالم” بالمكسيك 2020.





