صدر حديثاً (25 يوليوز/تمّوز 2024)، عن دار رياض الريس، رواية «أطلال رأس بيروت» للأديب والصحافي اللّبنانيّ محمّد الحجيري. وقد جاء في نبذة الناشر: “يُراقب سمير النباتات التي لا يعرف أسماءها في الأحواض القليلة، يراقب حياة العابرين المحتشدين على الأرصفة، كأنه في عزلة أو مختف خلف ضباب اخترعه لنفسه.
يحسب أنه في جلساته تلك كأنه يجلس في برج مراقبة، في ذلك التقاطع المديني، كل من يمر لا بدّ أن يراه، مأخوذاً ومنسجماً بحركة العابرين يمرون على الرصيف خلف الزجاج السميك في مشهد مسرحي وسينمائي وإيمائي، ناظراً إليهم، وإذا سأله أحدهم: هل تتابع السينما والمسرح، يقول لهم: “من هنا، من على الكنبة الجلدية أشاهد أجمل سينما متحركة، متعددة السيناريوهات.”…
يُشار إلى أنّ لوحة الغلاف للفنانة اللّبنانية الراحلة سهى طوقان التي قتلت برصاصة قنّاص خلال الحرب الأهلية. ننشر فيما يلي فصلاً من الرواية، يحمل عنوان “رائحة الغوّافة”، وذلك بالاتفاق مع الكاتب.
***
ذات يوم شبه صيفي في أواخر تشرين الثاني، حدث أن اشترى سمير عوّاد ثمار الغوافة، وحملها معه إلى منزله الزوجي الضيق الغرف. لم يكن يعلم، ولم يكن على دراية، أنها ستأخذه بغتة إلى زمن لا يحبّه ولا يستسيغه، وعاش قهراً حتى أخرجه من دماغه وصار من أطلال حياته البعيدة… سمير المشاء والمتسكّع البوهيمي، هاوي جمع الكتب على رفوف المكتبة وشراء الفواكه على أنواعها وفي مواسمها، وعاشق تصوير البيوت القديمة، كان يعتبر أن جنّة الحياة في طعم الفواكه اللذيذ وفي القليل من العزلة والقراءة في السرير أو على الكنبة. في ذلك اليوم الخريفي، كان آتياً من نزهة رياضية على رصيف الملعب البلدي البحري، في طريقه إلى البيت، انتقى حبّات الغوافة البيضاء الناصعة من أحد دكاكين البلدة الساحلية، ولحظة وصوله إلى البيت وضعها في البراد من ضمن فواكه أخرى… كان منهمكاً في عدة أمور وأشغال وقراءات. ونسي لأيام على غير عادة، تناول الغوافة وتذوقها، قالتْ له زوجته هالة عاصي بما يشبه العتب واللوم: “تشتري الفواكة ولا تأكلها، وهذه الغوافة رائحتها ملأت المطبخ، أنا لا أحبّ طعمها، لكنْ من إيجابياتها أن تعطّر البراد بسبب الانقطاع الدهري للكهرباء، فرائحتها الآسرة تطغى على روائح العفونة والتحلّل والتخمّر، وتقلّل من الشعور بالاشمئزاز والغثيان، بمعنى أنها كانتْ تعطّل الرائحة الكريهة، لكن بعد يومين أو أكثر بدا للزوجة أنّ رائحة الغوافة أصبحتْ أشبه برائحة التعرّق البشري، يقشعرّ جسد سمير ويحار في أمره..
لم يكن سمير عواد من أصحاب الأنوف الأسطورية التي تتحسّس كثيراً من الروائح، ولا يجيد تشريح الروائح وترجمتها، لكن بدا أن حديث الزوجة عن رائحة الغوافة أخذه إلى عالم آخر كان نسيه أو تناساه، في لحظة توهّم أنّ رائحة الغوافة، شيء من أشباح العود الأبديّ، فقبل أن يتزوّج ويعيش مع امرأة تحت سقف واحد، قبل ذلك بسنوات عجاف، كان تعرّف إلى مصممة الغرافيك ديزاين، سارة عوّاد، الصبية الغرّاء، صاحبة الشعر غير المهذب المجنون كأفاعي المندوزا والتي تسكن العفاريت بين شفتيها المكتنزتين، وبعد مراحل من الصداقة والألفة، صار مسكوناً بأشباحها وأطلالها، أصبح رأسه علبة فارغة يتردّد فيها صدى صوتها البعيد، يعيش في حالة استيهامات لا تنتهي وبلا حدود، يشعر أنّه كائنٌ فيتشي تجاهها، تجاه أصابعها وأطراف وركيها، يحتفظ بمنديلها الأحمر القاني الموشّى بحديقة فراشات ملوّنة، وبصور أرسلتها له وهي بثياب النوم ذات الألوان الربيعية الحميمة الدافئة، كانتْ تشكّل تجسيداً لروض عينيها وملمسها وغيابها وطيفها الواسع وحتّى سرابها، في مرات كثيرة يسأل نفسه ما الذي يجعلها تشغل خياله ووجدانه طالما أنّه يشاهد صوراً لفتيات أجمل منها بكثير ويعود ينظر إليها مثل طفل فقد أمّه، ولماذا يضجّ منديلها بروائح رغبات مكبوتة وهو بلا رائحة أصلاً، لم يكن يجيد تشريح روائح الأشياء لكنه يعيشها وتسكن في أنفاسه وطالما تخيلها. ولم يكنْ يشعر بالفيتشيه تجاه منديل سارة القاني وروائحه الافتراضية الاستيهامية فحسب، بل يتذكّر أنّه كان فاقداً لليقين ويعيش أسير الشّك ومشغول الذهن بين النفي والاثبات ولا يستطيع الحكم على أفكاره.
كان يعيش الغيرة بأبشع صورها، وهذا يجعله يسرد كثيراً ويقضي وقته في المشي أو يهرب إلى القراءة وتصوير البيوت القديمة والمهجورة، فمنذ أنْ قالتْ له سارة عواد صاحبة الشفتين المكتنزتين إنّ رائحة ثمار الغوافة فيها شيء من رائحة العشق والرغبة، راوده الشّكُّ والوسواس في مسار سيرتها وحياتها وأنماط عيشها، بين النقاء والشهوات والغيرة، وراح يسأل ويطرح أسئلة في قرارة نفسه ووجدانه، كيف لها، وهي الفتاة التقليديّة، ابنة العائلة المحافظة، أنْ تعرف رائحة العشق وقد تحدّثتْ مراراً في جلساتها المقهوية والجامعية وتنقلاتها على أرصفة المدينة وكورنيش البحر، أنّها لم تقمْ يوماً علاقة مع أحدٍ، ولم يقبّل شفتاها المرسومتان المكتنزتان فم شابٍ في حياتها، وبقيتْ حتّى وقت متأخر لمْ تعرف مسميات الأعضاء الجنسية، ويوم سمعتْ لأول مرّة شاباً من زعران الحيّ القريب من بيتها، يلفظ اسم العضو الذكري كشتيمه لصديقه، وأخبرتْ والدتها بهذه اللفظة الجديدة في حياتها، قالتْ لها “عيب”.
كانا في منتصف الخريف، سارة وسمير يعبران جسر المشاة تحت المطر الخفيف، بعد نهار في تصوير البيوت القديمة والمهجورة في بيروت، في ذلك السهل الغضّ القريب من البحر عند أطراف المدينة… بستان الغوافة الباقي على جانب الأوتوستراد والمبلل بالندى والمطر، دفع سارة إلى قولِ ذلك الكلام، وجعل سمير يصمتُ قليلاً ويسرد، لكن لم يجرؤ أن يسألها من أين لك أن تعرفي رائحة العشق أو الجنس، كان منسجماً مع صوتها الحميم الذي لم يكنْ منخفضاً ولا مرتفعاً… ذلك الشغف الذي به تجاهها كان كافياً ليجعله يمحو كل صورة “محرّمة” و”شيطانية” عن حياتها، يريد أنْ يبقيها صورة نقيّة فردوسيّة له وحده، على صورة قديسة خالية من طيف “الخطيئة”، هو الجبان المتوهّم أنّه لنْ يجد مثيلاً لها في كوكب حياته، أو هكذا تقول مشاعره وذاته التي كانتْ في فراغ مدقّع وفي حلم كبير. كان كما الغريب، يعي أنّ ما يفعله يشبه الحبّ العذري، ومع أنّه يسخر من هذه التجارب لكنه كان يعيشها على أكمل وجه.
كان سمير يتأمّل أشجار الغوافة ذات الأوراق الخضراء الفاتحة، ولا يجرؤ أن يسأل سارة كيف تعرف رائحة العشق والباه وهي لم تسافر في علاقة من قبل، وصار، بشكل ميكانيكي، ومع أنه يعرف أن حاسّة الشمّ عنده هشّة، يجرّب أكثر من مرة أن يستنشق ثمار الغوافة، يشمّها جيداً قبل أن يأكلها، ليتأكّد أنّها تشبه رائحة العشق. وهو منذ العبور فوق جسر المشاة، صار يبحث عن رائحة الشمّ وأصلها وفصلها، انتبه إلى أمر لم يكن في باله، على الرغم أنه عاش ردحاً من طفولته وحياته في البوادي والسهوب، إلى أن جنس الحيوانات له معطيات شمّية لأغراض البقاء والتكاثر وحفظ النوع، فرائحة السائل المنوي (مؤشر لحيوانية الفرد). وبقدر ما كانت حاسّة الشمّ عند سمير ضعيفة، بقدر ما كان يعيش فيض المراقبة والتذكّر وصعوبة أن ينسى الأشياء وتحديداً تلك التي يتألم منها، ولم تكن رائحة الغوافة إلا لحظة ليعيش هوس الشّك بالفتاة التي يعتقد أنها حبّه الأول الحقيقي، ولحظة ليستعيد أسماء الكتب الكثيرة المركونة على الرفوف التي قرأها عن الروائح وتاريخها وثقافتها وأقنعتها…

الكاتب مُطلاًّ على المدينة
وحين صادف أن قرأ في أحد الكتب عن الغوافة في المنام، مرّت أمامه عبارة “رؤية الغوافة في الحلم قد تعني أن الشخص طيب الخلق وأن رائحة الغوافة مرتبطة برائحة الحلم”، وهنا أصبح أمام لغز آخر، ما رائحة الحلم، ولم يصل إلى مكان، وفي كلّ مرّة يشتري الغوافة، يحسب أنه يشتري رائحة الجنس وطقسه، بل يتخيّل جسد سارة كما لو أنّه الغوافة بين يديه، مع أنّه لم يخطر في باله يوماً أنّ للجنس رائحة، ولا يعرف ما المقصود برائحة الجنس، لكنْ في لحظة أنتبه أنّ هناك رائحة العلاقة ما هي رائحة الجسد أو الجسدين، وكل علاقة لا تشبه الأخرى، تلك العلاقة المضمّخة بالعطور في غرفة وثيرة لا تشبه تلك العلاقة العابقة بالقاذورات والأزبال في مكان سفلي، وأنتبه أيضاً للحظة أنه كان يشمّها من دون علاقة، ويتمنى لو تذهب أو تذوب في صدره. لوهلة تذكّر دخول المبغى ذات مرة في مراهقته، يومها سقطتْ كلّ الروائح وغلبت رائحة موت المدينة ووخم بطنها، وأنتبه أكثر أنّ معظم مروجي العطورات في الإعلانات المتلفزة، يوهمون الجمهور بأنّ العطور محفّزة للعلاقات، والسحر الشمّي. ما كان يربكه كثيراً، هو كيف سيكتب ذاكرة الرائحة. كان سمير يدرك أنّ العيب الواحد الذي يعيشه أنه يعيش الغيرة على أكمل وجه. كان حبّه بمنزلة نوع من الأنانية الشديدة. يقرأ سيرته من خلال رائحة الغوافة وروائح أخرى، الروائح تروي معنى الأشياء. بل هي تحضر في ذاته كرائحة.
محمّد الحجيري (طرابلس، 1974)
أديب وصحافي لبنانيّ نشر أعمالاً روائية وبحثية منها رواية “طيور الرغبة” (2013)، وكتاب “العشق السرّيّ.. المثقفون والرقص الشرقي” (2018)، ورواية “السّندباد الأحمر” (2023). يكتب الحجيري في العديد من الصّحف والمجلاّت والمواقع العربيّة، ويُدير حالياً القسم الثقافي لجريدة “المدن“.