تزحف رقبتي نحو مسند السّرير، وبالتواءٍ مُوجِع تَتَّجِهُ إلى الأعلى، لتحتضن بين طيّاتها الحبْل.
أتمتم، أتقلّبُ، فيوقظني نقص الأوكسجين بين حنجرتي وبقيّة جسدي.
أرتّب أعضائيَ باتّساق مع رقبتي والحبل ووسادتي، ثمّ أعاود النوم.
صباحاً، أعاين خطوطاً حُمْرَ تلوّن رقبتي، تلتوي مسايرة الحبل. أتلمّسها، وأضع المرهم المضاد لالتهاب وجودي.
تقول أمّي: “حبل مشنقتكِ بال عليه الزمن، ويحتاج إلى تغيير”. خشونة ونتش ناتجةٌ عن احتكاكات تتولّد منها خيوط صغيرة هاربة من لفيف الحبل، تنتهي إلى تفرّعات أصغر منها، تَنْسَلُّ عن بعضها رويداً رويداً.
أحمل نفسي وأذهب إلى دائرة النّفوس لتقديم طلب استبدال الحبل…
أضيع بين الحارات. أمشي على طول الشّارع، وأنظر إلى تجمّع غيوم تقطعها أسرابُ الشمس الحادة، بالتعاون مع تجمع كثيف لحبال مشانق تمتدّ من السماء إلى الأرض، بها أستدلّ على موقع دائرة النفوس. ألاحقها… صفوف من المشنوقين: حبالهم بالية، مهترئة. يصطفّون في انتظار دورهم، وهم يتبادلون الحديث والقهقهات العالقة على مطبّات مُحتدّة.
على امتداد الحبال المهترئة، المنتشة، تتسامر العصافير، تنظر إلى النهايات المفتوحة لخيوط حبال المشانق، يُغريها تمرد النتش، تجذبه، تحاول سحبه لعلها تستخدمه في بناء عش لها.
من بعيد صوت شاب يتذمّر. تعلو القهقهات من حوله. يناول أحدهم منديلاً لمسح خراء العصفور عن كتفه، وآخر يقول له: “يلاّ، فال خير”. مبنى دائرة النفوس، إسمنتيّ متعدّد الطّوابق: مُكعّب واحدٌ تتداخل فيه أدراج للتنقل عبر الطوابق وغرف مكتظة بالموظفين.
في الطّابق الأول، مركز يقوم بفحص أسباب بلاء حبل مشنقتك. يسألني الموظف عن روتيني اليومي والذي قد يؤدي إلى اهتراء حبل مشنقتي. يكتب تقريره، يطلب مني توقيع، بصمة وطوابع غرامية.
أتوجّه إلى الطابق الثاني، حيث تقوم لجنة طبية بفحص حبل المشنقة ورقبتي. تخلص اللجنة إلى تقرير نصه: “لا محاولات لقطع الحبل، فقد ثبت أنه فعل ناتج عن اضطرابات النوم، يرجى السماح باستبدال حبل المشنقة.”
أتوجّه إلى الصندوق لدفع الغرامة الماليّة واستبدال الحبل. يواجهني الموظف بحلقة رقبتي الجديدة، ينصحني: “لا تحلمي كثيراً، فالأحلام ترفعك إلى أعلى مما يؤدّي إلى تقلبات جسمانية تتسبّب في التواء رقبتك، وبالتالي حدوث احتكاك بين الرّقبة وحبل المشنقة.”
يضاف إلى اختناقي عولمة في الاختناق
كان قد قبض رأس المال على الكرة الأرضية، ضغطها، عصرها بكلتا يديه فاختنقت. تركها، فأرتدّ غبارها فوضى خلاقة.
ذهب كارل ماركس إلى دراسة التبادل المادي بين الطبقات الاجتماعية، واستخلص أنّ الاستغلال النّاتج عن صراع هذه الطبقات يعمل على بناء كتلة واحدة من رأس المال في المجال البيئي للمجتمع الواحد، ضمن تداول تراكميّ يُسمى القيمة.
وباتساع رقعة التداولات في عصر الاتصالات السريعة، وتضخّم أثر الارتباط بين التعاملات المحلية والدولية، انتقلت الصراعات الطبقية المحلية لصراعات طبقية على مستوى العالم، وتحولت بدورها القيمة المحلية المتداولة لقيمة معولمة.
لم يستطع ماركس إكمال أعماله بما يخص التداول العالمي، وإنْ كان قد وضع أسسه. فعمل سمير أمين، الماركسي الشرقي، على صياغة نموذج يُبيّن حركة التّداول المعولم؛ وذلك ضمن نموذجين: تخومي ومركزي. يعملان معاً على صياغة تراكم التداولات العالمية وإعادة توزيع الدخل الرأسمالي.
تداول “تخوميّ” ينطلق من مركزية الطبقات المجتمعية باتجاه الدول الأكثر رأسمالية. وتداول “مركزي” يتجه إلى داخل دوائر الطبقات المُستغَلة، تتحكم به ارتباطات قطاعي رأس المال.
وفي نقطة تقاطع المركزي والتخوم يتحكم الارتباط بين الصادرات (القوة المحركة) والاستهلاك (المدفوع) في إعادة انتاج النظام. أي إن النظام موجه للخارج بدلاً من الارتكاز على الذات. وبهذا فهو تابع لرأس المال التخوميّ[i].
كما لهذا التراكم شروط على المستوى العالمي، تحددها سياسات مختلفة وباختلاف البيئة. فتشدد في التخوم مظاهر نمو رأس المال وتضييق في المركز، وضمن أشكال متعددة من حرمان المادة، لينسج ذلك بدوره حبال مشانق تلتفُّ حول أعناقنا وتقطع عنا أوصال الحياة.
في طريق العودة، أسير باتجاه الجموع الموجومة حيث يحشر الناس أجمعون، احتشد.
أبحث عن وجه لي أجده بين دقات الوقت الميتة. ألجمه. انتظر المواصلات بهدوء. تتعامد الشمس فوق رأسي، فوق شاقولي. تشقّ رأسي وتضع فيه أغنية أم كلثوم “أنت عمري”. أغيب. ذبذبات صوتية تمسك بأذني، تنتقل بتراخي عصبي لتتجاذب وتملي عليَّ اللذة. نقف جميعاً مطربين، مكتظين. حبال مشانق ممتدة إلى الأعلى تختلط بين الغيوم، حبال مشانق ممتدة إلى الأسفل تختلط بين النفوس.
على حافة الرصيف، موظفون ينتظرون جنة البيت، طلاب جامعيون يبعثرون الأحلام على طرفي الطريق. ضجيج يخرجك من ملابسك ويبعثر حواسك، بسطات تبيع كل شيء، من كتب إلى أحذية.
صوتٌ بجهور عالٍ يملأ المكان، تتوقّف كلّ أصوات أم كلثوم المنبعثة من مسجِّلات تُجار البسطات. يطلب الصّوت: “وقفوا على الدور وبالدور”. يضيف: “شغّل الشّريط يا ابني”.
يعلو بالخلفية صوت الشيخ النابلسي. يتمتم الجميع، يعيد الصوت وبجهور أعلى: “من يملك الحسنات الكافية، فليركب التاكسي. ومن لا يملك حسنات كافية، فليصعد الميكروباص”.
يتسارع شوفيرية الميكرو: “ع جهنم… يلّي رايحْ على جهنم”.
أفتّش جيبي، أعدّ حسناتي، وأسير نحو الميكروباص.
طفلٌ صغيرٌ يهمس في أذن أمه: “عبالي لحمة”. تجيبه الأم: “كل هاللّحمة يَلِّي قْبَالَكْ، ولِسَّا إلَكْ نفس”.
ركام لحميّ يُحرّك هيكله، يتجّزأ إلى أفراد تلتصق ببعضها في الميكروباص. أكداس ملتحمة من الدهون تترصّد حوافك. مؤخرة تقف أمام وجهك، تحاول جاهدة إيجاد مكان للجلوس. تلتصق بوجهك. أخاف على حبل مشنقتي الجديد من التّلف. تخرج الحبال من شبابيك الميكروباص، تلتفّ فيما بينها، وتشتدّ جمعاً.رجل بعري طافر من الحياة، كرشه ملؤه الحزن يرفع يده متراخياً، يحكّ شعر إبطه، يتململ، يضع عينيه بتراخ عليك، وينظر إلى الظلام الذي حلّ فجأة. يتململ أكثر، يحكّ بيضاته محاولاً مناشدة غريزته الأولى، ينتهي بتراخي متلاحق ويضيف: عتم.
عتم، عتم… ظلام من كلّ صوب، ومن بعيد يصدح ضوء جهنّم، يلاحقه الميكروباص مستدلاً بوهجه معالم الطريق.
في كل هذا العتم، تدعو الرب راجياً: “يا ربّ ما تعمل خير هلق وتنزل مطر وتطفي جهنم”.
وعد قاسم (دمشق، 1991)