عند زيارته لجامعة كولومبيا في نيويورك، أدّى مغني الراب الفلسطيني تامر نفّار أغنية تعترض وتندد بجرائم الشرف في العائلات الفلسطينية. وما إن فرغ من أدائه حتّى هاجمه بعض الطلبة داخل الحرم الجامعي بحجّة مساهمة أغانيه هذه في تعزيز التصور الصهيوني عن الفلسطينيين بصفتهم “متخلفين” و”برابرة”، فلم يكن من نفّار إلا أن ردّ: « عندما تنتقدونني، أنتم تنتقدون مجتمعي بالإنجليزية لإثارة إعجاب أساتِذتكم الراديكاليين. أنا أغني بالعربية لأحمي النساء في “حيّي”.»
يعكسُ هذا الموقف سياسة الهوس بالتصنيف التي لا تتسع فيها المساحة إلى الآخر إلا عند قبوله آداء الدور المفروض عليه مسبقاً، فلا يمكنُ للفلسطيني أن يتكلّم خارج هذه الأطر الجامعية المُصرَّة على تشكيله واختزاله وفق تصوراتها الخاصّة للهوية. إذ ليس من الغريب في هذا السياق أن يُعدَّ تامر نفّار “فلسطينياً مارقاً” من قبل طلبة كولومبيا، لا لشيء إلاّ لكونه لم يُشبِع مسامعهم بما آلفوه من خطاباتٍ تعرِّف الفلسطيني كأحد السكان الأصليين، أو بصفته مجرّد صوت من أصوات العالم الثالث. كما يستبطن هذا، بعد تحديد الأدوار، تحديداً للمشاغلِ والهموم والقضايا. ومنه لا يُختزل الفلسطينيّ فقط في صراعه ضدّ الاحتلال الصهيوني، وإنما وجبت عليه مواجهة هذا الاحتلال وممارساته الإبادية وفق السّبل والمسميات التي تُفرض عليه.
ليس اتهام نفّار بتشويه صورة الفلسطينيين إلاّ نتيجة حتميّة لهذه الاختزالات المتعسفة، فمتى ما قررنا، وفق أهوائنا وتحيّزاتنا، ماهية الهوية الفلسطينية وألزمنا بها الفلسطينيين، صار الخروج عن حدودها تشويهاً لها ووصماً للخارجين عنها بالعمالة والخيانة وكره الذات، أو حتّى الاستشراق المحليّ. وهي أوصافٌ تترصّد كلّ من يتناول قضاياهُ وفق لغته وصوته الخاصّ، أيْ خارج الأطر التي تفسِّر العالم وفق الابتزاز المزدوج من قبل بعض المرجعيات الإيديولوجية والمنطلقات الأممية. الطريف أنّ نفّار نفسه لم ينجُ من هوس التصنيف المتربص به من طرف الاحتلال، فقد سبق وأن وصفته شبكة عروتس 7 الإسرائيلية بمعاداة السامية.
من هو المستشرق المحليّ؟
يستبطن هذا السؤال تساؤلاً عن مفهوم الاستشراق نفسه، والذي يُستَمدُّ في هذه السياقات من أعمال إدوارد سعيد خاصّة كتابه الاستشراق الصّادر سنة 1978. ومن المهم الانطلاق هنا من تناول سعيد لهذه المسألة لفهمِ ما يُقصد بالاستشراق المحلي. ومن الممكن ردُّ إشكالية التعريف إلى سعيد نفسه، فقد جاءت تعريفاته للاستشراق على قدر كبير من الضبابية والتعميم، إذ يقول في أحدها « الاستشراق أسلوب من الفكر قائم على تمييز كيانيّ ومعرفيّ بين «الشرق» و(في معظم الأحيان) «الغرب»… وبوسع هذا الاستشراق أن يتّسع لأسخيلوس، مثلاً، ولفيكتور هوغو ودانتي وكارل ماركس.» وفي تعريفه للمستشرقين يقول « كلُّ من يدرّس الشرق، أو يكتب عنه، أو يبحثه، سواء في جوانبه المحدَّدة أم العامة [..] إنّما هو مستشرق، وما يفعله أو تفعله هو استشراق.»
يزخر هذان التعريفان بعدد من الإشكالات التي جاء على ذكرها كثيرون ممّن نقدوا كتاب الاستشراق من الناحية التاريخية والمنهجية مثل صادق جلال العظم في مقالته الاستشراق والاستشراق معكوساً وإعجاز أحمد في مقالته الاستشراق وما بعده. فمن الناحية التاريخية يبدو الاستشراق، كما فهمه سعيد، أسلوباً غربياً من السيطرة والضغينة العابرين للتاريخ أين يترصّد الغرب منذ زمن إسخيلوس وإلى حدود برنارد لويس، بالشرق المستضعف بغاية إخضاعه وتشويهه. وعلى ما في هذا التصور من إضفاء لطابع الجوهرانية على الغرب بصفته مفهوماً ثقافياً لاتاريخياً يجد أصوله في اليونان التي تُفصلُ هنا عن بيئتها الثقافية المتوسطية لحصرها في التصور الحديث، الذي يحدد مارتن برنال تاريخه بأواخر القرن الثامن عشر، بصفتها منبع تشكّل الحضارة الغربية فيما يخصّ الفلسفة والأدب والفنون. ومن مخرجات هذا التصور الجوهريّ للغرب استبطان تصور مماثلٍ للشرق، ذلك أن التسليم بامتدادٍ تاريخيّ للاستشراق يتجاوز الألفي عام يتطلّب وجود شرقٍ دائم الحضور خلال هذه المدة.

صادق جلال العظم (1934-2016)
لا يقلّ تعريف المستشرق غموضاً وضبابيّة عن تعريف الاستشراق عند سعيد. إذ يتّسع مجال الاستشراق لديه ليضم كل متحدّث عن الشرق، من مسرحيين يونانيين وشعراء شعبيين وروائيين فرنسيين وفلاسفة ألمان ومفكرين من الولايات المتحدة وعديد الرحالة من مختلف بقاع أوروبا. وعلى أنّه من الصعب جمع كل هؤلاء تحت راية تصنيفٍ متجانس، إلا أنّ سعيد قد عدّهم جميعًا مستشرقين بمجرّد حديثهم عن الشرق. فلا يهم إذا ما كانت كتاباتهم نابعةً عن رحلات أو تصورات شعبيّة ساذجة أو دراسات معمقة، ولا تهم المسافة التاريخية الفاصلة بين هذه التجارب، فكلها أحاديث عن الشرق وكلها بالتالي مكونّةٌ لخطاب الاستشراق.
لا يتسم تعريف الاستشراق المحليّ بذات الامتداد التاريخي الذي نجده في تعريفات سعيد، مما يجعله مفهوماً حديثًا لا أثر له في تاريخنا العربيّ الإسلاميّ السابق للحداثة والكولونيالية. هذا فيما تظلّ آلية تعريف المستشرق المحلّي محتفظةً بنفس الصبغة الاختزالية والتعميمية الموروثة عن سعيد. ومنه يُعرَّفُ المستشرق الداخليّ انطلاقاً من مواقع الهوية والجغرافيا، إذ تنطبق عليه ذات التعريفات السابقة مع كونه “ذاتاً شرقيّة”، عربيّة الأصل واللغة، تتبنى آراءً لا تتناغم أو لا تمثل الهوية الثقافية الأصلية للشرق ومشاغل شعوبه.
تبدو آلية التنقيب عن المستشرقين المحليين محكومةً بثنائية التصنيف والإقصاء. فمن الواجب أولا تحديد طبيعة الهوية الشرقية أو العربية بصفتها ماهية أصيلة سابقة على التحديث؛ أي أنّ هذه الهوية ظلّت ثابتة الأسس محُدَّدةَ المعالمِ والمكونات لقرون طويلة قبل أن تُشوَّه أو تُهجَّن تزامناً مع اللحظة الكولونيالية. ولا يتعلق الأمر هنا بإنكار الممارسات الاستعمارية العنيفة التي بلغت حدّ الإبادة والتطهير العرقيّ، وإنّما بالتأكيد على أنّ مسألة الهوية ذاتها قد خضعت لأطوار حديثة ومتكررة من التشكيل وإعادة الإنتاج في تفاعلها مع هذه الظرفيّات. ومنه يغدو من المضلل افتراض صفات الأصالة والنقاء والتجانس في هذه الهويّة، إذ تؤدي هذه الصفات غالباً إلى ممارسات الإقصاء التي تستهدف أيّ صوت لا يتناغم مع الصورة المتخيّلة للهوية. وتُحدَّدُ على ضوء هذا، مساحات الحريّة التي تفتح المجال لممارسة أسلوبٍ مُعيّنٍ من النقد يكفل لصاحبه استمرار انتمائه إلى الأمّة.
عادة ما يُثنَى على أسلوب النقد هذا بتسميته «نقداً من الداخل» وهو نقدٌ يلتزمُ عدم المسّ بمجموعة من الثوابت الدينية والسياسية والعرفيّة، انطلاقاً من ذات المتخيل المتعلق بأصالة الهوية الأممية ونقائها. وقد يسلّم هذا الأسلوب النقدي، في أقصى مدى، له بإمكانية تجاوز بعض الأطروحات التراثية والبناء على أطروحاتٍ أخرى في سبيل النهضة وتأسيس حداثة خاصّة وفهم جديد للتراث. وليس المراد بهذا أن نعيب هذا النوع من النقد، أو حتّى أن نُسلِّم بوجودٍ فعليّ لتيّار نقدي يُعرَّف انطلاقاً من حدوده، ذلك أنّ حتى من أُشيدَ بهم بصفتهم “نقاداً من الداخل” لم يسلموا من اتهامات عدّة من قبيل استعمال مناهج وأدوات غربيّة لفهم التراث.
أمّا إذا ما كان الخطاب النقدي منطلقاً من أرضيّة بديلة تشمل اختلاف الأدوات والأفاق والنتائج، مما يجعل الخطاب متجاوزاً لبعض “الحدود” أو مشكّكاً في إحداها فمن المرجح تصنيفُ صاحبهُ كمستشرق محليّ. وتقوم آلية التصنيف هذه على الملاحظة أولا أن خطاباً ما عن الشرق أو عن واقع المجتمعات العربية لا يروقنا، وأنّ صاحب هذا الخطاب شرقيٌّ عربيّ، لتكتمل بعدئذ الصورة بالعمل على المماهاة بين هذا الخطاب وخطاباتٍ أخرى “غربيّة”. وفقًا لهذا المقياس يُصنَّفُ مفكرون كمحمد عابد الجابري وحسن حنفي نقادًا من الداخل فيما يكون صادق جلال العظم مثلا مستشرقاً داخلياً، أو ناقداً “من الخارج” في أحسن الأحوال.
إنّ استحداث تصنيفٍ يقوم على التفرقة بين نقد من الداخل وآخر من الخارج، لا يسلّم بتحقق نوعين متضادين من النقد تحت هذه المسميات، ولا بوجود حدودٍ فعليّة بين “الداخل” و”الخارج”. إذ ليست هذه الحدود المكرسة لهذه الثنائية إلا تأسيسًا قائمًا على تفاضلٍ قيميّ يكون “النقد الداخليّ” فيها قيّمًا ومُعبرًا عن ذواتنا الحقّة، فيما يكون “النقد الخارجي” مرتبطاً حصراً بمصالح خارجية. ومنه لا يعدو الوصف بالاستشراق المحليّ، في هذا السياق، كونه وصماً واتهاماً شبيهاً بالمعنى الذي صُبِغَ به لقبُ المستشرق بعد كتاب إدورد سعيد، وذلك بتحوّله إلى وصمٍ صريحٍ يشي بالعمالة. ولا تخفف كلمةُ “المحليّ”، التي أُرفِق بها الاستشراق في هذا السياق، من حدّة الإقصاء الذي يستبطنهُ هذا المصطلح. إذ ليس التأكيدُ على المحلية هاهنا إصرارًا على تحديد موقع النقاد داخل مُتخيَّلِ الأمّة وثقافتها، وإنما هو تنبيهٌ يُذكِّرُ أبناء الأمّة الأصلاء أنّ بينهم مستشرقين محليين من الجانب الجغرافي، ليسوا إلا ورثة المستشرقين الغربيين القدامى. فهم وإن كانوا من أمتنا وبلادنا وينطقون بلغتنا ولهم أسماء كأسمائِنا، فإنّ وجودهم بيننا موجّه لخدمة المصالح الإمبريالية وهدم ثوابت الأمّة والدعوة للتغريب.
بعد السابع من أكتوبر، عاودت بعض هذه الخطابات الظهور. فلئن ساهمت عديد من الأطروحات الجادّة بنقدِ عدد من الأصوات الغربيّة، من مفكرين ووسائل إعلام، التي اصطفت آليا إلى جانب الاحتلال مُبررةً جرائمه ومُنكرةً إيّاها، فإنّ البعض قد راقه النقد لمجرد النقد، حتى توسّع الأمر ليغدو أشبه بتتبع لما يُسمى بـ”المستشرقين المحليين” والتشهيرِ بهم بصفتهم عملاء للإمبريالية والصهيونية العالميّة. وعلى ما في هذه الاتهامات من فداحة وطعن في الشرف، فإنّ هذه الحشود، بعد تقسيمها العالم إلى معسكرين متضادين، يضمّ الأول الصّادقين الأحرار فيما يعج الثاني بالعملاء والمستشرقين، قد استباحت تكييف الآراء التي لا تروقها بصفتها تواطؤاً وعمالة، حتى أنّ الفلسطينين أنفسهم لم يسلموا من الوصم بالجُبنِ والخيانة مالم يلتزموا بالدور الذي توجب عليهم تأديته من “حُبّ للموت” و”إظهارِ الصمود” و”حفظ شرف الأمّة”. ولعلّ ما تعرّض له نشطاء فلسطينيون كمعتزّ العزايزة وأمجد أبو كوش من طرفِ حشودٍ تنعمُ بالأمن والدِّفء والغذاء لهو خير دليل على ما كنّا نقول.
الجرح الاستعماري وكره الذات
لئن اقتصر الوصم بالاستشراق المحلّي على مجرد تتبع الخطابات والنبش داخلها عمّا يمكن تأويله على أنّه خطابٌ غربيّ، مما جعل جُلَّ هذه التنظيرات عن الاستشراق المحلّي لا تعدو كونها تصيّدًا لا يصبو إلى النقاش بقدر الاتهام. فإنّ هذه التنظيرات بدورها، كما نجد في بعض دراسات ما بعد الاستعمار، قد حصرت تاريخ مجتمعاتنا في اللحظة الاستعمارية دون سواها. لا يعني هذا تنزيه التجارب الاستعمارية عمّا ارتكبته من جرائمٍ، لاسيّما إذا ما كانت لهذه التجارب امتداداتٌ مأساوية نراها بأعيننا اليوم. وإنما نريد الإشارة إلى أنّ أكبر خطرٍ يتهدد الحجّة القويمة هو ما يُدخله عليها أنصارها المهووسون من ابتذال. إذ أنّه بدل الوقوف، عند تناول التجارب الاستعمارية، على دراسةِ آلياتها وموقعتها في إطارها التاريخي وإبراز فظاعاتها ورصدِ مظاهرِ استمرار بُناها الإيدلوجية في الأطر الأكاديمية، تتناول الحشود المهووسة هذه التجارب بصفتها كُلّاً واحداً جاعلةً من هذه اللحظة حالة استثناء تاريخيّ تقطعُ مع الأصالة الممثلة لهويتنا مُحِلَّةً مكانها هويات شائهة لا بد من التطهر منها لاستعادة أصالتنا الخيّرة المفقودة.
ليس المراد ههنا اعتبار التجارب الاستعمارية ضرباً من الحتميّة التي تدفع التاريخ نحو التقدم، بقدرِ ما نذكّر بأنّ عملية تشكّل الهويات، أو خلق ضروبٍ من الجماعات المتخيّلة، لم يكن أبداً مرهوناً باللحظات الكولونيالية في العصر الحديث. مما يجعل التصور القائل بأنّه كانت لنا هويات ثابتة منذ الأزل حتّى جاء الاحتلال وشوهها أو محاها، تصورًا قاصرًا عن فهم الحركيّة المستمرة التي تُنتج بها الهويات. فحتّى بعد انجلاء الاحتلال العسكريّ، لم تقم السلط الوطنية فيما بعد باستعادة أطلال هوياتنا الأصيلة، بقدر ما أعادت هذه السلط تعريف وإنتاج هويات شعوبها من جديد. إذ ليست الهويات التي نحملها اليوم إلا نتاجًا حديث التشكّل ولو توهمنا فيه كل ضروب الأصالة.
يتناول إدوارد سعيد رؤية مشابهة للاستشراق بصفته وسيلة إمبريالية منتجةً لمعارفٍ عن الشرق تيسّر إحكام السلطة الغربيّة عليه. ومتى كان الاستشراق حسب الرؤية السعيدية ممتدًا لآلاف السنين فلا تغدو الإمبريالية إذن إلا أحد منتجاته. هذا فيما يكون المستشرقون المحليون على العكس من هذا نتاجًا للإمبريالية التي عانت منها شعوبهم، فهم بالتالي أبناء الاستعمار وخدمه. وعلى ما في هذا من اختزال عنيفٍ للتجارب الاستشراقية المتنوعة والثرية بحصرها في البعد السياسي، الذي لا أنكر بالمناسبة وجوده، فإنّ كتاب سعيد كما أشار إعجاز أحمد «لا ينبسُ بأيّ كلمةٍ عن أي خطأ من طرفنا [..] وبمقدورنا أن نتخيّل جيداً مدى العزاء الذي توفّره هذه الرؤى لبراءتنا الأصليّة والدائمة.»

إعجاز أحمد (1941-2022)
إنّ إعادة تعريفنا لذواتنا بصفتها ذواتا استعمارية، أي ذواتاً شكّلتها حصراً اللحظة الاستعمارية لهو تصوّر باعثٌ على السكينة والطمأنينة. إذ نغدو على ضوئه في حِلٍّ من مسؤولياتنا تجاه ما ينخر مجتمعاتنا من فسادٍ وتخلّف ودمويّة إذ ليست هذه المصائب إلا تركة الاستعمار التي وطّنها في نفوسنا، فنحن بطبعنا عاجزون حتّى عن إنتاج خطاباتنا الخاصّة عن العنف والعنصرية والطائفية وليست هذه إلاّ أطلالاً استعمارية مازالت تحركنا نحو الفساد. وقد أشار إعجاز أحمد إلى هذه النقطة بالذات بقوله:
«وعلى سبيل المثال، فقد غدا من الممكن الآن أن يُحَمَّل الاستشراق كامل المسؤولية عن الطائفية والبنيان الكولونيالي؛ كما يمكن تصوير الطائفة المغلقة ذاتها على أنّها من اختلاق عمليات المسح السكاني والتقارير الإحصائية [..] فالكولونياليّة غدت الآن مسؤولة لا عن أعمالها الوحشية فحسب بل عن أعمالنا الوحشية أيضاً، وهو الأمر الذي يوفر ما فيه الكفاية من الراحة.»
درجَ هذا التوسّل بالاستعمارِ والاستشراق في مجتمعاتنا بين أطيافٍ فكريّة متباينة، ففيما يتحجّج بعض معادي الفكر النسويّ مثلاً بكون هذه الحركة وافداً استعمارياً غريباً عن ثقافتنا، يَرُدُّ البعض من أنصار الحركة بأن معاداة النسوية هي من تتكئ على مرجعيات استعمارية وغربية محافظة. ففي الحالتين تظلُّ أصالتنا منزهة عن الإنتاج والمعارضة. ويتفق الطرفان هنا على وصم القائل بأنّ جذور الإنتاجِ والعداءِ قد تتصل ببيئتنا وموروثنا بكونه مستشرقًا محلياً أو كارهاً لذاته.
لا تكاد تنفصل تهمة الاستشراق المحلّي، في سياقِنا هذا، عن وصف المرء بكرههِ لذاته. فكلاهما متصل بفكرة النقد من الخارج الذي يستبطن كرهًا للداخل بغضِّ النظر عن كل ما بمقدور هذا الداخل المُتخيَّلِ أن يحويه. ولا تختلف عملية إعادة تشكيل الذات وإنتاجها هنا عمّا ذكرناه في علاقة بتشكيل مُتخيَّلِ الهويّة. ومنه تغدو مساءلة الفضائع الواقعة داخل حدود الداخل مسًّا من أصالتنا وخصوصيتنا الثقافية بل واعتداءً على ذواتنا، كأنّ القمع والمجازر جزءٌ أصيلٌ من هذه الذوات. فمتى استقرّ الرأي على فهمٍ ثنائيٍّ لواقعنا تحدده مُسمياتُ الداخل والخارج وحبِّ الذات وكرهها، غدا التفكير ممارسةً هامشيّة وسط هستيريا التصنيف هذه.
في مقال بعنوان ثقافة الاعتداء: هل «كراهية الذات» مشكلة نفسية؟، يتناول الكاتب السّوري محمد سامي الكيّال فكرة الوصمِ بكره الذات لكلِّ من لا تتماهى أصواتهم تماماً مع سرديّة أحاديّة من الخطاب، ذلك أنّ «حرب غزة الحالية مثال جيد عن ذلك، فهي جمعت تحالفاً، غريباً بعض الشيء، من قوميين وإسلاميين و”يساريين” ومتعاملين أو متأثّرين بـ”منظمات غير حكومية” يحاولون إسكات أي صوت مخالف، بحجة أنه “كاره لذاته” ومُكرّر لـ”خطاب العدو” دون أن ينشغلوا كثيراً بتعريف تلك الذات وذاك العدو. يبدو أن المعركة واضحة جداً، ومن لا يستطيع التماهي معها، يعاني بكل بساطة من مشكلة نفسية أو ثقافية.» يؤكّد هذا الشكل من التحالف على هشاشة ثنائية الداخل والخارج، إذ تتقاطع هنا الآراء والمسمياتُ وسياسات فرضِ صياغة الهوية الفلسطينية وتشكيلها. ولا يعني هذا التقاطعُ تشكيل أصواتهِ تيارًا فكريّاً متجانساً، لما في داخلها من تباين في الرؤى حتى وإن نادت بنفس الشعارات ومارست ذات سياسات الإسكاتِ والوصُوم.
ورغم ما يستتبعُ هذه التحزّبات من تغييب للأصواتِ الفلسطينيّة نفسها عن طريق محاولةِ تشكيلها من الخارج، فإنّ حتّى صورة الكاره لذاته هنا لا تعكس مجرّد صوتٍ محليٍّ عميلٍ أو غير معبّرٍ عن ذاته الشرقية الحقيقية، بقدر ما يشي موقعه بحالة مرضية تتطلب إعادة تأهيله بهدف موقعته في الداخل من جديد. إذ أنّ نقد “الذات الجمعيّة” لا ينمُّ إلا عن كرهها، ومتى كانت هذه الذات مُنزهة بطبعها عن الزلل، فالخلل كامن حتمًا في ناقدها الذي لا يمكنه أن يكون إلا مستشرقًا محليًا أو مريضًا في حاجة إلى العلاج.
لعلّه من الطريف أن تنهال الاتهامات بالاستشراق المحلّي وكره الذات من ذاتِ الأصوات التي تتغنى بموضوعية وحياد مفكرين كنعوم تشومسكي وإيلان بابيه ونورمان فلنكنستين والثناء على مواقفهم العادلة واصطفافهم إلى جانب الحقّ الفلسطيني والتنديد بجرائم الاحتلال الصهيوني، ربما على هذه الأصوات أن تتذكر ما تعرّض له هؤلاء المفكرون من وصوم مماثلة لقّبتهم باليهود الكارهين لذواتهم، وأنّ هذه الوصوم صادرةٌ في الحالتين عن نفس النزعة الإقصائية المتعصبة.
في أحد عناوين كتبها، تساءلت المفكرة الهندية غاياتري سبيڤاك عمّا إذا كان بمقدور التابع أن يتكلّم، وبدت إجابتها أقرب إلى النفي منها إلى الإيجاب. أمّا نحن فحريٌّ بنا أن نتساءل: هل بإمكان المرء أن يتكلم دون أن يُصنَّف؟ تنطبق هذه التساؤلات بدورها على الفلسطينيين الذين يعانون إرهاب الاحتلال والإبادة الجماعيّة، فيما تُقمعُ أصواتهم بين التشويه والتقوُّل والإسكات.
أحمد محجوب
طالب فلسفة بجامعة بلد الوليد (إسبانيا)